خطوات متثاقلة لفتاة صغيرة تذرع مئات الأميال عبر الجبال الشمالية في إيران، وتغوص عميقاً في الثلج بحذائها الخفيف المخصص للطرق الصحراوية المغبرة، ومع اقتراب طلوع الشمس تنجح عائلة مؤلفة من أربعة أشخاص بشق طريقها من خلال مشهد عدائي، باحثة بلهفة عن ملجأ، عن كهف يمكنها الاختباء داخله خلال النهار قبل مواصلة المسير ليلاً.
قد تشبه هذه القصة مشهداً في بداية فيلم درامي وثائقي آخر، لكنها قصة “سارا رهبار” الحقيقية ووالديها وأخيها الطفل حين فرّوا من إيران عام 1982 أعقاب الثورة الإسلامية التي حدثت عام 1979، حيث قرر والدا رهبار في المراحل الأولى من الحرب العراقية ـ الإيرانية (1980ـ 1988) الهرب، إثر استيلاء مسلحين إيرانيين على مبنى السفارة الأمريكية بطهران في شهر تشرين الثاني 1979، وتمزيق تأشيرات السفر التي كانت قد حصلت عليها العائلة التي اضطرت للخروج خلسة من إيران بعد بيع كل ما بحوزتها، ودفع المال لمهربين كي يأخذوهم إلى الحدود التركية، وبعد أسبوع تخلى المهربون عن العائلة، على الرغم من أن الاتفاق كان ينص على أن يقودوهم من قرية جبلية صغيرة إلى أخرى.
تتذكر رهبار فتقول: (تركونا للموت)، لكن لحسن الحظ عاد أحد المهربين لمساعدتهم: (كان اسمه علي.. وبقي طوال الرحلة معنا حتى عبرنا الحدود.. كنت أركب على ظهره مغادرة الجحيم إلى الجنة، تاركة إيران باتجاه الولايات المتحدة).
لكن لم تكن الولايات المتحدة أبداً المكان المثالي الذي وعدها به والديها، واصلت أمها العاملة الاجتماعية دراستها في الولايات المتحدة قبل اضطرارها للتوقف كي تفتح مطعماً إيرانياً مع زوجها الذي لم يستطع أن يكيف نفسه مع الثقافة الجديدة، وتتذكر رهبار شعورها بأن والدها لم يغادر إيران حقاً، إذ كان يسافر إليها دائماً، وقد حاول مراراً إقناع العائلة بالعودة معه، إلا أن والدة سارا قررت البقاء مع أولادها في أمريكا، وفي عام 2002 قرر والدها البقاء في إيران، وتتذكر الفنانة: (كان قلبي يتفتت إلى ملايين الشظايا، وكذلك كانت عائلتي وحياتي).
درست رهبار التصميم في “معهد الأزياء للتكنولوجيا” بنيويورك قبل أن تكمل في عام 2004 دراستها في “كلية القديس مارتن المركزية للفن والتصميم” بلندن، ومن هناك طارت إلى طهران للمرة الأولى منذ أن فرّت منها، ووصلت إليها أثناء حمى الانتخابات الرئاسية في عام 2005، تلك الانتخابات التي جلبت محمود أحمدي نجاد إلى السلطة، وقد وثقت رهبار الحدث من خلال عملها كمصورة فوتوغرافية.
بعد ستة أشهر عادت رهبار من إيران إلى نيويورك، وبدأت العمل على سلسلة الأعلام الرمزية التي تعرف بها الآن، ومن أجل تنفيذ " العلم 1" قطَّعت ومزَّقت رهبار أقمشة متنوعة مصدرها أسواق طهران، ثم خاطتها كما علم الولايات المتحدة، فغطّت الخطوط الحمراء والبيضاء، وكشفت عن النجوم الأيقونية أعلى الزاوية اليمنى.
نفّذت رهبار ( العلم 1) في ذروة السخط الدولي من إدارة الرئيس بوش، وبالتالي فإنه من السهولة إساءة تفسير العمل على أنه بيان ضد احتلال العراق، أما التقطيع والتمزيق فقد كان في واقع الأمر تنفيساً احتاجته طويلاً للتعبير عن خيبة أملها بسبب طلاق والديها، كما خاطت رهبار رموزاً من تراثها الإيراني على علم أمريكي، وذلك كناية عن الطريقة التي اضطرت لعيشها في بلد أجنبي حين كانت صغيرة، وعن الذكريات التي بقيت تحملها بعد ذلك.
قد يخطئ كثيرون حين يظنون أن النسيج المستخدم هو مجرد نسيج “شرق أوسطي”، مع العلم أن أغلبيته فارسي بالتحديد، فمثلاً )العلم 37# 2008) بعنوانه الفرعي “ستحملنا الريح إلى الوطن” يظهر تشكيلين معدنيين للأسد الفارسي، كالذي كان يظهر على العلم وعلى جوازات السفر الإيرانية قبل أن تتبنى الثورة علم إيران الحالي، في حين تشير عناوين فرعية أخرى بشكل صريح إلى سيرة حياة الفنانة، مثل “استخدم هذه المسافة لتنسى من أكون” في ( العلم 16 # 2006)، و"ذكريات بلا تذكر" في ( العلم 19 # 2008)، و"خسرنا كل ما كان علينا خسارته وسرنا تحت سماء بلا قمر" في ( العلم 41 # 2009)، ويحمل العمل الأخير صورة مطرزة للبيت الأبيض ولنسر أمريكي يحلق فوقه، وبورتريهات لجون كينيدي وروبرت كينيدي، وإلى جانب شارات الجيش الأمريكي الكتفية تغطي كلمة الشهادة “لا إله إلا الله محمد رسول الله” الجزء الأيسر من العلم، فيما ألصقت صليباً صغيراً أعلى الزاوية اليمنى.
إن هذا التجاور لرموز أيقونية مشحونة جداً في أعمالها يقترح العديد من التأويلات بسبب سيرتها الذاتية، فأعمال رهبار تشخِّص المشاكل السياسية المعاصرة، مثل الصراع الذي تخوضه الدول الغربية وعدد من الدول الإسلامية ضد الجماعات المتطرفة التي تعمل في غرب آسيا.
إن أعلام رهبار أكسبتها اعترافاً في عالم الفن في مدة زمنية قصيرة جداً، وهذا ما يشكّل عبئاَ ثقيلاً على مسيرة أي فنان شاب، تقول رهبار: (أنا جاهزة للمضي قدماً، جاهزة كي أنضج، وآمل أن يكون الناس مستعدين للنضوج معي)، وتضيف متطلعة نحو المستقبل: (أنا مستقرة في نيويورك لفترة، وأبني استوديو خاصاً بي، لكنني لن أكون قادرة على الإقامة في مكان واحد لأن ذلك ضد طبيعتي، لقد تجاوزت الحاجة للعودة إلى ماضيّ، إذ تمت الإجابة عن أسئلة ذاك الماضي، أنا في مرحلة جديدة في حياتي).
وعلى الرغم من أن سلسلة “الأعلام” كان محاولة من رهبار للتصالح مع تاريخها الشخصي، إلا إن مزاج العصر قاد جمهورها إلى اعتبارها فنانة ذات دوافع سياسية، ومن المفارقات أنه في الوقت الذي وضعت فيه رهبار حجراً على ماضيها، فقد أخذ عملها الجديد يحولها تماماً إلى الشخصية التي كان جمهورها دائماً يراها فيها، أي الضمير الحيّ لعصرنا.
في “سلسلة الحرب” (10-2008) تلصق رهبار غالباً أشياء عسكرية على حقائب الظهر العسكرية، مثل حافظات المسدس، والسّياط، وحافظات الماء، وفي أحد الأعمال “يأخذونا إلى حيث يشاؤون أن نذهب” (2010) يظهر قناع غاز غريب الشكل وسط حقيبة ظهر، تحيط به حافظات بندقية، وأحزمة أعيرة نارية متنوعة، ويسجل عمل رهبار وقائع التاريخ عاكساً صراعات عصرنا، وهي أحياناً حتى الآن ترغب بالتعبير عن الكثير، إلا أنها لا تعرف كيف تعبّر عن كل شيء، وتلك اللحظات تجعلها تشعر بالاختناق، وعن ذلك تقول: (لذلك بدأت باستخدام أقنعة الغاز)، وما عمل “سلسلة الحرب” إلا انصهاراً مؤثراً ومقلقاً لخلفية الفنانة، مع نظرة مسالمة أوسع على الأحداث الدولية المعاصرة.
وفي حين أصبح استخدام الأنسجة علامة رهبار المميزة، فإن إنتاجها يحقق توازناً مثالياً بين النداء الجمالي من جهة، وجعل الجمهور واعياً بالظروف الاجتماعية السياسية لعصرنا من جهة أخرى، ومع ذلك تظل رهبار تتذكر نفسها طفلة ذات سبع سنوات بدأت تلوّن لتعبّر عن أفكارها وعن مشاعرها، وعن هذا تقول: (بدأت مثل رسامة، ومازلت أشعر كأنني رسامة ـ فقط بأنسجة الحاضر).