حين كان الفنان الأندونيسي “دادنغ كرستانتو” البالغ من العمر الآن ثلاثة وخمسون عاماً؛ في الثامنة من عمره، تعرض والده للاختطاف أثناء الليل من قبل عصابات محمية من الجيش، ولم يره أحد بعدها، ويشرح الفنان: (كان والدي متعاطفاً مع الشيوعيين، لكنه لم يكن عضواً في الحزب)، وحتى يومنا هذا لايزال غير واضح لماذا انتقي “كرستانتو” الأب دون سواه، ولم يشفَ الفنان أبداً من هذا الجرح الذي لا يزال حاضراً في كل أعماله، بدءاً من اللوحات المنمنمة لرؤوس حية بلا أجساد، والباكية دموعاً من دماء، وصولاً إلى الأعمال التأملية ذات المواقع المحددة، والتي تؤدي بهدوء أدوار نُصب تذكارية لضحايا العنف بجميع أشكاله.
جلسنا في بيته بـ “فيرني هيلز” على أطراف شمال غرب "برزبين"، حيث الامتداد الحضري يزحف نحو الشجيرات الصغيرة، وشربنا شاياً يابانياً بلون نباتات السرخس الدقيقة، وأكلنا “سبرنغ رول” صنعتها زوجته، وقتها كان الطقس شتاء في نصف الكرة الجنوبي، ولكن بحلول التاسعة صباحاً ارتفعت الحرارة حتى 22 درجة مئوية، الحديقة كبيرة بالفعل، وملعب الغولف المتاخم للبيت يخلق وهماً بأن النباتات ممتدة نحو الأفق، يقطعها فقط زعيق الببغاوات.
يملك الفنان استديوهين اثنين، وينجز عمله بشكل أساسي في مرآب مزدوج مبني من الطوب الأحمر وسقفه صلب مموج، والمرآب معزول عن الطريق العام عن طريق امتداد درب فيه صالة عرض بيضاء مكعبة الشكل.
يبدأ “كرستانتو” عمله في الخامسة صباحاً، وهذا الوقت ـ حسبما يقول ـ أكثر أوقات النهار إبداعاً كما يمكن الملاحظة بسهولة، وفي هذا الوقت يملك الفنان القدرة على مواجهة الظلام والعزلة، وهما العنصرين اللذين يميزان إنتاجه، في الساعة السابعة يتوقف “كرستانتو” ليعد فطوراً لأطفاله، ثم يواصل العمل حتى الظهر.
في استديو المرآب ثمة لوحة “بورتريه” زيتية لمنظر طبيعي ممددة على مسند، وهي من الضخامة بحيث لا يمكن وضعها بشكل قائم في تلك المساحة، وإن هذا العمل هو جزء من سلسلة جديدة تعرض صور “كرستانتو” العنيفة المميزة، المصنوعة من قماش الباتيك الموضوع فوق قماش خام، وقد عرضت هذه اللوحات في شهر تشرين الثاني الماضي في معرض منفرد بصالة “دريل هول” في “كانبيرا” .
ومصدر قماش الباتيك المستخدم في العمل الجديد هو والدة الفنان التي تبلغ من العمر أربعة وثمانين عاماً، وهي لازالت تعيش في كيمانتران بجاوة الوسطى، ففي طفولة “كرستانتو” كان الباتيك يباع جنباً إلى جنب مع الرز والسكر والمواد الأساسية؛ في دكان العائلة الذي تديره أخته الآن بعد تقاعد أمه منذ زمن، ويوضح “كرستانتو” أن (كيمانتران ذاتها لا تملك تاريخاً كبيراً من قماش الباتيك، فمعظم التصاميم كانت منقولة من أقاليم أخرى في جاوة)، غير أن هذا النسيخ بزخارفه الكثيفة المتكررة، كان الوسيلة التي قدمت من خلاله الوالدة لابنها “كرستانتو” لغة الفن، أي النمط واللون والبنية، وقد قرر الفنان خلال إحدى زياراته لوطنه في كانون الثاني 2010، أن الوقت حان لاستخدام هذا المصدر المألوف، وعاد في النهاية من زيارته وهو محمل بأرطال من ذلك القماش، وعلى الرغم من أن الباتيك ظل مطوياً بعناية ومخزناً عدة أشهر في خزانة الاستديو، إلا أنه في النهاية بدأ يجد طريقاً إلى لوحات “كرستانتو”.
كان قد عاد “كرستانتو” للتو من اليابان، وأراني صوراً لأحدث أعماله التي ستعرض في مهرجان الفن الدولي في “سيتوتشي” “أصوات من أناس مختفين”، وهي سلسلة مكونة من ألف عمود خيزران طولها خمسة أمتار، ومثبتة في حقول الرز، وقد ثقب الفنان الخيزران، فإن هبت الريح صدر صوت صفير غير مألوف يشبه صوت الناي، وبسبب بقايا هذا العمل وأعمال نحت أخرى عديدة موضوعة في زاوية الاستديو يقول “كرستانتو”: (هذا العمل مزعج إلى حد أنه لا يمكن التفكير بإقامته هنا).
إن لوحات ومنحوتات “كرستانتو” نوع من تأمل لا ينقطع حول طبيعة الموت العنيف، والمعاناة التي اختبرها صغيراً ولن يتخلص من آثارها، لكن السلام الذي وجده في ممارسة عمله اليومي يسمح له بالتعبير عن نفسه ببصيرة ثاقبة، مواصلاً دائماً وصف ما لا يمكن وصفه.