يعدّ عمل (جهاد)/2006 للفنان العراقي المفاهيمي “عادل عابدين” ابن السابعة والثلاثين عاماً، عملاً خفيفاً خفة الفن الحقيقي الرائع، إذ يستخدم تلميحات جمالية من رسائل الجهاديين المصوّرة، أي التسجيلات التي تظهر فيها جماعات للإعلان عن مطالبها، أو مسؤوليتها عن هجمات ما، والتي أصبحت جزءاً من المفردات البصرية الكونية، ليُعمِل “عابدين” فيها هزلاً ولعباً بعد ذلك، رغبة في الإخلاص للشكل الفني المطلوب، والعمل ما هو إلا جدار ثُبّتت عليه لقطة واحدة، وكأنه نوع من التصوير السينمائي الذي تدور فيه الكاميرا وحدها من دون تدخل بشري، أما نهاية اللقطة بعثراتها المقصودة التي لم تصوّب فإنها تمنح المشهد عفوية محببة، ونشعر مع هذا العمل الذي لا تتجاوز مدته ثلاث دقائق ونصف أنه كان بإمكان الفنان إنجازه كله خلال نصف ساعة تحضيراً وتنفيذاً.
تبدو سردية العمل مألوفة، حيث يبدأ فيلم الفيديو برجل يلبس كوفية تغطي معظم أجزاء وجهه، ويشير بإصبعه نحو هدف ما، ويقرأ من ورقة مكتوبة بالعربية، وعلى الجدار خلفه علّق علَماً أمريكياً، وذلك في المكان الذي يتوقع فيه المرء أن يجد شعار منظمة أصولية، وهي الإشارة الوحيدة على أننا أمام رسالة غير مألوفة، بعد ثوان يبدأ الرجل بإلقاء الكلمات الإنجليزية لأغنية “وودي غوثري” الشعبية (هذه الأرض أرضك)/1940: “هذه الأرض أرضك/ هذه الأرض أرضي/ من كاليفورنيا/ إلى جزيرة نيويورك/ من غابة ريدود/ إلى مياه غولف ستريم/ هذه الأرض جُعلت لي ولك”، ثم يضع الرجل الورقة، ويمسك غيتاراً ليبدأ العزف والغناء بطبقة صوتية دافئة وخافتة وناعمة تذكّرنا بغرابة “بيت سيغر”، وهو أكثر المغنين ارتباطاً بالأغنية بعد "غوثري"، ويأتي هذا العمل بأدائه الحساس والحسن كميزة خاصة لعمل أمريكي نموذجي، يجعل الواحد يستمع بعناية إليه، ربما لأن بيت قصيد العمل يجيء صادماً في الثواني الخمسة الأولى من بدايته، والتي تنقل صورة رجل مسلم يغني أغنية عن الحرية الأمريكية.
ظهر (جهاد) للوجود في السنة الثالثة لما عرف في الولايات المتحدة بعملية “تحرير العراق” التي كانت فترة قاسية شهدت سقوط ضحايا كثيرين، وآخرين سيسقطون مستقبلاً، ومنذ أن بدأت الحرب بالتداعي تحت ذرائعها الواهية وخطابها العنجهي، فقد اضطربت دوافعها، وغلفها الغموض، كما بدأ الخلاف حول من كان مصيباً أو مخطئاً، وبينما يبدأ الجهادي بترديد أغنية حرية أمريكية، فإن هذا الغموض يصبح المرتكز العلني الوحيد للعمل، فصرخة الاستقلال الأمريكية التوقيع، وكذلك الرغبة باكتشاف وامتلاك وتمجيد الجمال في العالم، تتحولان إلى جشع وطمع جنونيين من خلال تجريد الأغنية بصوت أحد ضحايا تلك الروح الأمريكية الرائدة. وفي النهاية قد يطرح المرء تساؤلاته: من هو الإرهابي الحقيقي؟ ولمن تلك “الحرب المقدسة” التي يشير إليها عنوان "جهاد"؟
تلك أسئلة مهمة، إلا أن العمل لا يقدم إجابات عنها، فعابدين الملتزم بالحد الأدنى فقط من الإيضاح؛ يقدم لفتة إبداعية قائمة على اللامبالاة في (جهاد)، من دون الاهتمام الكافي بجدلية العمل وحلّها، في حين يتكفل أسلوب العمل بتوضيح رسالته.
يكشف إنتاج “عابدين” الارتجالي لفيلم فيديو فني وعلى طريقة أفلام “يوتيوب” عن نوع من التعفف النقيّ الملهم، فمقطع الأغنية “هذه الأرض جُعلت لي ولك” يحمل مفاهيمَ أكثر إرباكاً من أن تشرح، وهي: كيف نقتسم تلك الأرض؟ وأين نرسم الحدود؟ وكيف نوازن بين رغبتنا في التملك وحاجات ورغائب الآخرين؟ جميلة هذه الأغنية الأمريكية التي تدور حول تقرير المصير، غير أنها تفتقر إلى العمق اللازم لتوقع ومواجهة الجشع والعدوان والتعصب، لذلك يبدو (جهاد) غير مطبوخ بعناية، لأن “عابدين” يعرف أنه لا جدوى من الدخول في نقاش حول الاستحقاق1، ومن المصيب ومن المخطئ، كما لا يبدو أنه مهتم بإيصال فكرة أن هذه القضايا يمكن حلها أصلاً.
إن الكتب المقدسة والتاريخ والإيمان قوى قديمة ومتماسكة في مسيرة التطور الإنساني، لكن ما يغيب فيها هو التفسير القطعي لموضوع الاستحقاق، إذ يستحيل أن ندرك تماماً السبب الذي يدفع قائداً ما لغزو شعب آخر وقهره، ويصعب علينا أن نحدد بدقّة اللحظة التي يقرّر فيها مجتمع ما أن يدعي التملك والسيطرة على شعب آخر، وبما أن الاستحقاق ليس منطقياً، فإن هذا العمل السياسي البسيط يساعدنا على بلورة تلك الفكرة من خلال تجنب محاولة عقلنة الاستحقاق أو توضيحه، وهذا كل ما يفعله (جهاد) بدعابة مرحة، وهذا أيضاً كل ما يجب عليه فعله، إذ لا يمكنه عقلنة الاستحقاق، وفي زمن الحروب بكل صدماته النفسية المصاحبة له عليك حمل هذه الرسالة البسيطة معك أينما ذهبت.
1 Entitlement