يعتبر “هو تسو نيين” دارساً حذراً ويقظاً للتواريخ المهملة، وقد كتب عام 2008 مقالاً مطولاً استطرادياً في (منتدى الفن والمجتمع المعاصرين) تعقّب فيه قصة “كيف تم دمج القطط ـ كبيرها وصغيرها، بريَّها ومدجنها، حقيقها ومتخيلها ـ بشكل مبهم في تاريخ سنغافورة”، ويتعقب “نيين” في مقاله الطرائق التي لعبت فيها فصيلة السنوريات ـ وخصوصاً الأسود والنمور ـ دوراً بارزاً فوق العادة في تاريخ وطنه، سابراً في طريقه غور ركام كثيف من الإحالات إلى السياسات الكولونيالية، وعلم الأمراض، وسياسات هويّة بناء الوطن.
وعلى الرغم من أن سرد تاريخ سنغافورة المعتمد رسمياً ينزع إلى إبراز ماضيها الاستعماري البريطاني و"تأسيسها" عام 1819 على يد السير “ثوماس ستامفورد بينغلي رافيلز”، فإن هناك قلة من المصادر الموثوق بها التي توثق للتأسيس قبل استعمار البلد، وحسب إحدى القصص التي ترجع إلى منتصف القرن الرابع عشر، فقد وصل أمير سومطري يدعى “سانغ نيلا أوتاما” إلى شواطئ جزيرة ما، ورصد وجود حيوان غريب، فخمّن مساعده “ديمانغ ليبار داون” أنه أسد (غير أن مصدر هذا التخمين يبقى مجهولاً)، وهكذا قرّر الأمير تسمية الجزيرة "سنغابورا"، و"سنغا" تعني أسد، و"بورا" مدينة.
وقد كانت حكاية التأسيس الأسطورية موضوع أحد أعمال “نيين” الأولى، وهو ( أوتاما: كل اسم في التاريخ هو أنا)/2003، وقد عرض هذا العمل بداية في “سبستيشين” المنظمة الفنية السنغافورية غير الربحية، ويتكون العمل من فيلم فيديو مدته 22 دقيقة يصور المستكشفين، ومن سلسلة مكونة من 20 لوحة لتلك الشخصيات التاريخية، وقد لعب فنان الصوت السنغافوري “ذوالكفل محمود” دور الأمير “أوتاما” في فيلم الفيديو، في حين ذهبت شخصية رفيق الأمير الساخر “داون” إلى الفنان والمؤدي “رزمان بوترا” الذي سجّل أيضاً التعليق المصاحب للفيلم بلغة الملايو، وبينما نرى سحباً من الضباب تنجرف عبر الشواطئ المخضرّة للجزيرة المدارية غير المكتشفة بعد، فإن “نيين” يتأمل في نسب “أوتاما” من خلال تفسيرات معقولة وغير معقولة لأصول هذا الأمير الأنيق، فهل تحدّر من سلالة الأمير المالاوي الهندي “اسكندر شاه”؟، هل هو قريب بعيد للأميرال الصيني “زينغ هي”، ومن خلال الفيلم يتم تقديم تصاوير مختلفة للأمير ومرافقه، مصاحباً ذلك ظهور مستكشفين ومستعمرين آخرين من أوروبا وأمريكا وآسيا، مثل “كريستوفر كولومبوس”، و"فاسكو دي غاما"، و"الكابتن جيمس كوك"، و"ألكسندر الأكبر"، و"يوليوس قيصر".
وبينما يجاور ( أوتاما) زمنياً بين شخصيات تاريخية لم تلتق في الحقيقة، ويغلف كلاً منها صيتها الأسطوري الخاص، إلا أن الفيلم لا يسعى لتبني سيرهم أو دحضها، بل هو مجرد محتوى يهدف إلى محاكاة تشييد التواريخ الغامضة، ويخلو من إصدار الأحكام، واضعاً ـ في المستوى ذاته ـ قصصاً رسمية، ومصادر مشكوكاً بها، وكذلك تكهنات خيالية، وعلى خلفية لقطات معبّرة لما كان يوماً شواطئ سنغافورة النقية والمضاءة بالضوء الأبيض الذي يكثر في خطوط العرض المدارية، حيث يظهر طاقم من شخصيات هزلية متنافرة، ترتدي أزياء مرحلتها التاريخية، أدّاها جميعها “محمود” و"بوترا"، وكما قال “نيين” فإن الفيلم ببساطة هو “محاولة لاستحضار طيف (أوتاما)، وهو في نهاية المطاف فيلم عن تشابك التاريخ بالأسطورة، واستحالة الحقيقة، وتزعزع كل البدايات”.
ربما يكون عنوان الفيلم الفرعي (كل اسم في التاريخ هو أنا) مفتاحاً آخر لفهم إستراتيجية “نيين” الذي يقول عنه إنه مستوحى من كتابات “نيتشه” الأخيرة، حين كان قريباً من الجنون. والعبارة تقترح معقولية كل الفرضيات التي يستكشفها الفيلم، من خلال سعيها لإبطال البحث المضني عن هوية فردية وحدوية كما تعززها كتب التاريخ، ويأتي سرد الفيلم المشؤوم والمقدم بهزل ليجعل من المستحيل معرفة ما إذا كان يقصد بهذه التكهنات شيئاً آخر غير حس السخرية المرافق لها، وما كل تلك الشخصيات والتفسيرات المصاحبة لها إلا ثرثرة فوق محيط يدور حول جزيرة أسّست وأعيد تأسيسها مراراً وتكراراً، عاكساً الشكل الساحر لعمل الخيال المتأصل في جميع أشكال كتابة التاريخ.
ينتهي الفيلم نهاية سريالية بارعة بطيئة الحركة، حيث يقوم الممثلون بالقفز من سياقهم التاريخي إلى سنغافورة الحاضر، ليترنم الراوي قائلاً: “وهكذا لن يجد من يسعى نحو الحقيقة سوى الصورة والسراب والمشهد”، ثم تنقلنا الكاميرا إلى لافتة تقول “مشاهد” في زاوية شارع يبعد خطوات عن تمثال السير “ستامفورد رافيلز” جانب النهر، وتتكشف الحكاية بعدها عن تلاعب أزيائي، إذ يظهر فجأة “أوتاما” و"داون" بملابس عصرية، ويقومان بقيادة مرحة لمسيرة صغيرة من العربات المتجهة من تمثال “رافيلز” إلى “ميرليون” الأيقونة الوطنية المخترعة الأخرى، والتي لها رأس أسد وزعانف سمكة، وقد نصبت مثل تمثال يزن 70 طناً، لكن التمثال لم يشيد إلا في عام 1972، في حين تم تخليد اسم “رافيلز” بأعداد هائلة من السياقات المرموقة التي تبدأ بأحد أقدم فنادق سنغافورة الفخمة الكولونيالية، ولا تنتهي بمدارس النخب الخاصة وبنوادي البلد الحصرية، أما أسد “أوتاما” فقد فرض عليه أن يقاسي مصيراً شائناً تمثل في تبنيه من قبل حملة صناعة صورة أطلقها مكتب السياحة في البلاد، وعلى الرغم من أن غموضاً وضباباً يلفان أصول ذاك الوحش الذي يفترض أن يكون ( أوتاما) قد “اكتشفه” فإن نوعاً من التسليع يتم دائماً للأيقونة السياحية المعاصرة التي بنيت عليه، باعتبارها جزءاً من تراث سنغافورة المحلي الغرائبي، فتظهر في كل الأشياء، بدءاً من علب الشوكولا في محال الهدايا، وانتهاء بالديكور الداخلي للمطاعم سنغافورية الطابع في الخارج.
وبقدر ما كان ( أوتاما) هو محاولة “نيين” للكشف عن الجوانب المخفية للتاريخ الفلكلوري الذي تم حجبه أو تجاهله ببساطة على يد تاريخ سنغافورة الرسمي الحديث، فإن الفنان يرفض ـ في الوقت ذاته ـ الاتجاهات التي لا تقدم سوى استغلال أفكار الهوية القومية أو الإقليمية، أو على الأقل أولئك الذين يشدّدون على هذه القضايا كموضوعات فنية كبرى، وتعكس الخلفية الأكاديمية للفنان وصانع الأفلام هذا، والبالغ من العمر 35 عاماً، تأرجحه، واهتماماته مترامية الأطراف. وعلى الرغم من أن شهادته في الماجستير التي حصل عليها عام 2007، كانت حول دراسات جنوب شرق آسيا من جامعة سنغافورة الوطنية، فإنه كان قد درس البكالوريوس في الفنون الإبداعية وشبكات الاتصالات في كلية الفنون الفيكتورية بجامعة "ميلبورن"، لكنه ما لبث أن استاء من المقرر الدراسي، واختار عوضاً عنه نوعاً من التعلم الذاتي في السينما، فهضم أفلام مخرجين أوروبيين مثل “غودار” و"أنطونيوني" و"فيليني"، كما درس “نيين” الفلسفة والدراسات الثقافية، بما فيها مابعد البنيوية الفرنسية، مع هوس خاص ومتكرر بـ"نيتشه" الذي ظهر جلياً في فيلمه القصير (زرادشت: فيلم للجميع ولا لأحد)/2009، الذي مثّله طلاب من كلية “لاسال” للفنون التي يدرّس فيها "نيين"، وكان الفيلم اقتباساً حراً لرواية “نيتشه” الفلسفية (هكذا تكلم زرادشت: كتاب للجميع ولا لأحد)/1885-1883.
لكن التقدير الفطريّ لأعمال “نيين” لا يلزمه أن يتتبع كل هذه الإلهامات والمرجعيات المتنوعة، وعلى الرغم من أننا تطرقنا إلى مقارنات رصينة بين أعماله وأعمال كتاب ومخرجين وفنانين آخرين أثناء حديثنا معه في آذار/ مارس، فإن “نيين” لا يمل من التأكيد على أن: “الكشف عن المرجعيات ليس أمراً أساسياً في أعمالي، فأنا أسعى دائماً لإنتاج عمل لمتلقٍّ خيالي قد لا يملك أي معرفة بهذه الإحالات، وهذا هو الوضع الأسمى، على الرغم من لا واقعيته طبعاً”.
إن هذا المدى المذهل من المرجعيات الثقافية يتضح في فيلم “نيين” (أرض “راديو”)/2009 ، الذي تبلغ مدته 42 دقيقة، وقد عرض في قسم الأفلام القصيرة في مهرجان “البندقية” السينمائي عام 2009، ويتكون الفيلم من ثلاث لقطات طويلة لكاميرا تدور أفقياً وعمودياً ببطء شديد، كاشفة عن ركام من الأجساد البشرية التي يبدو أنها تكوّمت في أعقاب كارثة غير محدّدة، إلى جانب مجموعة متشابكة من الأسلاك والكابلات، ورزم من منصات خشبية، وصناديق ورق مقوّى، وسمك نافق، وأنابيب فلوريسنت مضيئة، ثم تبدأ بعض الأجساد بالتحرك تدريجياً، والمشاهد التي تتكشف بعدها تحمل تشابهاً مميزاً مع لوحات دينية شهيرة، فتعرض إحداها رجلاً يغرز إصبعه في صدر مجروح لضحية أخرى ليتأكّد إن كان مايزال على قيد الحياة، وهي إحالة مباشرة إلى (شكوكية القديس توما)/ 1902-1601 لـ “كارافاجيو” التي تصور كيف كان على “توما” أن يلمس جراح اليسوع قبل أن يستطيع أن يؤمن بقيامته المعجزة.
ومن جانب آخر فقد استوحى الفيلم إخراجه الفني وتكوينات بعض مشاهده من رسامي مابعد الثورة الفرنسية، مثل “ثيودور غيريكولت” الذي تصور لوحته (طوف ميدوسا)/ 1818 ناجين من حطام سفينة وهم يتعلقون بيأس بطوف منجرف في بحر عاصف، وكذلك “ديلاكروا” الذي تأثر كثيراً بلوحة “غيريكولت” في عمله (مذبحة تشيوس)/1824، وقد تعاون “نيين” مع مسرحيين محترفين لتحقيق تأثيرات ضوئية منسقة بعناية، بالاعتماد على الـ “كياروسكورو” الدرامي الذي يظهر في لوحات لـ " كارافاجيو" و"رمبرانت".
وإذا كان فيلم (أرض) بصوره وأيقوناته متأثراً إلى حد كبير باللوحات الأوروبية في نسختيها الفرنسية والإيطالية، فإن موسيقاه التصويرية مستوحاة من مصدر خاص آخر هو مجموعات موسيقى الروك الأساسية من سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي التي تربّى جيل “نيين” على سماعها، وتتناثر هنا وهناك في موسيقى الفيلم مقاطع ومقتطفات من أشهر الأغاني التي كانت تتصدر قائمة المائة في مجلة "بيلبورد"، لفرق “Guns N’ Rose”، و"Queen"، و"Metallica" و" Def Leppar"، وفي أحد المشاهد نرى يداً تتشبث برأس منفصل عن جسده وتهزه ببطء صعوداً وهبوطاً، ما يجعله يومئ على خلفية أغنية “Beat it” لمايكل جاكسون، والتي تبدأ بالتباطؤ إلى أن يتلاشى صوتها تقريباً، الأمر الذي يُحدث أثراً بائساً وشنيعاً في ذات الوقت، فبالإضافة إلى استحضار لوحة (داود وجالوت)/1599 لـ "كارافاجيو"، فإن المشهد يثير أيضاً عذاب الشعور بالموت البطيء، إلى جانب البعث الفانتازي للمخلوقات الميتة الذي كان شائعاً في سلسلة أفلام (زومبي) في السبعينيات.
ولدى سؤال “نيين” حول ما إذا كانت هذه الإحالة الأخيرة مقصودة، فقد أجاب بفطنته المعهودة: “تجميع العينات ـ أي إحياء أشياء من الماضي ـ هو نوع من فعل (زومبي)، ثمة حنين غامض لها، إضافة إلى شعور ما يشي بالخراب”، وإذا كان الفيلم يعقد علاقات مباشرة مع أعمال من فترات وسياقات جغرافية بعيدة، فإنه أيضاً منسّق طبقاً لإحساسه الخاص بالزمان والمكان، يعززه استخدام “نيين” للقطات كاميرا بطيئة وعينات موسيقية متلاعب بها تخفي أصولها الحقيقة، وتخلع عنها ألفتها، وعن ذلك يشرح الفنان: “حين تستمع لهذه الأغاني، فإنها تفتح تلقائياً بوابة للماضي، ولأنه تمّ إبطاء كل هذه العينات، فإن عملية التعرف عليها تأخذ وقتاً”.
كما ينوّه الفنان أيضاً للأثر المتفشي في فيلمه لموسيقى “الميتال” بأنواعها “درون، ودوم، وبلاك”، الموجودة في أعمال فرق مثل “Sunn O”، وفي هذه الأنواع الموسيقية تجتمع الترددات المنخفضة جداً وانعدام الطرق الإيقاعي ودرجة الصوت العالية، لتخلق تجربة جسدية مميزة تخدّر الحواس، “محولة الجسد فعلاً إلى أذن عملاقة” كما يقول "نيين"، وبالمقارنة مع الأثر الهادئ الذهني نسبياً الذي تمنحه أغلب الفنون البصرية، فإن (أرض) يسعى ليدس تجربة أكثر جسدية وعضوية بموسيقاه، والمخاضات المعذبة لركام أجساده، وقد شكلت ليلة الفيلم في “أرت سبيس” سيدني في أستراليا في كانون الثاني/ يناير واحداً من أنجح عروضه، بمصاحبة معزوفات غيتار حية يملأها التشوّش، أدّاها الموسيقار الأسترالي “أورن أمبارشي”، فزادت من حدّة جسدية التجربة.
إن هذا النزوع نحو الإثارة المتدفقة العميقة للحواس يظهر ثانية في الفيلم الآخر المهم لـ “نيين” (هنا)/2009، والذي اختير للعرض في قسم “أسبوع المخرجين” الرفيع في مهرجان “كان” السينمائي في السنة ذاتها، ويحكي الفيلم قصة مرضى نفسيين في مستشفى “الجزيرة” بأسلوب الوثائقية الساخرة، حيث يقوم المخرج غير المرئي بمقابلة المرضى، وسؤالهم عن حياتهم، ورأيهم في برنامج إعادة التأهيل، وذلك بعد أن حصل من كل واحد منهم على تواقيع تقرّ بمشاركتهم الطوعية في ذلك الفيلم الذي يظهر متعدد الطبقات، ويوثق ببراعة التقدم في طريقة المعالجة النفسية بأفلام الفيديو التي كانت تجرّب على عدد من نزلاء المستشفى، وتنطوي هذه الطريقة التي يبدو أنها مستوحاة من كتابات الطبيب النفسي الفرنسي “فيليكس غواتاري” على أن يعيد المرضى تمثيل مشاهد من ماضيهم (وعادةً ما تكون الأفعال الإجرامية التي حوكموا بسببها)، ومن ثم الوصول إلى نهاية مختلفة أكثر سعادة، ثم يعاد عرض لقطات هذه النهايات المختلفة على كل مريض في السينما، بحيث يحضر العرض النزلاء للتشجيع وتقبل هذا الفعل المكفّر عن الذنوب.
ويبدو الفيلم في مستواه الأساسي صورة كاريكاتورية سطحية لعدة مؤسسات سنغافورية، فيما يعتبر مستشفى “الجزيرة” إحالة واضحة لسنغافورة ذاتها، وفيها يلقى المواطنون الرعاية والمرافقة الدائمتين على يد “الساهرين” عليهم بلباسهم الأبيض، وهو اللباس غير الرسمي لحزب العمل الشعبي الحاكم الذي قام أعضاؤه بالاعتناء بإخلاص بـ “أجنحة” وطنهم منذ الاستقلال في عام 1965، وحين سئل “نيين” عن هذه التشبيهات المحلية المحددة أجاب: "إن مستشفى “الجزيرة” كانت مجرد طريقة فظة أمكنني من خلالها أن أمسرح تجربة سنغافورية مسطحة، وينتمي (هنا) إلى نوع أفلام المستشفيات النفسية، وقاعدة هذا النوع من الأفلام أن المستشفى ما هو إلا صورة مصغرة عن المجتمع بأسره".
وقد صوّر الفيلم في مرفق نفسي حقيقي مهجور في “فيو رود” بالقرب من مقاطعة “وود لاندز” شمال سنغافورة، وإذا كان المستشفى النفسي كناية عن سنغافورة، فإنه أيضاً بديل حرفي مادي يسمح للمخرج أن يمسرح ويعيد خلق خصائص بيئية محددة لهذه الجزيرة المدارية وطقسها الخماسيني، ويظهر الفيلم وكأنه مطهر سنغافوري حقاً، بسكانه العالقين في دوار دائم ينتج الوهج، ومشهد البناية بتخطيطها المفتوح وبممراتها الطويلة المهوّاة وبجدران الطوب التي تتخللها كتل التهوية ـ أي كتل البناية المحتوية على ثقوب لضمان عملية تهوية ميسّرة ـ والمتموقعة ضمن فسحة خضراء رطبة من الطبيعة، تعذب المشاهد من خلال دفعه للتفكير في التأثيرات السيكولوجية المحتملة لطقس ومناخ محددين كهذا.
وبرأي “نيين” فإن عمل (أوتاما) يشتغل بحذق وتكثيف على عدة مستويات مختلفة، متخذاً من الحديث ظاهرياً عن الفلكلور المحلي والتاريخ ذريعة لمقاربة أسئلة كونية أكبر عن التخييل وعلم التاريخ، فيما يحقق (هنا) فعاليته القصوى حين يخلط الوثائقي بالخيالي، وبمواضيع بعيدة المدى بشيء يمكن وصفه بـ "الجو"، ومما يقوله لنا “نيين”: “إن أكثر ما شدّني إلى (هنا) كان محاولتي لبناء إيقاع في الفيلم يعبر عن كيفية شعوري في واحدة من تلك الظهيرات الكسولة الحارة الرطبة في سنغافورة، وينقل ذلك الشعور على مستوى الجهاز العصبي للشخص”، حيث يعكس الفيلم الإثارة والخمول الكامنين في الحرارة المدارية، ليس فقط من خلال مؤثراته البصرية، بل أيضاً من خلال موسيقاه التصويرية التي صُممت وهُندست ومُزجت على يد الموسيقار السنغافوري “جورج شوا”، لتلائم بصورة خاصة بيئات أنظمة صوت 5.1 في دور السينما، وفي محاولة للإشعار بتجربة سينمائية كاملة تصل إلى حواس المشاهدين، فإن الموسيقى التصويرية تعلو وتهبط من خلال مجموعة كاملة من الترددات، وكما يقول “نيين”: “أحب الترددات المنخفضة حين تسبب اهتزازاً في الهياكل المعدنية لدور السينما، وتصدر صوتاً رائعاً”.
وبعد أن أصبح لـ “نيين” مريدون كثر في صفوف كل من هواة السينما الفنية النخبوية، ودوائر الفن المعاصر بسبب هذين الفيلمين، فهو يعمل حالياً بالتحضير لعرضين مهمين لنهاية هذا العام، بالإضافة إلى عرض منفرد سيفتتح في متحف “موري” للفنون بطوكيو في شباط/ فبراير العام القادم، كما سيمثل الفنان سنغافورة في بينالي “البندقية” في حزيران/ يونيو بعمله (غمامة اللامعرفة)/2011، وهو فيلم فيديو وإنشاءة صوتية تدرس الغمام باعتباره فكرة فنية تاريخية تجسّد العرضية والفراغ، أو الظاهرة العصية على التمثيل تماماً، كما هو الحال في لوحات الطبيعة الصينية، ويعتمد الفيلم ـ مثل سابقه (أرض) ـ على مجموعة واسعة من الإحالات إلى لوحات أوروبية لـ “إل غريكو”، و"فرانشيسكو زورباران"، و"جون كونستابل"، لكنه يوسّع استكشافاته أيضاً في محاولته دمج الصورة بالصوت بهدف استحضار أحاسيس متنوعة.
وبالصدفة فقد يكون الغمام مجازاً مفيداً لفهم مجمل أعمال "نيين"، فهذه التجمعات الكثيفة من الجزيئات التي يتغير شكلها باستمرار مثل الهويات المتعددة المائعة في (أوتاما)، أو التي تحوم دائماً وكأنها ضباب كثيف من الضجيج الرتيب في (أرض)؛ تتوسّط باستمرار حالة من الإرجاء الدائم، عصية على النهايات أو الحلول المتقنة، لكن أفلام “نيين” تمنح المشاهدين تجربة شفافة غير معتادة يمكن فهمها على عدة مستويات من دون أن يحجب أيّ من هذه النماذج التفسيرية النموذج الآخر أو يغلبه، فالحالة بكلمات “نيين” هي “نوع من الكثافة التي تلغي نفسها بنفسها”.