إن “النحت الاجتماعي” ـ المصطلح الذي وضعه “جوزيف بويس” في ستينيات القرن الماضي ـ شجع على احترام الفن المصنوع في مواقف، وليس فقط الفن في الأشياء، كما أن مفهوم “بويس” للفن القائم على نموذج كلي شامل ومشارك ومتعدد الأبعاد يفترض ضمناً أن الفن لا يعمل خارج السياق، وتأتي صالة عرض “النحت الاجتماعي” لـ “أنا شفارتز” بأعمال مختارة لسبعة فنانين أستراليين أو مقيمين في أستراليا، وذلك لتبني علاقة الأخذ والعطاء بين العمل والمحيط والمشاهد.
وبحسب مقالة قيِّمة المعارض “شارلوت داي” الموجودة في دليل المعرض؛ فإن مصطلح النحت الاجتماعي “أقل مثالية من الناحية السياسية، ومع ذلك يبقى سعياً بطولياً غاية في الأهمية”، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الأعمال المعروضة في الصالة بدت لا بطولية بقصد؛ فإن هذا الرأي يظهر طريفاً، فقد صُنعت تلك الأعمال من مواد بسيطة، وقُدمت بطريقة مرتجلة وبأساليب لعوبة مرحة، مثل طلب الاتصال استجابةً لتعليمات مكتوبة، أو قياس أوزان غير مرئية، أو أخذ دور تطوعي في أداء لأحد الفنانين، وذلك لتحويل الجمهور العادي إلى مشاركين بدل أن يكونوا متفرجين، لكن هذا في النهاية ليس عملاً بطولياً تقليدياً.
وإن أحد أكثر الأعمال المعروضة شداً للمشاهد كان أيضاً أحد أصغرها حجماً، وهو عبارة عن شاشة بالغة الصغر تعرض فيلماً للفنانة “كيت ميتشل” وهي تحمل رجل أعمال على ظهرها في طريقها إلى العمل، وذلك في عمل آسر حمل عنوان (ضائع نوعاً ما)/2011، حيث تعرض لقطات الفيلم امرأة شابة تحمل رجلاً متقدماً في العمر، ومرتدياً بدلة رسمية، بما في اللقطات من أثر ساخر ومربك معاً يقلب مفاهيم النسوية، ويعني العمل أن تكون فناناً مكافحاً اليوم، وثمة جاذبية شديدة في ذلك العمل، فكلما ضحك المشاهد أكثر زاد شعوره بعدم الارتياح، وسريعاً يبدأ بالتساؤل عما كان يفكر فيه المشاركون في العمل الذين استجابوا لإعلان “ميتشل” في الصحيفة بحثاً عن متعاونين، فإذا كان الفيلم نكتة فممن يسخر؟ وإن لم يكن فهل هو كناية لاذعة عن الأدوار بين الجنسين في المجتمع، أو هو عن شيء أكثر مكراً؟ أو ربما كلاهما معاً؟
وهناك عمل آسر آخر قدمته “لورين برينكات” في فيلمها (اسمعوا هذا)/2011 الذي يُظهرها وحيدة في الاستوديو الخاص بها في برلين وهي تتحدث من خلال الهاتف مع أمها في أستراليا، ويظهر الهاتف مصنوعاً من شرائح البطيخ ـ الضيافة المستوردة وغالية الثمن في ألمانيا ـ فيما الفنانة تلتهم أجزاء منه وهي تتحدث، وكأنها ـ حرفياً ـ تأكل كلماتها بنوع من اللعب الكوميدي، لكن المثير للشفقة يكمن في فكرة الحنين للوطن، ويضم المعرض أيضاً عدة منحوتات للفنانة، ومنها (المائدة الجيدة)/2011، وهي عبارة عن طاولة تِنس يمكن أن تستخدم أيضاً كمائدة طعام بسطحها الزجاجي، وعن أقدام نحاسية صغيرة بشكل أجراس، حيث يضعنا هذا العمل في حيرة ونحن نحاول الاهتداء لمعناه، حاله في ذلك حال الكوبرا المحنطة الموجودة إلى جانبه، والمأخوذة من إنشاءة مستقلة عنوانها ( السريع والميت)/2011، حيث تبدو الطاولة فيها غريبة ومربكة في آن معاً، مع ما تحمله من ديكور الموضة الشرقي الغامض بصراحته، والمرتبط بنمط عيش بيوت الضواحي في سبعينيات القرن الماضي، ويشير ذلك العمل إلى الانفصام بين العادي والمقدس، وهي الفكرة التي يثيرها دائماً مصطلح “النحت الاجتماعي”.
فيما اهتمت بعض الأعمال الأخرى الموجودة في صالة العرض ذاتها، بخصائصها المكانية مثل الحجم والوزن، وبأثاثها مثل الأعمدة والقواعد، فعلى سبيل المثال يقود عمل (النص)/2011 للفنانة “أغاثا غوثيه- سناب” الزوار إلى خط أصفر لامع، وإلى نص جداري صارم يرشدهم كي لا يتجاوزوا الخط، ولا يلمسوا العمل الفني، وعلى الرغم من أن تجاوز الخط لا ينتج عنه أية تداعيات حقيقية، إلا أن العمل بحد ذاته يحمل بذوراً حول الانتهاك: بطولة خرق القواعد.
أما عمل “لاريسا كوسلوف” (تمرين على خفة الحركة)/2011 وهو بشكل سباق حواجز مرمّز لونياً، فقد جاء مشتتاً وسط صالة العرض، مما يجبر الزوار على تفاديه أو المشي خلاله، والحواجز مصحوبة بفيلم فيديو يعرض مشاهد للفنانة وهي تقود مؤدياً من خلال الحواجز قيادة نافرة طرفاً طرفاً بأسلوب تجميد الصورة الفوتوغرافية، ويدفع العمل المتلقي للتفكير في عملية الفن ذاتها بما تحمله من حواجز ومزالق، وفي الفنان/ الرياضيّ أيضاً باعتبار أن كليهما شخصاً يتمرن نحو النجاح أو نحو الفشل.
إن صالة العرض تقدم مختارات مثيرة لأعمال مجموعة فنانين تطرح تساؤلات حول دور الفن في عالم اليوم، وهي ـ في إثارتها للتفكر ووعيها بالمكان حولها ـ تتعامل مع الفن باعتباره جزءاً من الحياة اليومية، وليس طريقة لسلخ الإنسان منها، وربما يكون هنا مكمن البطولة، ومسعى هذا المعرض: أعمال يومية غيرمعتادة بدلاً من الإيماءات السلطوية الكبرى.