P
R
E
V
N
E
X
T
77_features_wangguangyi_1985_web_1000

Frozen Northern Wastelands, 1985, oil on canvas, 150 × 100 cm. Collection of the artist.


Weather Report, 1989, oil on canvas, 150 × 120 cm. Private collection. Courtesy the artist.

Post Classic: Death of Marat, 1986, oil on canvas, 166 × 116 cm. Private collection. Courtesy the artist.

Sketch for Mao Zedong: AO, 1988, composite materials, 80 × 120 cm. Collection of the artist.

محاورة الرموز

وانغ غوانغي

Features from Mar/Apr 2012
China
Also available in:  Chinese  English
يعدّ “وانغ غوانغي” أحد أبرز وجوه الفن المعاصر عالمياً، سيما وأنه يحظى بصيتٍ مميزٍ يجمع بين فنٍ طليعي كبير، ونجاحِ تاجرٍ باهر.

قد يرى البعض تناقضاً في هذا التوصيف، لكنه التناقض الذي ما فتئ “غوانغي” يبشّر به، وهو الذي طالما احتضن فنه عناصر متنافرة ظاهرياً مثل: الطاوية وثقافة البوب، الشيوعية والرأسمالية، المسيح وماوتسي تونغ، وذلك بهدف تجاوز اختلافاتها والكشف “منطقياً” عن تقارباتها.

يحظى “غوانغي” هذه الأيام بمكانة نجوم الروك، بما يلازمها من الغنى المادّي والراحة وإعجاب الجماهير، وهو يعيش دوره هذا تماماً بشعره الطويل، وبلحيته الكثّة، وبمعطفه الجلدي، وبسيجارٍ لا يفارق فمه، وسيبدو هذا الصعود المبدع إلى النجاح أكثر استثنائية إذا تذكرنا أن “غوانغي” كان قد ولد سنة 1957 لأسرة فقرها مدقع، وفي مجتمع شمولي كان يغلي اضطراباً وهيجاناً.

لعب والدا “غوانغي” دوراً أساسياً في لجوء ابنهما إلى عوالم صوفيّة وغرائبية، فعملُ الوالد في سكة الحديد كان قد منح الصبيّ فرصة كي يذرع مناظر طبيعية متباعدة، ناظراً إليها من وجهة نظر شباك القطار الرومانسية، وعن ذلك يقول الفنان: (كانت سكة الحديد بالنسبة لي رمزاً للبعد، وفي طفولتي كنت غالباً أستقل القطار برفقة والدي إلى أراضٍ غير مألوفة، مما عزز حب الاطلاع لديّ).

إن إلهام الخارج هذا جاوره إلهام بيتي تمثل في أعمال (زهور النوافد)، وهي قصاصات ورقية كانت والدته تزين بها الألواح الزجاجية لبيتهم المتواضع في “هاربن” أو “مدينة الجليد” ـ كما تسمى ـ الواقعة شمال شرق الصين، وقد كان لضوء الشمس الذي يرْشح عبر تلك التصاميم المشكالية أثرٌ في تشكيل الطريقة التي سيرى بها الفنان محيطه الدنيوي.

أخذ “غوانغي” يستجمع أفكاره ونحن نجلس معاً في الاستديو الخاص به في "بكين"، وكانت يداه تشعلان سيجاراً كوبياً فاخراً بدأ دخانه بالتصاعد شيئاً فشيئاً ناحية الأعلى، وذلك قبل أن يواصل سرده معنا.

بدأت أولى محاولات “غوانغي” الفنية عندما كان في سن الـ10، وبسبب تأثير حرفة أمه عليه اتخذت محاولاته تلك شكل الرسم على الزجاج بالحبر، إذ كان ينقل الزجاج إلى إحدى زوايا البيت ويضيئه بواسطة مصباح يدوي تنعكس ظلاله على الجدران.

ويواصل الفنان: (نشأت وترعرعت في ظل ماوتسي تونغ، وحين كنت في المدرسة الابتدائية بدأت الثورة الثقافية (1966-1976)، وهو ما جعلني غير قادر على إدراك ما كان يحدث، ما أتذكره هو رؤيتي الكثير من البوسترات التي تحمل صور رؤوس كبيرة، الأمر الذي أثارني بشدة إلى درجة أنني بدأت برسم رأس ماو وأنا في البيت)، وحين غدا في السنّ التي تمكّنه من فهم ما كان يحدث؛ أصبح هو الآخر مؤمناً إيماناً جازماً بأسطورة جيله، وعن ذلك يشرح: (مع حلول وقت انضمامي إلى “الحرس الحمر” كان ماو معبودي).

في أوائل السبعينيات عمل “غوانغي” رسام بوسترات دعائية، حيث نقش شعارات سياسية على ما عرف برسومات “الواقعية الثورية” لعمال ولمزارعين ولجنود، ومع حلول عام 1976 الذي شهد وفاة ماو، عرف “غوانغي” أن شيئاً ما في داخله يدعوه إلى أن يكون فناناً، ومع ذلك فإن حلمه كي يكون فناناً رسمياً كان قد شهد إعاقات مستمرة على يد النظام ذاته الذي تاق “غوانغي” للانضمام تحت لوائه، إذ أن الأكاديميات الفنية التي أعيد فتحها بعد سنوات من الإغلاق في عهد الثورة الثقافية رفضت طلبه 3 مرات بين 1977 و1980.

ثم تنهال ذكرياته: (شعرت أنها نهاية العالم، إذ أن الشيء الوحيد الذي كنت أرغب بفعله هو أن أصبح فناناً، ولأن ذلك كان حلمي الوحيد فقد ثابرت).

تلك الحقبة من “اللبرَلَة” التي غالباً ما يشار إليها بـ “ربيع بكين”، هي التي شهدت أولى تسللات الأدب والفن الأجنبي عبر بوابة الصين المفتوحة، ومثل حال كثيرٍ من مجايليه فقد باشر “غوانغي” جرياً شغوفاً نحو التعلم الذاتي، منكّباً على قراءة مفكرين أجانب مثل هيغل وكَانط ونيتشه وغيرهم، وعلى المستوى الذاتي العميق شعر بصِلةٍ ما مع “مارتن إيدن”؛ الشخصية الرئيسية في رواية “جاك لندن” التي تحمل الاسم ذاته، إذ يشترك كلاهما في الانحدار من بيئة طبقة عاملة، وفي التعلم الذاتي، وفي النضال ضد تاريخ من الرفض قبل النجاح في مسعاهما، فقد كان الكاتب “إيدن” رافضاً الاشتراكية، واسماً إياها بـ “أخلاق العبيد”، ومدافعاً عن أفكار نيتشه حول الفردية، ومما يقوله الفنان: (كان مارتن إيدن مصدر تشجيع لي أثناء شبابي حين كنت أعتقد أنه على الواحد أن يعمل بجد كي ينجح)، وكان على “غوانغي” الانتظار حتى سنة 1980 كي تثمر مثابرته أخيراً، إذ تلقى في تلك السنة طرداً كبيراً من أكاديمية جيجيانغ للفنون الجميلة، محملاً بطلبات التحاق، ومما يصفه لنا عن تلك اللحظة: (ما إن رأيت كم كان الطرد سميكاً حتى أدركت أنني مقبول حتماً، كانت تلك أسعد لحظة في حياتي، ولا أزال حتى اللحظة غير قادر على وصف البهجة التي غمرتني حينها، فقد كان ذلك غاية ما تمنيته).

تعلم “غوانغي” الرسم في الأكاديمية على طريقة الواقعيين السوفييت، وهو ما كان محبِطاً له نظراً لميله نحو الفن الأوروبي الكلاسيكي، وبعد تخرجه زاول مهنة التدريس، غير أنه أحس بنفور من النظام التعليمي شديد المحافظة، ولأن الفنانين خارج المؤسسة الأكاديمية كانوا في ذلك الوقت قد بدأوا رحلة من التجريب في أساليب جديدة، فقد هجر التدريس بعد سنة من انخراطه فيه، وتوجّه جنوباً إلى “تسوهاي” قريباً من حدود "ماكاو"، ليصبح فناناً متفرغاً محترفاً.

سنة 1984 عاد “غوانغي” إلى موطنه “هاربن” ليشارك كلاً من “شو كين” و"رين جيان" و"ليو يان" في تأسيس “جماعة الفن الشمالي”، وعن تلك المرحلة يخبرنا: (الطقس أكثر برودة في الشمال، حيث الأجواء أكثر غموضاً، وهو ما أثّر في نظرياتنا وفي أعمالنا، كانت النظرية عقلانية، وقد استخدمنا ألواناً بدرجات باردة).

اهتمت الجماعة بالتحليل العقلاني غير المنفعل، وهو ما غدا سمة “غوانغي” البارزة، ربما كرد فعل على الأوقات المحمومة التي نشأ خلالها في عهد الثورة الثقافية، وركّزت الجماعة أيضاً في إنتاجها على الثقافية الشمالية في الصين، من دون أن تفلت من تأثير قراءات “غوانغي” السابقة لفلاسفة ألمان، وهو الذي صرّح في مقابلة أجراها معه “هو ليتسان” سنة 1989 حول موقفه الميتافيزيقي: (في مرحلة بين 1985- 1986 كنت أعتقد أن للفن واجباً اجتماعياً، وأنه يمكنه قيادة الإنسان ـ أكثر المخلوقات تطوراً ـ نحو استعادة إيمانه الذي تعرض للتشويه، مانحاً إياه القدرة على أن يخلّف وراءه ركام الثقافة الحديثة البائس، مستعيناً على ذلك باعتقاد جازم في العقل السامي وعظمة الروح).

في لوحته (أراض يباب شمالية متجمدة)/ 1985؛ لخص “غوانغي” موضوعه الإنساني في مجموعتين فاترتين مدبّبتين ذاتا شكل قضيبي، تعوزهما الملامح والوجوه والشخصية الفردية، وتجلسان على أكوام من الثلج، محدِّقتين في الفراغ الأزرق ـ الأبيض الهائل، ولأن نوعاً من التواصل أو التفاعل لا ينشأ بينهما؛ فإن شعوراً بتجمد الزمن يلفُّنا، مصوِّراً العلاقة الباردة بين الإنسان والعالم الطبيعي، أو بين الأفراد غير المؤمنين في دولة شمولية.

إن الأشكال السريالية للثلوج العائمة المجدبة، إلى جانب درجات ألوان الرمادي البارد والأبيض المزرق التي تلقي ظلالاً مجردة على المشهد، تسهم في خلق منظر طبيعي قارس يذكِّر المُشاهد بمدينة “هاربن” التي يصف “غوانغي” طقسها القاسي بقوله: (إنه بارد ومهجور ولايمكن التنبؤ به).

في عدد “الفنون الجميلة في الصين” الصادر سنة 1985 كتب “غوانغي”: إن سلسلة (أراضٍ يباب شمالية متجمدة) ليست فقط محاولة في الرسم، بل هي إشهار تمجيدي لظروفنا الثقافية والإيديولوجية، فحين يعاني البشر من تناقضات الحياة الفلسفية، فإنهم يُتركون وحدهم مع آمال باقية لإعادة بناء الوئام مع الوجود.

وفي تناقض صارخ مع العمال والمزارعين والجنود “الحمر اللامعون المشرقون” الذين شكلوا لوحات “غوانغي” عندما كان شاباً في “الحرس الحمر” أثناء “الواقعية الثورية”، فإنه مع حلول سنة 1985 كان قد صبّ فكرة نيتشة عن “الإنسان الأعلى” في مخلوقات غريبة مجردة جليدية، غير أن السنة التالية شهدت ابتعاد الفنان عن موضوعات موطنه الشمالي، ليشرع فيما يسميه هو بمرحلته الثانية: السلسلة (ما بعد الكلاسيكية)/ 1986-1988؛ وفيها غدا الدين ثيمة أساسية، بعد أن كانت تلك الثيمة غائبة تماماً في أرضه اليباب، وقد أمضى “غوانغي” السنوات الـ4 اللاحقة منقباً في الفن الأوروبي الكلاسيكي، مقتبساً ومعدّلاً من لوحات خالدة في الفن الغربي.

وحسب كلماته: (أدركت أن جوهر الفن يكمن في سلَفِه، في تاريخه، وأن القاعدة الفنية متشابكة تشابكاً معقداً مع الإبداع، وأن الفن لا يأتي من فراغ، فمرحلة إبداع عمل فني ما منذ بدايتها وحتى نهايتها ستشغلك بأسئلة تاريخية لا حصر لها، إنها لقاء مع ما قد صُنِع مسبقاً، ودخول إلى مرحلة من التحويرات عليه).

تجدر الإشارة هنا إلى تأثر “غوانغي” الكبير بقراءته نظرية المؤرخ الفني “إي. هـ. غومبرتش” حول “مخطط التصحيح Schema Correction”، على الرغم من أنه عبّر في تصريح له سنة 1992 عن فهم مغاير للقانون المتعلق بطريقة تطور الصور عبر الزمن، وقد كتب “غومبرتش” في كتابه “الفن والوهم: دراسة في نفسية التمثيل التصويري”/1960: (يجب أن يكون لديك نقطة انطلاق معياراً للمقارنة، كي تبدأ تلك العملية من الصنع والمطابقة وإعادة الصنع التي ستتجسد نهاية في الصورة المنتجة، لا يمكن للفنان أن يبدأ من الصفر، لكنه يستطيع حتماً أن ينتقد أسلافه)، وما فعله “غوانغي” هو أن طبّق النظرية عليها تماماً، حيث “صحّحها” وشذّبها لتلائم أعماله، مقتبساً ومحوِّراً من صور خالدةٍ عوالمَ بصرية جديدة. 

Red Rationality: Revision of the Idols, 1987, oil on canvas, 200 × 160 cm. Collection of the artist.

في عمله (ما بعد الكلاسيكية: موت مارات)/ 1986؛ خلق “غوانغي” رؤيته الخاصة لعمل “جاك- لويس دافيد” النيو ـ كلاسيكي الشهير المرسوم سنة 1973، وعلى الرغم من أنه استخدم ثانية أشخاصاً من دون ملامح مثل أولئك الذين في (أرض يباب شمالية)، فإن المخطط ـ إذا استعرنا لغة غومبرتش ـ لم يعد شمال الصين، بل صورة غربية خالدة بُنيت هي أيضاً على حدث حقيقي تمثّل باغتيال الصحفي والثوري الفرنسي “جان- بول مارا”، وما فعلته تصحيحات أو تعديلات “غوانغي” على الأصل ـ الذي هو عبارة عن صورة تجريدية ذي سطح مزدوج خالٍ من التفاصيل ومفرّغ من الألوان ـ أنها أعادت تأويل المخطط الموروث المُعتَمد بصوتٍ معاصر، وما تكراره للشخص الأجوف إلا إضافة لموتيفٍ وجوديٍّ شعبي "pop"، وهو ما سيعيد توظيفه ثانية في أعمال أخرى من السلسلة ذاتها.

ففي مقاربته لموضوع “مارا” سبر “غوانغي” ثيمة الثورة من خلال التاريخ الفرنسي، فالمعروف أن الارستقراطيّة القاصرة “شارلوت كوردي” كانت قد طعنت “مارا” حتى الموت، جاعلة منه شهيداً سرعان ما تم تخليده في التاريخ الفني، إلى درجة أن صورته غدت تحتلّ كثيراً مكان صور المسيح مصلوباً، وما فعله “غوانغي” في لوحته هو أنه حوّل مفهوم التضحية بالذات وبالحرية في سبيل المعتقد إلى شخصية “لا بطل antihero” بجسدين ومن دون ملامح، وذلك في عمل خلا عمداً من العاطفة التي نراها في مقاربة “دافيد” الشهيرة، سعياً من “غوانغي” لإفساح المجال أمام تحليل عقلاني للموضوع.

في أعماله التالية اتجه الفنان نحو استكشاف ثيمة الشهادة في مجموعة من أكثر تجسداتها الغربية شهرة، ومع حلول 1987 انصب اهتمامه بشكل خاص على أعمال عصر النهضة ذات البعد الديني، عاقداً المقارنات بين التحولات الثقافية التي جرت منذ العصور الوسطى إلى عصر النهضة (بما أدّت إليه من إصلاح للمسيحية وبداية للعصر الحديث) والتحولات التي شهدتها الصين منذ الثورة الثقافية وحتى ربيع بكين، التي مهّدت لظهور “الماوية” من خلال السماح بتداول الأفكار التي طرحها ماوتسي تونغ في خطابه سنة 1942 تحت عنوان “أحاديث في منتدى يانان حول الأدب والفن”، والتي وضعت الأسس العقائدية للـ “الواقعية الثورية” بعد سنوات من حجبها.

وفي مقال كتبه “غوانغي” سنة 1986 بعنوان “نحن المشاركين في حركة 85 الفنية” ذكّر الفنان: (تكمن أهمية فن عصر التنوير في اكتشافها وبعثها الطبيعة الإنسانية، في حين أن حركة 85 الفنية متأصلة في سياق الحضارة الحديثة، وفي سعيها للارتقاء برفعة الإنسان وبصحته).

وقد أفضى هذا الاهتمام بعصر النهضة إلى سلسة (العقلانية الحمراء والسوداء) التي قام من خلالها الفنان بتطبيق نظريته التصحيحية مباشرة على رموز النهضة، ففي (العقلانية الحمراء: مراجعة الرموز) أعاد “غوانغي” تفسير عمل مايكل أنجلو “بييتا” الذي يعود إلى القرن الـ15، محوّلاً منحوتةً إلى لوحة تظهر فيها ثانية الشخصيات المجردة الخالية من الملامح من الأرض اليباب المتجمدة، آخذة مكان المسيح الميّت ومريم العذراء التي تمسك به، ومُزِيلة العاطفة التي كانت تنبعث من الصورة الكلاسيكية المأساوية للسيدة مريم وهي تنتحب على فقدان المسيح، وهنا يعلق الفنان: (أرى أن العواطف ليست محايدة البتة، لذلك أزيل العاطفة البشرية من لوحاتي للمحافظة على موقفي المحايد)، وهكذا وعبر إعادة توجيه الأفكار المسبقة عن عاطفة وأثر (مخطط) المسيح فإن “غوانغي” يزودنا برؤية معاصرة بديلة للثقافة البصرية الموروثة.

بينما عمد كثير من دارسي الفن إلى المقارنة بين العناصر الرسمية لكل من “موت مارا” و"بييتا"، فإن “غوانغي” يقول إنه لم يفكر مطلقاً بتشابه بنائهما، وإن ما دفعه لكلا العملين كان نوعاً من الحدس والغريزة، إذ اختار رسم هاتين الشخصيتين الميتتين الخالدتين لأنه رآهما مثالاً على “مصير الإنسانية”، ومع ذلك فإن عمل “غوانغي” يطرح أسئلة حول ما إذا كان تخليد الرسومات المهمة للشهداء في الغرب مختلف تماماً عن تمجيد الأبطال الثوريين في الصين.. أليس كلا الأسلوبين ضرباً من البروباغاندا؟ (بالطبع) كما يجيب “غوانغي”.

عنصر جديد مهم ظهر في عمل (مراجعة الرموز)، ألا وهو العقلانية من خلال شكل القضبان، وربما يكون طريفاً أن نقارن هذا الموتيف الجديد مع مرجع آخر من مراجع عصر النهضة، وهو عمل “ألبرخت دورر” الخشبي woodcut بعنوان “فنان يرسم امرأة عارية من منظور جهاز”/ 1525، وفي عمل “دورر” المعروف تفصل قضبانٌ بين الفنان والمرأة العارية المستلقية، في سعي لفصل أجزاء اللوحة عن بعضها بغية ضمان دقة التناسب بينهما، لكنها تعمل أيضاً كرمز لشاشة عقلانية أو موضوعية، تبعد الفنان عن حسّية العارضة الشهوانية، ويقوم “غوانغي” بتركيب تنويعات لشكل القضبان هذا على الرموز الغربية ما بعد الكلاسيكية في سلسلته التالية.

في تلك المرحلة تحديداً، والتي يعدها “غوانغي” الثالثة في مسيرته، عاد الفنان لمقاربة صورة أيقونية من ثقافته المحلية هذه المرة، ألا وهي البورتريه الشهير لماوتسي تونغ الذي كان حاضراً دوماً في الحياة اليومية لكل صيني، في المدارس والمصانع وقاعات الاجتماع والمباني الحكومية وحتى في البيوت، وبرأي “غوانغي” فإن صورة ماو أضفي عليها ذات الدرجة من التدين والإخلاص اللذين أضفيا على صورة المسيح: (الأول هو معبود المسيحية، والآخر هو معبود الشيوعية الصينية) حسبما يقول.

وفي حين عرف “غوانغي” المسيح من خلال الكتب والفن، فإن معرفته بماو كانت شخصية أكثر، وبدل تحويل ماو إلى واحد من شخصياته المجردة التي رأيناها في سلسلتي (الأرض اليباب)  و(مابعد الكلاسيكية)، فقد رأى الفنان أن يرسم بورتريهاً لماو أكثر تفصيلية وواقعية.

ومع أنه قام في عمله بتعديلات على مخطط الشخصية التاريخية لماو ـ وهي في ذاتها صورة دائمة التصحيح والتركيب، تعلو إحدى نسخها فوق ميدان “تيانانمين” ـ إلا أنه أبقى على استخدام ألوانه الرمادية الباردة وقضبانه الرمزية.

قام “غوانغي” في عمله (ماوتسي تونغ AO)/ 1988 بتركيب قضبانه العقلانية على بورتريه ثلاثي للقائد الصيني، كاشفاً عن صلةٍ بالمقاربات والتكرار من ثقافة البوب، وكما فعل “دورر” من قبل حين عزل نفسه عن العارضة، فإن “غوانغي” في استخدامه للقضبان سعى إلى وضع مسافة بينه والمشاهد من جهة، وبين الافتتان التي تثيره شخصية ماو من جهة أخرى، لكنه يقرّ بأنه لم ينجح تماماً في إزالة العاطفة كما نجح في سلسلتيه السابقتين، إذ بدا في الحقيقة أن لوحته قد أضافت هالة ورهبة أكثر عمقاً لصورة ماو، ربماً ـ نظراً ـ لتوظيفه أسلوب البورتريهات الرسمي الواقعي، أو لمجرد حجم العمل الكبير الذي وصل عرضه إلى  3.5 م.، وكان هذا هو العمل الأول في سلسلة ماو الجديدة، حيث استخدم له “غوانغي” بورتريهاً مطرزاً اشتراه من متجر، وكما يقول: (تتميز البوسترات المصنوعة من الورق بالهشاشة، أما التطريز فيكون على قماش ونسيج، وبالتالي ستتحمل مرور الوقت أكثر). 

77_features_wangguangyi_1988_web_1000

Mao Zedong: AO , 1988, oil on canvas, 360 × 120 cm. Private collection. Courtesy the artist.


Rembrandt criticized!, 1990, oil on canvas, 200 × 300 cm. Private collection. Courtesy the artist.

Wang Guangyi in his Beijing studio speaking with Andrew Cohen in front of recent works. Stills from video shot by Julien Roby.
Wang Guangyi in his Beijing studio speaking with Andrew Cohen in front of recent works. Stills from video shot by Julien Roby.
PreviousPauseNext
يربط الفنان هنا بين هذا البورتريه المقولب لماو وبين استخدام “مارسيل دوشامب” الفاضح لمبولة جاهزة، وفي لفتة تشبه ما فعله الدادائي “دوشامب” حين خطّ على بطاقة بريدية تحمل صورة الموناليزا شاربين، بالإضافة إلى كتابته الأحرفL.H.O.O.Q ، فإن “غوانغي” لم يضف سوى دمغته من القضبان والحرفين AO بلون أسود على ما كان، وفي النهاية كانت مجرد صورة أخرى لماو.

بعد 30 سنة شكّل الخيار الهام بمقاربة ومراجعة الواقعية الاشتراكية كونها مخطط الصين الأساسي؛ نقلة أسلوبية كبيرة لـ "غوانغي"، ونقلة تاريخية راديكالية للفن الصيني، فمن خلال استخدام وتصحيح أهم صور الواقعية الاشتراكية، يكون “غوانغي” قد قلبها على نفسه بغية تقديم وجهة نظر جديدة ومعاصرة.

وفي هذا العمل المكون من 3 أجزاء متماثلة مرسومة بدرجات من اللون الرمادي ـ لإضفاء صبغة تاريخية عليها ـ قدّم “غوانغي” طبقات موضوعية رمزية، محاولاً تحييد عبادة الشخصية المهووسة المرتبطة بشخصية ماو الأسطورية، وينفي الفنان أيضاً أن يكون للحرفين AO أي معنى كامن، بل يقول: (من السهل كتابتهما، وهما يبدوان جميلين على اللوحة)، وحينما سئل عما إذا كان لهما علاقة لا شعورية بآخر حرفين من اسم ماو، فقد أضاف: (لم أرَ ذلك في البداية، لكن ربما يكون ذلك صحيحاً، لقد استخدمت حرفين من الإنجليزية لأن لها حضوراً كونياً أوسع، وعندما كنت أعِدّ اللوحة الثلاثية لهذا العمل لمعرض الصين/ الطليعة/ 1989 عرفت أن اللغة الإنجليزية ستترك انطباعاً أعظم على الجمهور العالمي).

افتتح معرض الصين/ الطليعة في فبراير/ شباط 1989، لكنه اشتهر مع إغلاق السلطات له بعد ساعات من افتتاحه، حيث فاجأت الفنانة “اكسياو لو” الجميع بإطلاق النار من بندقية على إنشاءة صنعتها بالاشتراك مع صديقها “تانغ سونغ”، وهي تمثل كشكي هاتف، معلنة بذلك عن “موت” العمل، ولم يكن الانتباه الذي أثارته لوحة ماو أقل درجة، إذ قبل أن يتم افتتاح المعرض بعد ذلك بأيام أجبرت السلطات “غوانغي” على تعديل اللوحة، فقد أجبرته ـ للمفارقة ـ على تصحيح تصحيحه، وبتذكر الفنان: (لم يعيروا اهتماماً لنوع التغيير الذي أحدثته، فما كان يهمهم هو أن يحدث تغيير ما، لذلك قمت بعمل أبسط تغيير ممكن، وهو تغيير O إلى C، وقد بدا ذلك كافياً لهم، لقد كانوا يتحكمون بكل شيء، وكانت تلك محاولة لإظهار سلطتهم)، غير أن “غوانغي” لا يزال يملك الكلمة الأخيرة في الموضوع، فالعنوان الرسمي للعمل بقي حتى يومنا هذا  Mao Zedong AO.

وعلى الرغم من اطلاع “غوانغي” وهو في سنته الجامعية الثالثة على أعمال “آندي وارهول”، وإعجابه بكيف (يصنع وارهول من الأشياء العادية الشائعة قيمة نبيلة)، فإن يزعم أن مصدر إلهامه للوحته الثلاثية تلك جاء من الفكر الطاوي، وعن ذلك يقول: (قال لاوزي إن الواحد ينتج اثنين، واثنين ينتجان ثلاثة، وثلاثة تنتج العالم كله، لقد تأثر ماويِّ أنا بهذه الفلسفة).

كتب ناقد مرتبك في مقالة حول معرض الصين/ الطليعة، كانت قد نُشرت في صحيفة “الشعب” اليومية الناطقة بلسان الحزب مراجعة لعمل Mao Zedong AO جاء فيها: (ربما تكون القضبان نوعاً من الحاجز، لقد قلنا لسنوات عدة إن ماوتسي تونغ كان أكثر أقربائنا حميمية، أو شيئاً مثل هذا، كان قريباً جداً منا، ربما يهدف هذا الحاجز إلى فصلنا عنه.. لماذا رسمت 3 لوحات؟ إن ذلك يشعر المشاهد أن آثار تلك الشخصية النبيلة قد نراها في أي مكان).

وعلى الرغم من أن العديد من النقاد الغربيين رأوا في القضبان سجناً، معلنين أن “غوانغي” قد وضع ماو “خلف القضبان”، فإن الفنان يصرّ على أن ذلك إساءة فهم لما أراده، موضحاً: (استخدامي للقضبان كان نابعاً من الثقافة الصينية التي تحوي صندوق مربعات يجعل الأشياء تبدو أصغر أو أكبر)، في إشارة منه إلى شكل قضبان تكوّن 9 مربعات، يشيع استخدامه دليلاً على نسب الأحجام عند تعلم الخط، ويواصل الفنان: (قدّس الناس ماو وكأنه شخصية في حكاية خرافية، وما أردته هو تحويل تلك الأيقونة إلى شخص عادي، وأن أقلّص من الأسطورة التي تحيط به).

الناقد “لي اكسيانتنغ” كتب سنة 1992 في مقاله الذي غدا شهيراً “اللامبالاة والتفكيك في فن ما بعد 89”: (أزاح معرض الصين/ الطليعة الستار عن حركة الفن المعاصر في الثمانينيات، بل يمكننا القول إن الإرهاصات الأولى لظاهرة “ما بعد 89” قد ولدت من رحم ذاك المعرض، وبداية ـ وكمبشَّر بظاهرة “البوب” السياسي، عرض الفنان “وانغ غوانغي” ـ وهو أحد أكثر الفنانين تمثيلاً لفن الثمانينيات المعاصر ـ عمله Mao Zedong AO، ثم قام بعد ذلك بعض الفنانين الرواد من حركة “الموجة الفنية” الجديدة 85 بهجر مواقفهم الميتافيزيقية واحداً بعد الآخر، والتوجه من دون تنسيق فيما بينهم نحو فن البوب، ولأن أغلبية أعمالهم تفكّك بطريقة فكاهية أكثر الشخصيات والأحداث السياسية تأثيراً في الصين، فإنني سأطلق عليهم اسم البوب السياسي).

بعد تجربة معرض الصين/ الطليعة، وما تلاها بعد شهور من قمع مأساوي لحركات الطلاب في ميدان "تيانانمين"، وضع “غوانغي” ـ مثل كثير من زملائه ـ جمالياته النخبوية جانباً، ليتأمل بعمق طريقه الفني، وقد كتب الفنان تصريحاً فنياً سنة 1992 جاء فيه: (قررت أنه على الفن أن يكون شديد الحماسة تجاه الواقع، وأن هذا الحماس وحده هو ما يمكنه أن يطور قضايا أكاديمية في مجال المجتمع والتاريخ والواقع)، وستنعكس عواطف الفنان هذه لاحقاً في سلسلته (النقد العظيم) التي بدأ بها سنة 1990، لتصبح أول نجاح تجاري دولي له.

في (رامبرانت منتقداً)/ 1990؛ وهو واحد من أول أعماله في هذه السلسلة، قام “غوانغي” باقتباس لوحة الفنان الهولندي “درس التشريح للدكتور نيكولاس تولب”، مضيفاً إليها قبضة بأسلوب “الواقعية الثورية”، تحيط بها شمس حمراء، وبدلاً من القضبان قام الفنان هذه المرة بإضافة “الباركود” الذي يشبه ذاك المختوم على البضائع الاستهلاكية التي زاد توافرها في الصين آنذاك، وبنوع من التوليف الدياليكتيكي الجدلي أخضع “غوانغي” الفنان الغربي الكبير إلى مفهوم “النقد والصراع” الثوري الصيني، ممثلاً بالقبضة السريعة، لكن الفنان عاد مباشرة في لوحاته التالية من ذات السلسلة إلى صور الدعاية من ماضيه الشخصي، والتي عرفها عن قرب حين كان رسام بوسترات في “الحرس الأحمر”، فمن خلال جمعه بين صور لعمال وللعلامات التجارية المميزة الشهيرة مثل كوكاكولا وروليكس ـ وفيما يمكن أن نعده “تصحيحا” للشعارات السياسية التي كان قد رسمها شاباً ـ فإن “غوانغي” يكون قد ركّب دعاية تخطيطية لنظامين متعارضين ظاهرياً، وذلك من خلال إظهاره أن التناقضات قد تكمِّل بعضها، وقد كان هذا التوليف ضرباً من تنبؤٍ بالمستقبل، وواحدة من أولى الصور التي رأت كيف يمكن للشيوعية والرأسمالية أن تلتقيا وتزدهرا، وأن تقوم إحداهما مقام الأخرى.

يملك “غوانغي” 3 استديوهات الآن في بكين، يتواجد الآن في أحدها، وهذا الاستوديو بحجم حظيرة للطائرات، وفيه لوحات جديدة يأمل أن تسمح الرقابة بعرضها في احتفاليته المنفردة التي ستقام في “متحف اليوم” الخاص في بكين لاحقاً هذه السنة، وفي بيان دالّ حول كم هي قليلة تلك الأشياء التي تغيرت منذ سنة 1989 فقد أصدرت وزارة الثقافة قراراً رسمياً بمنع الفنان من إدراج Mao Zedong AO في المعرض.

أمام آخر أعماله يقف الفنان ويصف لنا التأثير الذي ما يزال يملكه ماوتسي تونغ عليه وعلى فنه، فيما تتواجد خلفه لوحتان بطول 6 أمتار، واحدة للزعيم الصيني راقداً في كفنه تحمل اسم (موت المعلمين)/ 2011، والثانية للمسيح وهو يرقد ميتاً بعد صلبه، وعنوانها (حزن على المسيح)/2011، ويعلق الفنان: (حين يكون لشخص ما أثر هائل عليك في طفولتك، فمن الصعب عليك محو ذلك، وعلى الرغم من أنني أنظر إليه نظرة عقلانية الآن، إلا أنني ما أزال أحتفظ بتلك الصورة القوية في داخلي، فيحتاج كل منا إلى ما يؤمن به، وبالنسبة لي فإن ماو كان عقيدتي، كان بالنسبة لي وكأنه المسيح بالنسبة للمسيحيين، وكما لا يمكن الشك في المسيح، علينا أيضاً تصديق ماو).

يستعمل “غوانغي” في أعماله الآن خبطات فرشاة غنية تستحيل إلى نماذج مجردة تذكّر بالمناظر الطبيعية الصينية التقليدية بطريقة الرسم بالحبر الصيني ink-and-wash، ولوحته (العشاء الأخير)/ 2012؛ التي جاءت بطول 16 م، هي تنويعة على رائعة دا فينشي الشهيرة، إذ أنها تحتوي على آفاق مخفية في توليف جديد للتقاليد الكلاسيكية من الشرق والغرب، لكن ما الذي حدث لشكل القضبان إذن؟ يجيب الفنان: (حين كنت شاباً كنت أؤمن حقاً بتلك النظرية العقلانية، لكن مع تقدمي في العمر بدأت أدرك أنه لا يمكنك عقلنة كل شيء، وأنك قد تفشل في تفسير أشياء غامضة تفسيراً عقلياً من دون أن تفقد القدرة على الإعجاب بها، والآن أنا مهتم بالأشياء الغامضة، وما يزال ماو ممثلاً لذلك الغموض).

وبعد لحظة صمت أشعل فيها سيجاراً جديداً يضيف غوانغي: (ليس هناك رمز عظيم اليوم في الثقافة الصينية). 

Ads
David Zwirner SAM CHRISTIE"S ACAW