بعد عبورنا مجموعة قيمة من الدراجات النارية المصفوفة على المدخل، التي قال إنها للتسكّع أكثر منها للركوب، قادني “جو” في الطريق إلى استديوه الفسيح، مارّين بغرف عديدة أصغر حجماً (مشغل ومخزن ومكتب ومطبخ)، إضافة إلى فسحة مفتوحة رتبت فيها منحوتات وأغراض متعددة من مشاريع جارية وسابقة على الأرض وطاولات صغيرة.
وضع على جدار أحد جوانب تلك الفسحة عدة دروع شفافة لمكافحة الشغب، لتشكل جزءاً من سلسلة منحوتات من معرض “جو” المنفرد الأخير (خروج من بيت الوجود) الذي استضافته صالة عرض “Blain | Southern” في لندن في مايو/ أيار، وقد قدّم المعرض سلسلة جديدة من الأعمال التي تسبر فكرة حيّز الأرض في علاقتها بالحدود الاجتماعية والطبيعية، واشتمل على عمل (بلاعنوان: سانتياغو، 7.9.2011)/2012؛ المكوَّن من 6 دروع مكافحة شغب صنعت من زجاج البورسليكات العاكس، وقد تمّ تبقيع هذه الأجسام المقعرة الناعمة بألوان فاتحة متعددة تحاكي الضرر الذي يلحق بالدروع على المحتجين في المظاهرات، والذي أعاد “جو” نسخها بناء على صور توثق لحدث متضمن في عنوان العمل، ألا وهو مظاهرات الطلاب التشيليين عام 2011، وكما يشرح بيان المعرض الصحفي فإن الدرع – وهو جهاز مرتبط بالقلاقل السياسية الاجتماعية وقمعها من قبل قوات الأمن – يمثّل كلاً من فضاء حامٍ وواقٍ وراء سطحها المقعّر، إلى جانب حاجز عدواني منيع في جزئها الخارجي المحدّب، الأمر الذي يخلق عملاً يحتضن في داخله وجهتي نظر متعارضتين.
منذ بداية مسيرة “جو” الفنية في أوائل السعينيات وهو يعمل على ابتكار أعمال فنية توظف لغة نحتية جريئة بامتياز بغرض مقاربة أفكاره الشخصية عن الهوية والطبيعة والجسد، كانت أولى نجاحات الفنان ابن الـ46 عاماً العالمية حين عرض عمله في معرض (البعض جُنّ، والبعض الآخر فرّ)/1995؛ الذي أقيم في معرض “سيربنتين” في لندن، بتنظيم من صديق عمره “داميين هيرست”، وبعد ذلك مثّل “جو” كوريا الجنوبية في بينالي البندقية عام 2011، وشارك أيضاً في معارض دولية واسعة النطاق، بما فيها بينالي ويتني/2000، وبينالي غوانغجو/2006.
قصة النجاح تلك سبقتها في أوائل التسعينيات فترة قضاها “جو” في “إيست فيليج” بنيويورك، حيث أقام نوعاً من الرفقة الفنية ضمت إلى جانب “هيرست” كلاً من “مارك ديون” و"أشلي بيكرتون" و"ماثيو بارني" و"مايكل ريز" و"كيتي سكيمرت"، ويصف “جو” المرحلة بقوله: (كنّا نمثل “جيل سرطانٍ” تحوّل معه ذاك الذي لا يُسَمى “أي البعبع” من شلل الأطفال إلى السرطان، مما أزاح الاهتمام من “البرّاني” إلى "الجوّاني"، ليصبح العام أكثر خصوصية، ونظراً لأن العلم يؤثر على أنماط التفكير ويضفي صبغة من “روح العصر” على الثقافة بشكل عام، فأنا أظن أن رفقتنا تلك خضعت لمؤثرات مماثلة".
يفصّل “جو” في مفهوم عمله (خروج من بيت الوجود)، وكيف أنه كان (مهتما بالمفهوم الحديث للفضاء باعتباره طريقة أخرى للنظر في هوياتنا)، وقد شمل هذا فحص الفضاء الاجتماعي (بين الجماعات والأفراد، وتأثير ذلك في هوية الفرد)، وكيف يُعرّف الفضاء الجسدي في الثقافة المعاصرة، وكيف تُظهر فضاءات معيّنة تفاصيل سياقيّة، وقد تمت مقاربة هذه المفاهيم في سلسلة (Expanded Access)/2012؛ التي شملت دعائم وحبال ناعمة صنعت من زجاج البورسليكات العاكس، مما منح تلك المنحوتات سطحاً عاكساً، وقام “جو” بتشكيل الدعائم بطرق مختلفة في المنحوتات بهدف الإيحاء مجازياً بأنواع محدّدة من العلاقات الاجتماعية كما يشير عنوان العمل.
في (تجارة)/2012؛ وضعت 4 دعائم قائمة بأطوال مختلفة على الأرض، تربط فيما بينها 3 حبال متقاطعة، في حين يربط حبل منفصل بين أحد الأقطاب والجدار، أما في (تحالف)/2012؛ فتستند دعامتان أفقياً على الجدار، يصل بين قطبيها حبل، وبين أحد أقطابها والجدار حبل آخر، وعلى الرغم من أن وظيفة المتراس تقييد سهولة الحركة، بما هو حدّ يقرّر ما إذا كان شخص (منتمياً) أو (لامنتمياً) جسدياً واجتماعياً، فإن حبال “جو” تجعل الجمهور في الوقت ذاته جزءاً من الإنشاءة حين يرى المشاهد انعكاس صورته على السطح الزجاجي، ومن خلال وضع الدعائم لا على الأرضية فحسب، إنما على جدار وسقف صالة العرض أيضاً؛ فإن “جو” يتلاعب بفكرة كيفية تأسيس حدود للأرض والعمارة، وكيفية تعليم وادّعاء بقعة جغرافية ما.
أحد المكونات الأخرى لمعرض “Blain | Southern” كان سلسلة (الرجل المتحوّل وحشاً)/2012؛ التي تشتمل على سبائك صمغية ذات لون أورق فاتح من مادة البولي يوريثان لقالب مجسم من قرون ظبي حقيقي، تبدو فيه القرون اللامعة الناعمة وكأنها مجمّدة، مع نقاط متصلبة تشبه كتلاً ثلجية متدلية من أسفل المنحوتة، ومع ذلك فثمة جانب مائع مصهور يطل من المنحوتة، وكأن القطرات تلك – وعلى الرغم من تدلّيها الساكن – قد تتساقط في أية لحظة من جدران صالة العرض، إذ يرى الفنان أن غنيمة اصطياد قرون الظبي تمثل اندماجاً بين الداخل والخارج، لأنها منتج من البراري تم تدجينه ليصبح فضاء منزلياً، ومن خلال تلك الأعمال الجديدة في (خروج من بيت الوجود) يتحدّى “جو” الوسائل التي يمكن للمرء بأريحية أن يختبر ويصنّف ويحدد كمية البيئة المحيطة والعلاقات المكانية المتطابقة معها.
طبقاً للفنان فإن اهتمامه في البيئة والطبيعة قد بدأ في سن مبكرة، فقد ولد “جو” في إيثاكا/نيويورك عام 1966 لوالدين كانا قد وصلا مؤخراً من كوريا الجنوبية ليواصلا درساتهما العليا في العلوم بجامعة كورنيل، وعاش “جو” وأسرته في محيط مجتمع أكاديمي صغير يشمل أصدقاء وزملاء والديه، وقضى سنواته التأسيسية في ولايتي نيويورك ومينيسوتا.
يعلّق “جو” على نشأته قائلاً: (نصفها في المختبر، والنصف الآخر في المزرعة)، حيث كان يقضي وقته بين الغابات وحيداً، ويكشف هذا أيضاً عن أثر والده الراحل راعي المواشي الذي كان قد درس تربية الحيوانات، ومن جهة أخرى فإن “جو” يستحضر (نشأة وسط الثقافة) كما يقول، واهتماماً واضحاً بالفنون، إذ كان دوماً ينحت ويصنع وديوراما وهو صغير.
بعد التحاقه بجامعة ويزليان في كيناتيكيت تخصّص “جو” بداية في الأحياء، إذ يقول: (أحببت وجودي هناك وأحببت التخصّص، لكنني لم أكن طالباً جيداً)، وفي تلك الأثناء رفضت محاولات “جو” للتسجيل في صفوف محاضرات الفن، مما دفعه إلى ممارسة الفن وحده في السنوات الأولى من الجامعة، وبعد عامين – وبسبب عدم رضاه عن دراسته – نال “جو” فرصة القيام ببحث لشركة متخصصة في علم البذور خارج فيينا في النمسا، ليقضي هناك عاماً واحداً أمضى فيه وقتاً طويلاً في قاعة معرض "سيسيشن"، ويعلّق قائلاً: (لقد فتحت تلك التجربة عيوني، إذ لم أصدق أن إمكانية رؤية “هيرمان نيتش” و"غوستاف كليمت" متجاورين ومتحادثين في المكان ذاته، لكن يبدو أن الفن الأدائي الراديكالي والرسم الانفعالي لـ “نيتش” يكمّل رزانة فن “كليمت” وتأصّله.. أظن أن صدامات وتركيبات كهذه لا توجد سوى في الفن، حيث لا تقبل لا تناقضات فحسب، بل ترغب ويسعى خلفها أيضاً.. ثمة استعداد للانخراط في حوار والتعامل مع المتناقضات، لا لنبحث عن طريقة توحدها، بل لندعها تتحاور وننتظر النتائج)، وتحت تأثير لقاءاته الفنية في فيينا انتقل “جو” إلى جامعة واشنطن في سانت لويس ليحل منها على بكالوريوس في الفنون الجميلة عام 1989، قبل أن يواصل مسيرته في مدرسة ييل للفنون التي حصل منها على الماجستير في الفنون الجميلة عام 1991.
في العام التالي أقام “جو” معرضه الفردي الأول بعنوان (خدعة النفقات) في صالة عرض “نوردانستاد- سكارستيدت” في نيويورك، حيث عرض (ملوحة العظمة)/1992، وهو مشروع نحتي بارز استخدم معه مكعبات ملح مضغوط لبناء إنشاءة تذكر بمخطط بياني ثلاثي الأبعاد، إذ نرى 4 أعمدة بارتفاعات مختلفة صنعت من كتل ملحية مصفّفة، ووضعت أمام سقالة حديدية تعلوها 4 براميل ذات حنفيات، تشير إلى ما يقابلها من عمدان الملح، ويرمز كل عمود إلى شخصيات آسيوية أيقونية: القائد المغولي “جنكيز خان”، و"زهرة طوكيو" (وهو الاسم الذي أطلقته قوات الحلفاء على مذيعات البروباغاندا اليابانية الناطقة بالانجليزية أثناء الحرب العالمية الثانية)، ونجم الفنون القتالية "بروسلي"، والقائد الشيوعي الصيني “ماوتسي تونغ”، ويمثل وزن وكثافة كل عمود ملحي تقديراً لحجم السعرات الحرارية التي استهلكتها كل شخصية أثناء عهد نفوذه، وفي البراميل عرق اصطناعي صنعه “جو” بالتعاون مع علماء الغدد الصماء في جامعة ييل، بحيث يقطر السائل الصناعي من البراميل إلى أعمدة الملح المقابلة، إلى أن تتآكل مكعبات الملح تدريجياً على مدار المعرض.
يرى “جو” عمله هذا ناتجاً من إحساسه بالقلق حول خلفيته كعالم، فيقول: (بعد دراستي العلوم داخلني إحباط حول إمكانية أن أؤدي صورة نمطية ما، وأن أتعايش مع ما لا يمكنني التحكم به)، مضيفاً أن المشروع كان في جوهره تعليقاً على هذه الفكرة: (أردت استخدام لغة سلطوية جداً، مثل لغة الرياضيات والعلوم والملاحظة والمعلومات، محاولاً التلاعب بفكرة الصورة النمطية)، وبينما يكشف العمل عن “دور” العالم المتحوّل فناناً، فإنه كان أيضاً دراسة في الصورة النمطية الآسيوية، محللاً بشكل علمي حضور أيقونات آسيوية هامة معروفة في الثقافة الغربية الشعبية.
هذه (الحسابات) كانت نتيجة بحث “جو” الصارم الذي اشتمل تنقيباً في مراجع تاريخية وعلمية عدّة، ففي حالة “جنكيز خان” مثلاً درس النظام الغذائي للمغول خلال فترة إمبراطوريته، وتفاصيل حملاته العسكرية العديدة، فضلاً عن قصص مغامراته الجنسية الأسطورية، وذلك بهدف تقدير عدد السعرات الحرارية التي قد يكون استهلكها في حياته، وعلى الرغم من إقرار “جو” بأن معلوماته البحثية تكهنية حتماً، فقد استنتج أنّ “جنكيز خان” أكثر المستهلكين للسعرات مقارنة بالأيقونات الأخرى، وأن العمود الرامز له سيكون الأطول بين العمدان.
في القسم الأول نرى “جو” وهو يسبح عارياً في صندوق زجاجي مليء بألفي باوند من غلوتامات أحادية الصوديوم، وهي كتل ضخمة من مسحوق أبيض جاف، وذلك في استديو كان له في الحي الصيني ذلك الوقت، وفيما يحرك الفنان ذراعيه مراراً في المسحوق، فإن الغلوتامات تحكّ جلده، مخلفة جروحاً خفيفة نازفة في كل أنحاء جسده – والجدير بالذكر أن الفنان عرف فيما بعد أن عنده حساسية تجاه المضافات الغذائية – وعلى الرغم من محاولات “جو” المستميتة فإنه بقي يسبح في مكانه.
وفي القسم الثاني نرى الفنان وهو يزحف على طول الصحراء الملحية الشاسعة، لاعقاً الأرض بلسانه الذي يُرى نازفاً جرّاء صلابة البلّور، قبل أن يبدأ بالمشي والركض عبر الصحراء، أما في القسم الأخير فإن “جو” يجلس على العشب في جبال كوريا الجنوبية، حيث نرى في النهاية ظبياً يقترب منه، ويلعق ما بقي من الملح الذي يغطي جسده.
يمكن قراءة (دورة تحول الملح) باعتباره لعباً على مراحل التطوّر، تدرّج خلالها الفنان من السباحة إلى الزحف والمشي، قبل أن ينتهي إلى الركض، وربما يكون العمل أيضاً تمثيلاً لدورة الطاقة، إذ تمثل الغلوتامات في الجزء الأول الطاقة الاصطناعية التي تستخدم في الجزء الثاني للمشي والركض عبر الصحراء الملحية، والملح الملتصق بالجسد يرجع فيما بعد إلى عالم الطبيعة، حين يلتهمه الظبي في القسم الثالث، منهياً بذلك دور تحول الطاقة من البشر إلى الطبيعة.
وإلى جانب الملح تشكّل الحيوانات عنصراً متكرّراً في أعمال "جو"، والظبي الذي نراه في العمل السابق يشكل موضوع نسخ كثيرة من (الصندوق المُحسّن)/ 1999؛ وهو سلسلة من قرون ظبي حقيقية جدارية جرى تقسيمها إلى قطع جمع بينها أعواد من فولاذ مقاوم للصدأ، وفي مسعى للتلاعب بالتقديم التقليدي لغنائم الصيد تضفي الأعواد انقطاعات على الشكل الطبيعي غير المتماثل للقرون، مما يضفي لمسة جمالية إنسانية أكثر توازناً على المنحوتاتز
يقول “جو”: (لا أرى في المنحوتات رمزية صريحة، لكن اخيتاراتي لحيوانات معينة عملية ذات دلالة بالنسبة لي)، والظبي تحديداً يملك حضوراً عابراً للثقافات بالنسبة للفنان الذي يرى أن الظبي في الثقافة الغربية – والأيل بصورة أكثر خصوصية – رمز الفحولة والقوة، في حين تراه الثقافات الشرقية - وخصوصاً قرونه – جزءاً من تقاليد المعالجة المثلية Homeopathy والأدوية المرتبطة بالخصوبة والتعمير والحيوية، فقرون الظبي – لا الظبي ذاته – هي محطّ اهتمام الفنان: (أرى الظبي مجرّد حامل للقرون، ومصنع يزودّنا بها، قد لا يجدر بنا تسميتها "منتجات"، لكنها أشياء يصنعها الظبي)، وتتساقط القرون كل سنة، ليقوم الظبي (بصناعتها) ثانية، وبهذا السياق فإن “جو” يعدّ القرون (أشياء جاهزة) عضوية متواجدة في الطبيعة.
حمار الوحش هو حيوان آخر نراه كثيراً في أعمال "جو"، بما فيها “مُعرّى” (غريزي)/2005، وهي منحوتة دقيقة تشريحياً لجهاز حمار الوحش العضلي، وفي المنحوتة الإيبوكسية هنا خطوط مقلمة بيضاء عرضها ربع إنش على طول جسم الحمار، وقد تمت قراءة العمل خطأً على اعتبار أن ما نراه هو خطوط حمار الوحش المقلمة البيضاء، والحقيقة أنها تعبير عن إزالة أو كبح الصبغة السوداء للحيوان، وفي تركيزه على سوء الفهم الشائع هذا عن خطوط حمار الوحش فإن العمل يعالج قضية الإدراك أو – بصورة أكثر عموماً – التحيزات الثقافية والاجتماعية التي تقود إلى افتراضات متنوعة حول هوية الآخر، وفي حالة حمار الوحش خصوصاً فقد أعلن “جو” اهتمامه بالعناصر الثنائية: أبيض وأسود، فضاء إيجابي وسلبي، داخل وخارج، غريب ومألوف، وهي قضايا عالجها أيضاً في أعمال من مثل “ستابس”(استيعاب)/2009؛ وهو نحت لحمار وحش بناء على لوحة للحيوان رسمها “جورج ستابس” و"آخرك الشرّير Doppelganer" (روشينانته الورديّ)/2009؛ وهو قالب من البرونز وردي اللون على طراز عمل “ستابس”.
في أعقاب توظيف “جو” لقرون ظبي حقيقية وغيرها من الأشياء الطبيعية في منحوتاته فقد قام بتوسيع فكرة فن(الأشياء الجاهزة) ليستخدم قطعاً أثرية ثقافية قائمة بهدف صنع إنشاءات بوسائط متعدّدة مثل (Bodhi Obfuscatus)/2005، وقد عرضت آخر نسخ هذا العمل في فبراير/ شباط هذا العام في المعرض الافتتاحي لمجتمع آسيا في هونغ كونغ، وقد حمل العمل عنوان (العقول المتحولّة: البوذية في الفن)، حيث أظهر تمثالاً لبوذا يعود للقرن الـ3 ق.م من مقتنيات المجموعة الثالثة للسيد والسيدة “جون د. روكيفيلر” من متحف مجتمع آسيا، ووضع رأس بوذا في بناء على شكل خوذة فضاء قطره قدمان، متكون من مدار من 50 كاميرا مراقبة، تقوم بالتقاط صور لوجه بوذا، قبل عرضها على 10 شاشات تلفزيونية منتشرة في أنحاء صالة العرض، في حين تعكس 90 مرآة مصفوفة حول التمثال صوراً للأفلام المعروضة وللزوار الذين يتجولون حول الإنشاءة.
كُلّف الفنان بهذا العمل لأول مرة من قبل متحف مجتمع آسيا في نيويورك عام 2005، ليعرض منذ ذلك الوقت بأشكال أخرى، مستخدماً تماثيل تاريخية مختلفة، وقد استضاف بينالي غوانغجو عام 2006إحدى تلك العروض التي شهدت تمثالاً لميتريا بوذا كان الفنان قد استعاره من معبد “دايون” في كوريا الجنوبية على رأس جبل، حيث لا يزال يُرى كنصب ديني، ويهدف عمل “جو” هذا إلى تقريب الآثار الدينية الأثرية من الجمهور المعاصر، داعياً كل فرد فيهم إلى إعادة بناء وتفسير صورة وجه بوذا كما يختبرونها في اللحظة الراهنة عبر وسائط شاشات العرض وأجهزة الإسقاط، وفي نقاشه حول توظيف العمل لوسائط متعددة وصف الفنان (عملية انفصال متواترة عن الحميمية) عبر التكنولوجيا، وكلما كانت التكنولوجيا أكثر تقدماً ازدادت قدرة الجمهور على نسيان حضورها، لكن هذه الفكرة من (الانفصال) – كما يرى الفنان – ليست بذاتها حسنة أو قبيحة، بل هي تسمح للمرء بالرجوع إلى الخلف ورؤية العالم والمجتمعات المحيطة به باعتبارها بنية تحتية أو خريطة، قد تقود أو لا تقود إلى فهم أعمق لهذه الكيانات.
حين زرت استديو “جو” في يوليو/ تموز، رأيته مستغرقاً في العمل على إنشاءة جديدة توظّف هي الأخرى قطعاً أثرية ثقافية، ينتظر أن يكون عرضها الأول في بينالي غوانغجو في أيلول. تناثرت أساسيات المشروع في جميع أنحاء الاستديو، إذ عُلّق درع مكافحة شغب شفاف في السقف، ووضعت على طاولات عدة منحوتات لأشياء بيتية ومتنوعة، في مراحل مختلفة من الإنتاج، وقد أراني “جو” نموذجاً مؤقتاً للشكل النهائي للإنشاءة، موضحاً أنها ستضم أكبر عدد من الدروع التي ستشكّل (بلاطات) سقف متموّج مثل تلك التي تُرى في العمارة الشرق آسيوية التقليدية، وسيتخذ السقف شكل منحنى متقوس مكون من 108 درعاً، في إشارة إلى الرقم الذي يعد مقدّساً لدى الكثير من الأديان والتقاليد الشرقية، بما فيها البوذية والهندوسية والسيخية، وطبقاً للمعتقدات البوذية فإن 108 هو عدد الغرائز الأرضية التي يمتكلها البشر، والبوذية ترى فيها القدرة على جعل حياة الإنسان سارّة ومؤلمة في الوقت ذاته – حسب التعاليم التي ترى أن الغريزة أصل المعاناة -، وترى أيضا أنها (أدران) ينبغي تجاوزها بغية الوصول إلى النيرفانا.
ستعلّق الدروع من السقف مع سلسلة من الأشياء المصبوبة والمنحوتة من طين زيتي، والتي ستتدلّى أسفلها، لتمثّل أفكاراً عن الزمن أوالثقافة أوالجغرافيا أوالطبيعية أو التكنولوجيا، وهنا يقول “جو”: (ستكون أشياء فرويدية، لكنها ستشير ضمناً إلى نوع من الفردانية.. هي أشياء عن اللقاءات والحميمية والتواصل، لذلك ستشمل هواتف خلوية ومسدّسات.. أشياء مكتشفة ومصطادة ومخبّأة ورافعات قديمة، وأشياء بمسحة آسيوية خافتة، مثل قارورة من الحرب الكورية، وحقيبة ظهر كورية تقليدية.. أعشق فكرة السرديّات المتماوجة والمتداخلة التي تتشكّل عفوياً من دون قصد من قبل الحضور الجمعي لتأثيرات شخصية من أشخاص مختلفين عبر الزمان والمكان).
هي كذلك تلك الأشياء التي تمثل متعة الحياة وألمها، وربما ستعكس دروع مكافحة الشغب الأثر الضار أو الوقائي للغريزة البشرية على المجتمع، كما يمكن قراءتها باعتبارها إشارة محلّية، وتحديداً إلى غوانغجو التي كانت عام 1980 مركزاً لحركة الدمقرطة، إحدى أهم الانتفاضات في التاريخ الكوري، وما يأمله “جو” هو أن تمنحه الدروع ومنحوتات الأشياء البيتية والتقليدية، وغيرها من المنتجات الثقافية، القدرة على تعقب تاريخ فضفاض مفكك للهوية والثقافة المحلّيتين.
في أواخر هذا العام وبداية العام المقبل سيبدأ “جو” منحة إقامة فنية في متحف سميثسونيان للفنون في واشنطن، وقد كتب لي “جو” في بريد إلكتروني أخير: (سأتعقب الخبراء “قسم التكنولوجيا في سميثسونيان” في مجالي التصوير الرقمي والمعارض لأتعلم منهم وأبحث من دون الوقوع تحت ضغط الحاجة إلى إنتاج شيء ما)، ويأمل أيضاً دراسة تقنيات الطباعة والمسح الضوئي المتقدمة ثلاثية الأبعاد التي يوفّرها المتحف.
بهذه الطريقة يواصل “جو” توسيع نطاق المواد التي يشتغل عليها، مبدعاً مشاريع تكرّر، وفي الوقت ذاته تحوّل الأشياء القائمة في الطبيعة والثقافة الإنسانية، وتبدو أعمال “جو” هجيناً من عناصر ظاهرها التنافر، كالعلم والفن، والبريّة والبيتوتية، والطاقة والخمول، وهي بما فيها من بحث علمي صارم تطمح إلى استكشاف طبيعة الاختلاف في الناس والأماكن والأشياء، وبالنسبة إليه المهم هو ألا يكون لأي كيان هوية ثابتة، بل أن يشكّل نوعاً من القنوات التي تنقل إلينا ميوعة المجتمع والثقافة وانسيابيتهما.