بعد ظهر يوم مشمس في مومباي، وهي محاطة بحفنة من المهنئين وأقرانها المثقفين؛ باشرت رمانة حسين (1952 – 1999) مشروعها الأدائي الافتتاحي (العيش في الهوامش)/ 1995؛ بينما كانت تمشي ببطء حول الفناء المفتوح للمركز الوطني للفنون المسرحية وغونغروز أو أجراس الكاحلين في قدميها، حاملة في كل يد من يديها الممدودتين نصف بابايا. بدت متألقة ومتقِنة ذاك التقديم الذي تقوم به، وفي المقابل العديد من الذين كانوا يحيطون بها – وبعضهم أدلوا بشهاداتهم لاحقاً أنه لم يروا شيئاً مثل ذلك في الهند من قبل – شاهدوا بمزيج من النشوة والحيرة، غير متأكدين مما ستقوم به حسين بعد ذلك، لأنها واصلت على ذات الوتيرة مدة نصف ساعة، فبقي فمها مفتوحاً على أقصاه دون أن تتفوه بكلمة، كما لو أن صرخاتها كانت صامتة، وفي نهاية المطاف – وبعد أن بدت منهكة – دعت حسين التجمع الصغير كي ينثروا وإياها “الغيرو” دقيق الطين الأحمر ومسحوق النيلي على الأرض، فكان انضمامهم لها تعبيراً – ليس فقط – على أنهم قد قبلوا تلك الإيماءة التشاركية، بل على أنهم قبلوا ذلك العمل الجديد أيضاً.
يعترف الآن مجتمع الفن المعاصر في الهند بالفنانة حسين على أنها واحدة من الفنانين الأوائل في البلاد، لكن جمع معلومات عن كل أعمالها المبتكرة والقصيرة الحياة في الوقت ذاته ليست مهمة سهلة أبداً، ذلك أن بعضها لم يوثق أبداً، أو لم يعد من الممكن معرفة مكانه.
رمانة حسين كانت نسوية، أي متشددة في المساواة بين الرجل والمرأة، وناشطة في إنجاز أشرطة فيديو وتركيبات، وفنانة أداء، وهي شاغلة العديد من المواقع خلال حياتها القصيرة، فالأعمال التصويرية التي تابعتها في الثمانينيات أخذت منعطفاً حاداً في رد فعل على الأحداث الطائفية العنيفة في الهند خلال التسعينيات، والتي وصلت ذروتها عام 1992 بتدمير مسجد بابري في أيوديا.
بعد الأعوام الـ7 التالية ردت حسين بطريقة حادة ومثيرة على المناخ السياسي المظلم، وعلى الاكتشاف المحزن لمرضها العضال عام 1995، وفي المرحلة الأخيرة من حياتها أصبحت استفزازية، تحفر بقسوة مساراً جديداً للفن المفاهيمي والأدائي في الهند، وبعد مرور 15 عاماً على وفاتها؛ تشهد الهند صعود الاتجاهات السياسية للجناح اليميني، إذ بلغت ذروتها في الانتصار الساحق لحزب هيندو القومي بهاراتيا جاناتا في أيار/ مايو هذا العام. ونظراً لهذا السياق؛ تبدو اللحظة مناسبة لإعادة النظر في بحث حسين في مفهوم الهوية، واستخدامها الفن كطريق للتغيير الاجتماعي، وكذلك تأثير ما تبقى من إنتاجها.
ولدت عام 1952، أي بعد 5 أعوام من استقلال الهند، ولم تكن حسين غريبة عن السياسة، فقد نشأت في عائلة سياسية غنية للغاية في لكناو، إذ كان أبوها اللواء إنيث حبيب الله أول قائد لأكاديمية الدفاع الوطنية، وأمها حميدة حبيب الله عضوة ناشطة للغاية في العديد من مبادرات الرعاية الاجتماعية، ووزيرة دولة عن حزب المؤتمر في السبعينيات، وكمتحمسة قومية تقدمية (ارتبط هذا المصطلح بالسياسات الاجتماعية المستنيرة والإصلاح قبل استقلال الهند)؛ صنف والداها في يسار الوسط، وحسب صديقتها فنانة الأداء بشمابالا إن؛ فإن عائلتها كانت متأثرة بالعديد من التنظيمات اليسارية التي ظهرت من الحركات التقدمية منذ الثلاثينيات وصاعداً، بما فيها رابطة مسرح الشعب الهندي، ورابطة الكتاب التقدميين، وكلتاهما كانتا مرتبطتين بالحزب الشيوعي الهندي، وقد وفرت تلك البيئة الثقافية الأساس لتوجهات العديد من فناني ما بعد الاستقلال، وصداقات حسين الوثيقة مع أعضاء هذه الجماعات الناشطة ساهم إلى حدٍّ في تكوين أفكارها السياسية ونشاطاتها.
في المقابل تصنيفها دينياً كمسلمة؛ لم يكن أبداً جزءاً من هويتها خلال تنشئتها، فصديقها الحميم المصور رام رحمن يصف الإسلام باعتباره مؤثراً ثقافياً وليس دينياً، لكن – وعلى غير المتوقع – لعب دوراً حاسماً في حياتها وفنها في الأعوام الأخيرة من حياتها.
بعد دراستها في كلية رافينزبورن للفن والتصميم في بريطانيا مدة عامين بدءاً من عام 1972؛ عادت حسين إلى الهند، وقررت التركيز على الرسم، ورغم أنها تزوجت وأنجبت طفلة في فترة قصيرة؛ إلا أن القيود التي واجهتها كربة منزل لم ترق لها.
في مقابلة في أيار/ مايو هذا العام؛ وصفها رحمن بأنها (بوهيمية بالكامل، ومفكرة تقدمية، ومتشددة قوية لحقوق المرأة، مع شخصية مختلفة جداً عن شريك حياتها)، فزوجها الذي يعمل في شركة تاتا الهندية الكبرى كان قد نُقل إلى ولاية بهار الشرقية بداية الثمانينيات، لكن حسين اختارت الانتقال إلى دلهي حيث بدأت بمشروع قضت فيه 4 أعوام في استوديوهات غارهي، وهي منشأة لفنان مدعومة من أكاديمية لاليت كالا الحكومية.
في هذا المكان قضت لأول مرة في حياتها وقتاً مع الرسام المعاصر مانجيت باوا، والنحات البارز مريناليني موخيرجي، وزميلتها النسوية نافجوت ألطاف، حيث استلهمت الاتجاه إلى التشكيل من توجه للفن المعاصر في الهند في تلك الفترة، والذي جاء أساساً من مدرسة بارودا للرسامين الذين كان العديد منهم تابعين لكلية الفنون الجميلة في جامعة مهراجا ساياجيراو في بارودا، لكنهم سافروا إلى مومباي أو عاشوا فيها، بما فيهم غلام محمد شيخ، وسودهير باتوردهان، وبهوبن خاخار.
بدأت حسين بتطوير ممارساتها الخاصة في الرسم التصويري، وأبرزت علاقتها بالعوامل الجمالية والاجتماعية، وفي ذلك الوقت كانت الميول السياسية في الهند تتجه جزئياً ضد الرأسمالية وضد المؤسساتية كرد فعل على حالة الطوارئ بين عامي 1975 و1977، عندما كانت الحريات المدنية مخترقة، والمبادئ الديمقراطية مقوضة لما يزيد عن 21 شهراً، وفي هذا السياق شعرت حسين – مثل العديد من الفنانين – بضرورة استخدام التشكيل لتعبر وتستنطق القضايا الرئيسة للحالة الإنسانية (العنف والفساد والاستغلال)، كما آمنت حسين أيضاً بأن الفن من المفترض أن يكون في متناول الناس في جميع الطبقات، وأن تقديم فن يعتمد النحت والأشكال سيضمن جمهوراً كبيراً، وهو ما وصفته هي بـ (الشفافية).
جنباً إلى جنب مع زملائها الرسامين ناليني مالاني، نيليما شيخ، وأربيتا سينغ؛ استخدمت حسين الأسطورة والاستعارة والرمز لتعكس الواقع الصارخ للعصر الحديث لتنقل رسائل اجتماعية، وعلى عكس هؤلاء الفنانين أقرت بصراعها كي تجد اللغة البصرية الدقيقة التي تمكّنها من التعبير عن هواجسها.
إن النقد الواضح وضوح الشمس للرأسمالية الهندية وللهياكل الطبقية؛ برز في معرضها (السمك الكبير يأكل السمك الصغير)/1989؛ الذي يعرض شخصين غامضين يجدفان في قارب صغير في ضوء القمر، محاولين عبور بحر خداع مظلم، ويرتعدان وهما يريان سمكة عملاقة تأكل إخوتها الصغار، وفي معرض (الملاك وكولابا)/ 1990؛ نرى مخاوف مشابهة تنتشر فوق منظر طبيعي مائي مظلل، وهذه المرة أرصفة الصيد في كولابا ومومباي المليئة بصيادين يوقفون عربات الخضار، بينما شخصيات هزيلة شبه عارية وحيوانات أليفة تسكن في الشارع المجاور، وفي الأعلى ملاك برونزي متوهج بأجنحة ضاربة إلى الحمرة، يحمل شكلاً معتماً لامرأة عبر السموات، يبدو مبتعداً عن الحالة القاتمة تحته على الأرض.
كان موخيرجي وألطاف آنذاك في استوديوهين مجاورين لاستوديو حسين في غاهي، والاثنان كانا ينتقدان استخدامها التعبيري الجديد للأشكال، ويبدو أن الأول وبخ الفنانة الأصغر سناً على (رسومها السيئة)، ألطاف بحنين وصفت استوديوهات الفنانين ومعارضهم في الهند خلال الثمانينيات كأماكن تجمّع، وكانت تمضي ساعات في مناقشة كتّاب ومنظرين وفنانين.
انشغال حسين الخاص بشخصياتها مثل الكاتب المسرحي برتولت بريخت، والرسام بيتر بروغل الأكبر فنان القرن الـ16 الذي يظهر بطرائق واضحة في أعمالها، مثل عملها (عندما يأتي عمل الشيطان مثل هطل المطر، ولا أحد ينادي: قف!)/ 1989- 1990. تصوير هذا العمل للجحيم ولمعاناة الإنسان يشتمل على جبل ناري من رؤوس البشر، وأشكال تشبه أجنحة الخفافيش تطير فوق مناظر طبيعية فوضوية ومزدحمة.
بدأ المناخ السياسي في الهند يتوتر مرة ثانية أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، وذلك رداً على الصعود المقلق للدعاية اليمينية وفصائلها، مسبباً اضطرابات اجتماعية على نطاق واسع، وفي كانون الثاني/ يناير من عام 1989؛ وبعد طعن وقتل الناشط والكاتب المسرحي سافدار هاشمي بوحشية في صاحب أباد في ولاية أوتار باديش؛ شكّل فنانون وكتاب ومديرو متاحف ومنهم رام رحمن، جيتا نابور، وفيفان سوندارام “تجمع ساهمات” الذي بدأ تركيزه على دعم العلمانية والتعددية عبر الفن، وقد بدأ “ساهمات” بزيادة نشاط المعارض وتنظيم “عروض احتجاجية” في كل أنحاء الهند، ومن ضمنها (فنانون ضد الطائفية)/ 1991.
حسين التي انتقلت إلى مومباي في هذا الوقت؛ أصبحت أحد المنسقين المحليين الرئيسيين للتنظيم الذي كان مقره دلهي، تقول حسين: (هناك تحولات واضحة جداً جرت في غضون أشهر)، (كان هناك توتر هائل يرتفع، وكان الخوف من الانفجار الطائفي حقيقة واردة، وكان بالإمكان رؤية الفتنة تنتشر كالحمى).
في 6 كانون الأول/ يناير من عام 1992 وصل هذا التوتر إلى ذروته عندما هاجمت ودمرت مجموعة متشددين هندوس مسجد بابري في أيوديا الذي شيّد في القرن الـ16 – تقول المنطقة إنه مكان ولادة الإله الهندوسي رام – وذلك في محاولة لاستعادة الموقع المتنازع عليه، وقد أدى تدمير المسجد إلى أعمال شغب وحشية استمرت عدة أشهر في عدد من المدن الهندية والباكستانية والبنغلادشية، ونتج عن ذلك مقتل أكثر من ألفي شخص، لكن موماي كانت إحدى المدن الأكثر تضرراً.
(كان الحدث الأكثر تأثيراً على المستوى الوطني في حياتنا) تقول حسين، (حقيقة لقد حطم فكرتنا حول أنفسنا كدولة حديثة وثقافة وفنانين ساهموا في تلك الثقافة، حطم كل رباط ثقافي كان لدينا)، ويمكن القول إن الحدث أثّر بشكل كبير مباشر ودراماتيكي على حسين أكثر مما أثر على زملائها الفنانين، وحالما بدأت أعمال الشغب في مومباي نزعت حسين لوحة اسم الأسرة الخارجية عن منزلها، وفرّت مع زوجها وابنتهما الصغيرة. مختبئة في فندق قريب، وخائفة على حياتها وبيتها، وعلى سلامة حياة أسرتها؛ كل ذلك كان تجربة مؤلمة. (لقد صدمتها) تقول حسين، (كان الاعتداء على مسكنها الخاص المحمي. فجأة شعرت أن هويتها الإسلامية تضغط عليها بقوة).
بعد أسابيع قليلة، وفي الأول من كانون الثاني/ يناير من عام 1993؛ شاركت حسين في العرض الذي دام 17 ساعة في دلهي للموسيقى الصوفية/ البهاكتي (في القرنين الـ8 والـ12 توالت حركات الإصلاح في نشر التسامح، والروحانية والانسجام بين الأديان)، قام بها “تجمع ساهمات” دفاعاً عن التقليد العلماني، وقد كتبت حسين في صحيفة إندبندنت الهندية: (للخروج من قواقع الانعزالية لدينا؛ من الضروري أن نعمل معاً، ونحاول تطوير رموز العلمانية… عمل الفنانين معاً والمشاهدين هو شكل من المشاركة العامة، وأحد التأكيدات على القواسم المشتركة بين الجميع). لقد وصفه المشاركون بالعمل بأنه لحظة تضامن بين التخصصات والطبقات والفنانين والموسيقيين والشعراء والراقصين جميعاً. كانت السياسة تناقش بحماس خلف الكواليس، وكانت الطاقة مشحونة للغاية. حسين، سوندرام، وألطاف ابتكروا ما سموه (نهر كوني في السماء) على سقف خيمة، كما كتبوا شعراً وخطوطاً عربية على جدرانها. (كان للحدث تأثيراً قوياً على أعمال الفنانين، وتستطيع أن ترى ذلك في أعمال لاحقة) قال رحمن.
كان اسم التجمع “أنهاد غارجي” قد أُخِذ من شعر القديس الصوفي “كبير” من القرون الوسطى، وترجم كـ (ترددات أصداء الصمت) مفهوماً يستحضر الصوت الأبدي للكون.
في القصيدة؛ هذا الصوت – كما تقول الأسطورة – وُضِع في وعاء من الفخار الذي له دلالةُ أنه الحامل لكل شيء، بما في ذلك الكون والذات الإلهية. بعد فترة وجيزة من الحفل عادت حسين إلى مومباي، وبدأت العمل على تركيبات جديدة حسية مصنوعة من قدور محطمة لها لون التراب لمعرضها الفردي الأول (شظايا/ أضعاف)/ 1949؛ في صالة تشيماولد، وسافرت فيما بعد إلى صالة إل تي جي في نيودلهي، وفي عملها (إسقاط مشرّح)/ 1993؛ يبرز قسماً من وعاء أسود يشبه بطن حاملٍ على الجدار، تنعكس صورته في مرآة موضوعة في الأسفل إلى جانب بقايا حطام مزهرية حمراء صنعت من الطين، وصندوق مستطيل مغطى بأناقة وشفافية عند أسفل التركيب هو كومة من الأنقاض الرخوة/ علامة لكل ما هو محطم وذاهل.
(كونفلوكس)/ 1993؛ أيضاً يتألف من وعاء تيراكوتا مقطوع إلى نصفين، وهو هذه المرة متوازن وغير مستقر على بلاط أسود إلى جانبه، مريقاً “الغيرو” على الأرضية المحيطة به. (أحببت العناصر المفهومية والرمزية في عملها التركيبي، تلك التي استعارتها من هواجس النسوية فيما يتعلق باللغة التي ينتجها العمل الفني). قالت ألطاف عن ذلك المعرض. زميلتاها الفنانتان النسويتان مالاني وألطاف أقامتا على التوالي معارض فردية متطورة في مومباي مطلع التسعينيات (مدينة الرغبات)/ 1992؛ و(الروابط التي دمرت وأعيد اكتشافها)/1994؛ وفي كلا المعرضين علامة على تطور كبير على أعمالهما التصويرية السابقة في مجالي الأداء والتركيب. كانت حسين قد ناقشت مع أقرانها الحاجة إلى مزيد من اللغة البصرية القوية، لغة يمكن أن تستعمل القيمة الجوهرية للمواد اليومية لاستحضار المفاهيم التفكيكية، وأخيراً بدأت اكتشاف شكل لاهتماماتها الشخصية والفكرية والسياسية.
بعد عام تمت دعوة ألطاف وابنتها ساشا، جنباً إلى جنب مع نانسي أداجانيا، وشيرين غاندي، وشاكونتالا كولكارني، وآخرين؛ للمشاركة في أول عمل فني أدائي لحسين (الحياة في الهوامش)/ 1995؛ وصفت ساشا ألطاف – التي ما تزال طالبة – تأثير هذا العمل التجريبي على مجموعة من المشاهدين في المركز الوطني للفنون المسرحية في مومباي (إنه يستكشف العام والخاص، الذات والآخر. حسين كانت تسائل هويتها، وفي الوقت ذاته تستكشف النسوية).
وعلى الرغم من أنها استمرت بمفاهيمها السابقة في عملها الفني؛ إلا أن حسين وضعت جسمها في مركز هذا العمل، وتطرقت لأوسع القضايا الاجتماعية، مثل زيادة تعرض النساء لأعمال العنف وكونهن ضحايا للعنف، وكذلك في قضايا شخصية محددة، مثل اكتشاف حسين الأخير أن واحدة من عاملات المنازل في بيتها لديها سرطان المبيض، وأخرى مصابة بالإيدز. لم يكن بإمكانها السكوت عن وضع المصابة بالإيدز بسبب المستوى الخطر الذي قد ينجم عن العدوى، وكان لهذا تأثيره المباشر على عرض حسين. (رمانة كانت شخصية شديدة الحساسية) أوضح رحمن. (كانت انفعالية للغاية، وسريعة رد الفعل. كان يمكن أن تنفجر بالبكاء إذا أثارها شيء ما).
على نحو كبير كانت في ذلك الوقت قد اكتشفت عدداً من الكتل في جسدها، والتي تحولت لتكون بداية سرطان ثدي، وكانت في سن الـ43 فقط. تصف ساشا ألطاف مقابلتها لها في هذه المرحلة: (كانت امرأة قوية للغاية، لكنها كانت أيضاً سريعة التأثر، كان يمكنها التحدث عن مخاوفها، وأيضاً حول كيف وجدت أخيراً ما تريد أن تفعله). خضعت حسين لأول عملية استئصال الثدي في مومباي، وفيما بعد بدأت الطيران إلى أمريكا ذهاباً وإياباً لتلقي المزيد من العلاج.
مرة أخرى في مومباي – وفضلاً عن استمرارها في النضال من أجل حقوق العمال وقضايا المناخ ومساعدة مكافحة الشغب – كانت حسين واحدة من أوائل الفنانين الذين احتجوا ضد اضطهاد الفنان الحداثي إم إف حسين الذي بدأ عام 1966، وبعد فترة وجيزة من سفرها مع رحمن إلى أيوديا لتصوير مخلفات العنف وما تبقى في الموقع من الأبنية؛ أطلقت حسين معرضها (الوطن/ الأمة)/ 1994؛ في تشيماولد.
من أجل هذا المعرض ركّبت حسين مظاهر مختلفة وميديا في تجمع لعناصر شبه مسرحية، مبدعةً بيئة غامرة جزئياً. في إحدى زوايا القاعة كان هناك عدد من الصناديق مع كلمات منفردة مطبوعة عليها مثل (مأزق) و(أساور) و(قشر) و(أيوديا)، وفي زاوية أخرى فيديو لأول عرض أدته، وقد تطلّب التصوير دوراً مركزياً، مع صور معمارية موضوعة على لوحات خشبية إلى جانب سلسلة لقطات بالأسود والأبيض لنساء يصنعن تشاباتا أو خبزاً مشروحاً، وعلى جدار آخر تظهر صور أفواه مفتوحة، وأنصاف بابايا تفصلها عن بعضها أقواس من آثار الإمبراطورية المغولية الهندية، وفي أماكن أخرى توجد مجموعة أشياء غير متوقعة تشمل فوط طمث، أساور، وقصاصات جرائد معلقة في مجلدات بلاستيكية. (استعملت مجموعة أشياء حسبما تراه مناسباً، واستطاعت دمج الانفعال والتاريخ الشخصي مع الاجتماعي والتاريخي، و(الوطن والأمة) يدور حول ذلك، كتب سوندرام في الكتالوج الشامل لمعرض 2013 بعنوان: مجموعة "ساهمات"؛ الفن والنشاطات في الهند منذ 1979، ويبدو أن ما جعل حسين تبرز؛ ليس فقط اكتشاف الفن المفاهيمي، بل استعمالها موضوعي المحلية والنسوية اللذين يذكران بالحميمية.
في (قبر بيجوم حظرة محل)/ 1997؛ الجزء من المعرض الجماعي (قصّ الحكايا) في بريتش كانسل في باث ببريطانيا؛ بروعة وبلا عناء يستحضر مبادئ علم نفس “الجشطلت” أي الصيغة والشكل. سميت فيما بعد المثوى الأخير لبيجوم حظرة محل، وهي شخصية من نوع جان دارك، قاتلت بشجاعة شركة الهند الشرقية البريطانية خلال التمرد الهندي عام 1857- 1858، وقد تردد صدى العمل في مستويات عديدة. رواية أردية عن حياة هذه المرأة الأيقونة المنسية من التاريخ الهندي تحكي عن القطيعة مع زوجها، وعن دفاعها عن الهندوس والمسلمين في لكناو، وعن رحيلها عن بيتها نهاية المطاف، كل ذلك يشكل خلفية للتثبيت. صور أرشيفية بالأسود والأبيض لأمكنة، وسيوف، ولوحات جنباً إلى جنب مع لمحات من عروض حسين حيث ترتدي دائماً الثياب السوداء.
يبدو مثل نص خطي على جدران المعرض؛ يتبين أنه ترتيب شعري لأدوات منزلية سوداء اللون، في إحدى زوايا القاعة توجد طبقات من الستائر الداكنة تتدلى من السقف، مربوطة معاً على القاعدة لتشكل مثلثات متداخلة، وفي جهة أخرى توجد منحوتات تصور أنصاف بابايا مبيضة ممددة على سرير أبيض من الأرز الأبيض، ومن خلال الاستخدام المتكرر لمثل هذه الموضوعات تخلق حسين قوتها التعبيرية. هناك حس بالإصرار والسلاسة، لكن مع اختلاف الموضوع والمواد فإنها لا تشكل انغماساً غامراً. خلال هذه الفترة وأثناء زياراتها المتكررة للمستشفى في نيويورك؛ كانت حسين تقضي وقتاً مع مؤرخة الفن مويرا روث والفنانة جميلي حسن، وتناقش العروض والنشاطات ونظرية النسوية.
كل هذا رَشَح في عملها، وكانت في كل مرة تعود إلى الهند مسلحة بحماس وأهداف جديدة، وبدأت بالفعل تكتشف آثار كونها امرأة مسلمة، وما يمكن أن تكون رموز هذا الوضع، لكنها الآن تتعامل بلا خوف مع الأفكار الحالية للتمثيل الجنسي، وتفضح تلك الأفكار، وتستهزئ بها بصفتها أوهاماً مشيدة، وفي عرضها المتحدي (هل هذا ما تفكر به؟)/ 1998؛ بدت حسين أنها واجهت كل أنواع التثبيط، وأخيراً وجدت صوتاً لقلقها منذ فترة طويلة حول وضعها كفنانة وامرأة. جالسة على كرسي بملابس دانتيل داخلية، مرتدية براندي/ ضفيرة اصطناعية طويلة/ يكشف جزئياً الندوب من عملية استئصال ثديها، وبديله الاصطناعي، وكلاهما مرئي تحت حجاب أسود. كصور مصممة لامرأة صغيرة تحمل بنادق تلمع على جذعها؛ بدت حسين وكأنها تقرأ نصاً ببطء.
كما لو أنها تردد من غطاء كتاب قماشي. في هذه اللحظة، مثلما الاعتداءات من عالم خارجي تصبح متوحدة مع الاعتداء الذي واجهته من الداخل؛ بشجاعة شككت حسين بالعالم الذي يحيط بها سائلة: (إلى أي مكان هي تنتمي؟هل قامت بتعريفها؟ هل ناضلت من أجل حقوقها؟ هل نظفت أو كنست أو طبخت لأسرتها؟ هل لديها حبيب؟ هل أصبحت مشوهة؟ هل ذلك حقيقة أم خيال؟) استفزازية وخائفة، متلصصة وسرية، دفعت حسين إلى دائرة الضوءمواقفها من الجنس والدين والثورة والموت بقصد عدم توضيحها.
في تحية تقديرٍ لهذا العمل؛ كتب الناقد الفني جيتا كابور ما يلي في آرت إنديا عام 1999: (ربما علقت كثيراً على جسم رمانة حسين النحيل، لكنها خاطرت بنفسها بطريقة جعلتني أرتعد، وأعيد النظر في الأشكال الأكثر تفاؤلاًوالباقية على قيد الحياة التي نبتغيها لأنفسنا).
مع حلول وقت عرضها الثاني (ما بين وبين)/ 1998؛ المخصص لمعرضها (لتكون قادراً على أن تنضم) كجزء من إقامتها في مركز آرت إن جنرال في مانهاتن بنيويورك؛ كان سرطان حسين قد انتشر. رحمن الذي كان لديه شقة في نيويورك آنذاك؛ يصفها بالمرنة التي تحضر حفلة عيد الهلاوين رغم أنها كانت تحمل على كرسي على الدرج صعوداً ونزولاً، ومذعورة من مواجهة الموت قريباً جداً. في شريط فيديو من (ما بين وبين) نرى حسين مرة ثانية تلبس الأسود، مرتدية باراندي وغونغروس، نضوج واع للنسوية وهي تجتاز ببطء جسر كوينسبورو. تتخلل هذه الصور لمحات مؤثرة لذراعي الفنانة مع خط الوريد المرتبطة به في مركز علاج السرطان “ميموريال سلون” في نيويورك؛ حيث كانت تتلقى العلاج، وكذلك الصور في محطة قطار مومباي المركزية، والبائع الجنوب آسيوي في محطة مترو نيويورك، والأعمال اليومية المتكررة لفرم الخضروات بسرعة في مطبخ صديق في كوينز بنيويورك. يقول ديباك تالوار الذي صالته الآن من ممتلكاتها العقارية، وقابل حسين لأول مرة في هذا المعرض: (هذا العمل يدور حول ربط طرفين اثنين، وثقافتين، وموقفين من التاريخ)، (إنه حول رؤية الشيء الواحد من وجهتي نظر مختلفتين).
بعد أقل من عام خضعت حسين لمرضها، تماماً عندما كان عملها الأخير (مساحة للشفاء)/ 1999؛ يركب في المبنى المعرض الثالث لآسيا والمحيط الهادي ترينيال للفن المعاصر في صالة كوينسلاند آرت في بريسبان، وقد بدا العمل تأملاً ذاتياً وروحياً يعكس نوعاً من الصمت، وشعوراً بالقبول، فيما غُمرت القاعة باللون الأحمر، وملأتها بمجموعة نقالات، والخط العربي (مرة ثانية بشكل أدوات) والذهب والرسوم القرمزية.
يصف تالوار صوتاً تردد صداه في جميع أنحاء التركيب، طنين عميق؛ ربما يرقى إلى الصوت الأبدي للكون. قسم معبد، وقسم مستتشفى، بدا العمل وكأنه ليكمل الدائرة، ويصير فضاء من أجل المصالحة بين كل الذين جاءوا من قبل، وكذلك وجهة نظر من خلال النظر إلى ما يوجد وراء.
من الصعب أن نعرف ما الذي كان يمكن أن تفعله حسين في هند ما بعد التحرير الحالية، مع العنف الجنسي المستمر فيها، والتمييز الطبقي، والأصولية الدينية، ودورات أخبارها على مدى 24 ساعة، والحكومة اليمينية الحالية. غني عن القول إنها كانت ستستمر تستنطق، وتدفع حدود الفن المعاصر المفاهيمي في الهند بطرق من شأنها أن تلامس وتثير من حولها. اليوم التأثير العميق الذي تركته على جيل تالٍ من ممارسي الثقافة يبقي مساهماتها الأكثر وضوحاً في مشهد الثقافة الهندية، بما في ذلك مديري المتاحف مثل ساشا ألطاف، والعارضين مثل شيرين غاندي، والفنانين مثل شيلبا غوبتا (التي طلبت من صديقاتها قطع قماش مع دم الحيض لباكورة أعمالها في عام 2000)، وكل الذين عملوا بشكل وثيق مع حسين خلال حياتها.
في نهاية المطاف لخصت رمانة حسين دورها الخاص كوكيل وحارس للتاريخ الجماعي والفردي في السطر الأخير من بيانها الذي كتبته ليرافق تركيبها الأخير: (أصبح كل واحد منا شاهداً على بيئة التغير الثابت، وعلى الروحية والطبيعة الجسدية الزائلة للعالم ودورة الحياة).