P
R
E
V
N
E
X
T

THE CLOSET (detail), 1997/2015, mixed-media installation, dimensions variable, installed at Salt Galata, Istanbul, 2015. Photo by Ali Erdemci.

Unless stated otherwise, all images courtesy the artist and Galeri Nev, Istanbul.

المأساة والمهزلة

هالي تنغر

Turkey
Also available in:  English

THE CLOSET (detail), 1997/2015, mixed-media installation, dimensions variable, installed at Salt Galata, Istanbul, 2015. Photo by Ali Erdemci.

عندما يجتاز الزائر عتبة الباب نحو الموزع الذي تنيره لمبة فلورسنت وحيدة؛ يشعر فوراً وكأنه سافر في الزمن إلى عدة عقود إلى الماضي. هناك طاولة مائدة عتيقة ملتصقة بالجدار بشكل غير مناسب، ومذياع قديم موضوع على طرف مكتب يصدح بالأخبار عن القضاء على عدد من الإرهابيين قبل أن يتحول البث لتقديم مباراة كرة قدم.

الستائر الباهتة خلف المكتب كانت مسدلة، وإلى اليمين باب يؤدي إلى غرفة نوم بشكل كهف، وهو ما جعلها تبدو كبيرة وفارغة جداً، فيها سريرين مزدوجين بسيطين ومتباعدين جداً، وسرير آخر معزول في زاوية مظلمة.المكان صارم. 

على مكتب تنيره لمبة وحيدة في الغرفة؛ تتكدس الواجبات المدرسية، وهناك كتاب واحد مفتوح على صفحة فيها معلومات عن إصلاحات أتاتورك للباس التركي في عشرينيات القرن الماضي، والصفحة الأخرى التي تقابلها عن تأسيس البرلمان والمحاكم في الجمهورية التركية. خلف الباب الأخير خزانة مضاءة جيداً، ومحشوة بمعاطف صوفية قديمة وبلوزات اصطناعية وأحذية وألعاب أطفال وكراكيب عتيقة من عقود سابقة لكنها تبدو ملونة ودافئة، وأيضاً ضيقة وخانقة، إنها غرفة ذكريات شخص آخر، شخصية عامّة، وفي الوقت ذاته التعرف عليها صعب. بعد فترة يصبح من الصعب التنفس.

 أول إبداعات الفنانة هالي تنغر (الحجرة)/ 1997، وهو عمل قمعي وكئيب، ودعوة للتأمل في المناخ الخانق الذي عاشته تركيا خلال حكم الديكتاتورية العسكرية الوحشي أوائل الثمانينيات. أصبح المنزل مكاناً مجازياً للوطن، ففي تلك الأيام ساد الظلام والصمت، وكان أمن الداخل مخترقاً ومهدداً بما يحدث خارج البلد. 

أعادت تنغر إبداع هذا التركيب في أيلول/ سبتمبر 2015، وذلك من أجل المشاركة في المعرض الجماعي (كيف وصلت إلى هنا) ليستطلع الحياة الثقافية للعقد الذي تلى الانقلاب العسكري في تركيا في 12 أيلول/ سبتمبر 1980، وكانت المقارنة الضمنية بين أوائل الثمانينيات والحاضر لا مفر منها، أي منذ جددت الحكومة الصراع المسلح مع المتمردين الكورد في جنوب شرق تركيا في تموز/ يوليو 2015، وشنت حملة قمعية على نحو متزايد ضد وسائل الإعلام وأحزاب المعارضة والجماعات المدنية، فبدأ الناس يناقشون فيما إذا كان البلد قد عاد إلى أيام ظلام الثمانينيات، أو إلى ما قبل ذلك. وهكذا وبعد مرور 20 سنة توحي (الحجرة) أنها مناسبة لاستحضار الماضي الذي يخشى الناس أن يشبه الحاضر على نحو متزايد. 

عندما تقابلنا أنا تنغر في كانون الثاني/ يناير في إستانبول أخبرتني أنها أصبحت تعي أوجه الشبه الغريبة بين الفترة التي استحضرتها في (الحجرة) والوضع الحالي في تركيا. 

في ليلة من ليالي آب/ أغسطس من السنة الماضية؛ وبعد أن عملت إلى وقت متأخر على التركيب داخل الصالة كانت تستمع إلى نشرة الأخبار المحلية من راديو السيارة وهي في طريقها إلى منزلها، فسمعت هيئة الإذاعة الوطنية تستعمل ذات العبارات تماماً (تم القضاء على تهديد المتمردين الكورد)، والذي كان مقتطفاً من الإذاعة الوطنية تماماً، بعد انقلاب 1980 في (الحجرة). قالت لي: (إنها عبارة مأخوذة من الثمانينيات. لن يتجدثوا أبداً عن الإرهابيين (انقتلوا)، أو (قتلوا)، إنهم فقط يقولون – لسوء الحظ – تم القضاء على تهديدهم، و(الحجرة) لا تعطيك شعوراً بأنك ترى عملاً قديماً، لأن الحالة متوترة مرة ثانية كما كانت غالباً. إنها تناسب المناخ السائد مرة أخرى).    

الشقة في (الحجرة) تقوم على أساس الشقة التي ولدت وشبّت فيها تنغر في مدينة على ساحل بحر إيجة في إزمير عام 1960، حيث تنتمي تنغر إلى جيل مراهقي وشبان أواخر السبعينيات عندما تصاعد العنف بين اليساريين والجماعات اليمينية، وترافق مع الانهيار البرلماني والاقتصادي، فاستُعمل هذا الانهيار لتبرير استيلاء الجيش على السلطة في 12 أيلول/ سبتمبر عام 1980. 

في تلك الفوضى نضج تكونها. في البداية درست علوم الكمبيوتر في جامعة البوسفور في إستانبول، وبعدئذ درست السيراميك في أكاديمية إستانبول الحكومية للفنون الجميلة، وتمكنت نهاية المطاف من مغادرة تركيا عندما تلقت منحة من المجلس الثقافي البريطاني لتحصل على شهادة الماجستير الثانية في الفنون الجميلة اختصاص سيراميك ونحت في كارديف. 

ذكرتني تنغر بابتسامتها الساخرة بأنها طوال حياتها الاحترافية وحتى الآن لم تصنع إلا عملاً فنياً واحداً أيقونياً من السيراميك. 

TURKISH DELIGHT, 2003, Majolica terracotta, one of eight pieces: 8 × 14.5 × 19 cm each.

عملها (حلويات تركية)/2003؛ بعنوانه الساخر هو عبارة عن سلسلة مكونة من ثمانية منحوتات تراكوتا من بريابوس، على غرار تمثال وجد في إفسوس، ويساوي قضيب كل تمثال طول قامته، ثم لونتها تنغر بالكوبالت والفيروز بزخارف نباتية وجدت في بلاط العهد العثماني من مدينة إزنيق، وفي هذا العمل تنصهر اثنتان من الأساطير التأسيسية للأمة التركية في هيئة رجل صغير. 

عندما عادت تنغر إلى إستانبول بعد حصولها على شهادة الماجستير في الفنون، وبدأت تعرض منذ عام 1990 في معارض فردية وجماعية؛ كانت تركيا قد خرجت للتو من الحكم العسكري مع رحيل قائد الانقلاب كنان إفرين من الحياة السياسية أواخر عام 1989. في ذات الوقت؛ كان هناك جيل جديد من الفنانين والقيّمين قد تشكّل جنباّ إلى جنب مع بزوغ المشهد الفني الذي نراه اليوم، مثل بينالي إستانبول الأول الذي نظمته بيرال مادرا عام 1987. 

تنغر من جانبها لم تهدر الوقت، فقد أظهرت شراسة ملحوظة في نقد ثقافة العنف، وكذلك البطريركية التي نشأت في كنفها، وكانت لا تزال تعيش فيها، حيث يمكن اعتبار التسعينيات أكثر السنوات دموية في الصراع مع المتمردين الكورد. وفي أحد أعمالها الأولى من التسعينيات؛ أخذت حلقة من حبل سميك يستعمل لربط القوارب الكبيرة الراسية، ورصعته بأشواك تشبه المسامير، وفي أسفل الحلقة – حيث اهترأ الحبل قليلاً – نحتت وجهاً صغيراً، وسمّت العمل (صورة لامرأة). 

من خلال استخدام الصور والرموز المشحونة للغاية؛ تحدت تنغر منذ بداية حياتها المهنية المزيج السام للميول الإسلامية القومية الاستبدادية التي هيمنت على الحياة العامة في تركيا الحديثة، وخلقت ردود أفعال هي مزيج من الغضب والحزن. في أحد أعمالها الأولى الرئيسة (مدرسة سيكيمدن أسا كاسيمباسا sikimden aşşa kasımpaşa ekolü)/ 1990؛ أي (لم أعد أكترث لأي شيئ بعد الآن)، جمعت كمية هائلة من الحديد المطلي بالزنك يبلغ قطرها أكثر من مترين، مملوءة بسائل لونه أحمر كالدم، وحول محيط قاعه توجد صنابير وُضوء مثل الموجودة خارج المساجد حيث يغسل الرجال أقدامهم قبل الصلاة، وفوق بحيرة الدم علقت عشرات السيوف. 

في العمل تكثيف للإيحاءات الجنسية في كلمات العنوان باللغة التركية، إضافة إلى مواد العمل، أي السيوف وحوض الدم، والإشارة إلى القومية العسكرية والتدين باعتبارهما ما يزالان بالنسبة لمعظم المجتمع التركي تاريخاً مشرفاً. فالنظام في تركيا الحديثة يشير باستمرار إلى فتوحات العصر العثماني أو التاريخ التركي، كما يربط النشيد الوطني التركي اللون الأحمر في علم البلاد بدم جنودها. وثد قيل إن العلم ذاته صمم على أساس انعكاس صورة هلال ونجمة في حوض من الدماء كما رآه السلطان مراد الثاني بعد معركة كوسوفو عام 1448م.

من خلال الربط بين سفك الدماء ذي الصبغة الوطنية بالدين كإستراتيجية لكشف الإيديولوجيات الأساسية التي تشكل بنية المجتمع؛ قالت كان هدفها (إهانة) المشتبه به كنوع من الانتقاد. 

THE SCHOOL OF “SIKIMDEN AŞŞA KASİMPAŞA, 1990, galvanized sheet iron, lead, sword, tap, water and food dye, d: 230 cm, height variable. 

في هذا العمل بالتحديد لاحت بوادر إشكاليته عندما عرض في إستانبول مودرن في أيلول/ سبتمبر 2011، ضمن معرض ضم أعمال فنانات تركيات، بعنوان (الحلم والواقع). ودون جدوى حاول إيمري أكوز كاتب العمود في جريدة صباح الموالية للحكومة استدراج قرائه إلى حالة غضب من خلال تسميته العمل (إيديولوجيا سياسية)، مشككاً في النص الجداري المرافق للعمل الذي وصفه بأنه رد فعل على أحداث العنف التي جرت عام 1990، مثل اغتيال  الناشطة النسوية أستاذة اللاهوت بهراي يوكوك التي كانت تنتقد إيديولوجيات إسلامية معينة. 

فهم أكوز على نحو صحيح استخدام تنغر تلك الرموز على أنها نقد، لكنه صنف وجهة نظرها بصفاقة مع صفّ الحرس القديم العلمانيين الذين هاجموا الإسلاميين في الماضي، وقلل من شأنها بوضعها في زاوية المعركة الاختزالية بين النخبة العلمانية التركية الليبرالية وسكانها المتدينين. اختار أكوز ألا يرى أن نقد تنغر نابع من منظور ليبيرالي أعمق، أي من خلال موقف تربط فيه الأحداث المعاصرة في تركيا مع تاريخ العنف، ولحسن الحظ – وبصرف النظر عن بعض التدقيق فيما إذا كانت إستانبول عصرية – فقد خفف النص الجداري من مضمون العمل، وتوقف الجدل عند هذا الحد. 

العمل الذي وضع تنغر في مشكلة حقيقة هو )أعرف أناساً كهؤلاء II(/1992؛ الذي عرضته في بينالي إستانبول الثالث من ذات العام، وأداره فاسيف كورتون. 

صنعت تنغر مستطيلاً طوله 7 أمتار من تماثيل برونزية صغيرة مأخوذة عن (القرود الثلاثة)، وغطت آذانها وعيونها وأفواهها على التوالي، ووضعت داخله تماثيل بريابوس البرونزية، أي ذات التماثيل التي استخدمتها في عملها (حلويات تركية)، لترسم هلاًلاً ونجمة، وهما الرمزان الموجودان في العلم التركي. 

بعد الهجوم عليها في الصحف؛ قال لها كاتب العمود  بيسير أيفازوغلو عليها أن تتوقع عملاً انتقامياً، وبدايةً حوكمت على أساس المادة (301) بتهمة إهانة العلم التركي. ولعدم وجود علم في العمل؛ فقد كان باستطاعتها القول إن الهلال والنجمة موجودان في أعلام 12 دولة أخرى، فأُسقطت عنها التهم في تلك المحاكمة، ومع ذلك لم ينته عمل المدّعين العامين الذين حكموا عليها لاحقاً في المحكمة العليا بتهمة استخدام رموز مهينة للأمة التركية. وكي تتجنب السجن قدمت تنغر دفاعاً قانونياً على أن تلك الرموز وضعت في العمل من باب التأمل بشكل عام في العنف ضد النساء. وقد حكت لي قصة عن اليوم الذي قضته في المحكمة قائلة: (كان علي القول إن العمل لا علاقة له بتركيا، أتذكر القاضي بنظارتيه بهذا الشكل)، ثم دفعت نظارتها على أنفها نحو الأسفل، ونظرت من فوقها، (كان ينظر إلي وجهاً إلى وجه، وقد سألني مرات عديدة ذات السؤال: ألا علاقة لهذا العمل بتركيا؟ وكان علي أن أجيبه: نعم.. لا علاقة له بتركيا). نهاية المطاف قبِل القاضي حجتها، وأسقطت التهمة عنها. 

تنغر ذاتها كتبت عن مفارقة هذا الدفاع قائلة: (مع ذلك، وهناك في العراء كانت القراءة البصرية، وقد فهمت جيداً من قبل الجمهور). 

I KNOW PEOPLE LIKE THIS, 1992, gas mask, mop, water, iron mesh and iron, 190 × 50 × 45 cm.

WE DIDN’T GO OUTSIDE, WE WERE ALWAYS ON THE OUTSIDE / WE DIDN’T GO INSIDE, WE WERE ALWAYS ON THE INSIDE (detail), 1995/2015, mixed- media installation, dimensions variable, installed at Protocinema, New York, 2015. Photo by John Berens.

NECESSITY OF AIR, 1992, furniture, carpet, curtain, book, blotter, speculum, three-monkey statuette, lithograph, television and chest, site-specific installation at Atatürk Library, Istanbul, 1992.

Detail of NECESSITY OF AIR, 1992, showing the three-monkey statuette and speculum.

دون أن أحضها على المضي في الكلام استمرت في الحديث عن التشابه بين الماضي والحاضر، وقارنت تجربتها  بتجربة بينار أوغرينسي زميلها الفنان من الجيل الأصغر، والذي انضم إلى جماعة من الناشطين الذين اعتقلوا وقضوا عدة أيام في السجن في كانون الأول/ ديسمبر 2015 في مدينة تقع جنوب شرق ديار بكر أثناء مسير للسلام، وكما تقول تنغر: (لم أذهب إلى السجن، ولم أعامل بصورة سيئة من قبل الشرطة، ولم أتعرض لشيئ مما تعرض إليه أوغريسني، لكن عندما انتهت القضية في المحكمة بقيت مصدومة عاماً كاملاً). 

دفعتني مقارنتها لأسألها عن شيئ كان يثير اهتمامي كواحدة من أفراد جيل يقوم باكتشاف التشابه مع الأيام الصعبة التي واجهوها في شبابهم، أي إلى أي حد تشبه تركيا اليوم تركيا قبل عدة عقود؟ كان جوابها أنها تخشى أن تكون الحالة الآن أسوأ بكثير، ففي الماضي كان ذلك يتم بعد استيلاء الجيش على السلطة، أو بحجة “التدخل” في السياسة، لكن الجيش كان يعد بأنه سيترك الحكم في نهاية المطاف. قالت لي: (وقتئذ كان الخوف من عودة العسكر إلى السلطة، ومن محاولاتهم قمع اليساريين، لكن الآن ليس خوفي على الناس اليساريين فقط، إنما على الصحافيين والأكاديميين، وربما حتى عليّ). 

لم تسجن تنغر أثناء محاكمتها أبداً، ومع ذلك لديها شعور بأنها قد تعتقل أو تسجن، وهذا يؤثر في العديد من أعمالها. ذلك الشعور كان أكثر وضوحاً في أول عمل قدمته بعد تحكيمها بينالي إستانبول الرابع بإدارة رينيه بلوك عام 1995. وكان عنوانه (نحن لم نذهب إلى الخارج، لقد كنا دائماً في الخارج/ نحن لم نذهب إلى الداخل، نحن كنا دائما في الداخل). وهو قائم على محرس متهدم وجدته في مبنى مستودع أنتريبو كوستومس المهجور، فوضعته في منتصف الصالة، وأحاطته بالأسلاك الشائكة، كان طوله مترين، وقد تركت فتحة في الجانب الأبعد من السياج، وهكذا كان باستطاعة المشاهدين دخول الساحة التي عرضها 6 أمتار، وطولها 14متراً، فيدخلوا إلى المحرس الوسخ الذي يتسع لشخص واحد، حيث علقت على الجدران بطاقات بريدية لإستانبول، وصور أبطال مصارعة قدامى، ومناظر طبيعية خلابة. وفيه كأس شاي شُرب نصفها، وراديو يبث أغانٍ تركية عاطفية. بهذا العمل يشكل المحرس مساحة ترمز للهوية الوطنية من خلال جعلها محدودة في مكان يشبه السجن. 

إن سيناريو هذا العمل هو التشويش المتعمّد، فالسياج هو أسلاك شائكة مقلوبة وموجهة نحو الداخل لتكون شخصية “الحارس” المتخيل محصورة أيضاً في الداخل، في الزمان والمكان. 

إن الديناميات المشوشة في العنوان توحي أيضاً بفكرة النقد ذاتها، والفنان ليس في الخارج لينظر إلى الداخل، وليس في الداخل لينظر على الخارج.

DECENT DEATHWATCH: BOSNIA-HERZEGOVINA (detail), 1993, metal shelves, jars, Xerox, water and audio by Serdar Ataşer, dimensions variable, installed at Women’s Library and Research Center, Istanbul, 1993.

في مصادفة أخرى أعيد إنتاج العمل عام 2015 في نيويورك بمبادرة من بروتوسينما غير الربحية المتجولة، حيث أعادت تنغر تجهيز العمل من الصفر، لأن الأصل لم يعد موجوداً، وتماماً كما حدث مع (الحجرة)؛ فقد كان الخروج من الزمان والمكان الذي تحقق من خلال تلك الحجرة الصغيرة مدهشاً، كما لو أنه فاكس فضائي لشيئ واقعي وقديم، له تاريخ محدد، ويتكلم أيضاً عن البيئة الاجتماعية والسياسية كلها، والتي أعيد خلقها بطريقة لا يمكن تمييزها تقريباً عن التركيب الأصلي.

سألت تنغر كيف بدأت بإبداع تلك التركيبات أو البيئات؟ فقالت إنها لا تملك إجابة محددة على ذلك، مضيفة أنها جاءت بسبب تحدٍّ للقيام بشيئ ما غير المنحوتات، وكان عنوان العمل الأول من هذا النوع (ضرورة الهواء)/ 1992؛ الذي عرضته بالتزامن مع بينالي إستانبول الثالث في قبو مكتبة أتاتورك. وفي العرض محاكاة لرمزية المتاحف، وكون تنغر استخدمت فقط الأشياء الموجودة في مخازن المكتبة، فوضعت السجاد العتيق على الأرض، والحبال المخملية النحاسية لتخط من خلالها نوعاً من الفصل التعسفي لما هو داخل المساحة وما هو خارجها، وعلقت ستائر ثقيلة على الجدار رغم عدم وجود نوافذ هناك كما الستائر في (الحجرة)، لتسهم في خلق مناخ قمعي.

ومن المعروضات في خزانة العرض منظار نحاسي بمواجهة القرود الثلاثة (لا أسمع شراً، لا أرى شراً، لا أتكلم شراً)، وكانت تلك المرة الأولى التي تستعملهم، في إشارة صغيرة لقضايا مرتبطة بالمرأة وبثقافة الصمت حول أخطائها. وهذا لا يمثل تحولاً في أساليب العرض فقط، بل يمثل أيضاً اهتمام تنغر باستعمال المواد الموجودة، أي الأشياء الجاهزة والمشحونة بتاريخها الخاص. كان العرض متحفاً صغيراً للتاريخ السياسي، وما كان لأي واحد من أي مؤسسة أن يكتبه أبداً.

غالباً تتخذ تركيبات تنغر تواريخ سياسية عامة كأساس لمرجعياتها، لكنها قدمت أيضاً العديد من الأعمال استجابة لأحداث محددة. فعملها (أعرف أناًساً كهؤلاء)/ 1992؛ هو تمثال مخيف لقناع غاز موصول بنهاية ممسحة معلقة فوق زبدية معدنية، ومغطى بشبكة قفص حديدي، وكان هذا العمل تجسيدها الخاص لرجل مجرّد من إنسانيته، وحسب تعبيرها (قطع صلته مع ذاته)، وبذلك أجابت على أسئلتها حول فترة العنف القاسية بين قوات الأمن والمتمردين الكورد (حصلت عندنا كل تلك المجازر، وذاك القتل والعنف). الحرب غير المعقولة والإبادة الجماعية التي حصلت في العقد الأخير من القرن الـ20 التي كانت تحدث في أوروبا دفعت تنغر لإنتاج (ساعة موت لائقة: البوسنة والهرسك)/ 1993؛ وهو عبارة عن تركيب مكون من رفوف معدنية مصفوفة مع 864 جرة مملوءة بالماء، تحتوي على نسخ قصاصات جرائد لها علاقة بالحرب البوسنية.

الأشخاص والقصص التي تظهر في الصور محدودة و"سجينة" مرة أخرى في جرار مليئة بالسوائل بصورة تشبه العينات. وقد عرض هذا العمل في قبو مركز أبحاث ومكتبة النساء في إستانبول، فامتلأ الجو بأصوات مقابلات أجرتها تينجير بالتعاون مع سردار أتيسير في مخيم غازي عثمان باشا للاجئين البوسنيين في كيركلاريلي في تركيا، حيث تم إيواء لاجئي الحرب.

لم أكن أفكر في ذلك الوقت من خلال حديثي مع تنغر، لكني تيقنت فيما بعد أن هذا العمل فيه تشابه – بكل أسف – مع ما يجري في الوقت الحاضر، باعتبار أن تركيا أصبحت المضيف الأكبر للاجئين السوريين، والكثيرين ممن يعيشون في المخيمات يواجهون مستقبلاً مجهولاً، فمن الممكن ألا يعودوا إلى وطنهم أبداً.  

SHROUD (detail), 1996, found objects including furniture, carpet, fan, spotlight, toddler shoes, photographs and shroud, dimensions variable.

I KNOW PEOPLE LIKE THIS III, 2013, photographs from press archives, dry laser print on medical imaging films, Plexiglas sheets, LED and metal, dimensions variable. Photo by Murat Germen.

ومع ذلك هناك حدود للتاريخ الماضي الذي تريد تنغر استعادته في الحاضر. سألتها عن عمل آخر غير معروف كأعمالها الأخرى، وهو من أواسط التسعينيات اسمه (الكفن)، صنعته في المتحف الجديد في نيويورك عام 1996 بدعوة من القيّم دان كاميرون، والعمل عبارة عن غرفة تثير سيناريو غامضاً مع شخص ميت في كفن أبيض، وموضوع على سجادة. وهناك مروحة ونور نابع من الأرضية يضيء الجسم، وما تبقى من الغرفة فيه أثاث غير مكتمل، أي سرير بلا فراش، وخزانة مع صورتين قديمتين للبحر ملصقتين عليها. حين سألت تنغر عن العمل قالت لي: (لا أريد عرضه الآن، ليس مع كل أولئك الناس الذين ينتظرون الموت في أقبية المنازل)، مشيرة بقولها هذا إلى القصص المروعة التي كانت تأتي وقتئذ من المدينتين الكورديتين سيزر وسلوبي في إقليم سيرناك على الحدود بين سورية والعراق وتركيا، واللتين كانتا محاصرتين من قبل قوات الأمن التركية التي كانت تمنع سيارات الإسعاف من الوصول إلى السكان الموجودين في مرمى النيران، ما أدى إلى موت الأشخاص الذين لا يتلقون العلاج في الأقبية التي اتخذوها ملاجئ لهم. والسرد الأصلي لتنغر عن العمل يقترح شيئاً ما غير محدد تماماً، ربما حياة الشباب المفقودين في كلا جانبي التمرد الكوردي، قبل وقتهم، وقبل أن يتم التجسيد المعاصر لهذا العمل سيكون مشحوناً بثقل الحاضر الذي تفوق أهواله أهوال الماضي من بعض الجوانب.      

هناك بلا شك عنصر في أعمال تنغر يقدّم عن قصد وبإصرار الكثير من الواقعية التي تهز سكينة المشاهد أياً يكن، حتى سكية تنغر ذاتها، لكن في أعمالها أيضاً الكثير من الإيحاءات الضمنية، مثل القرود الثلاثة التي تقول إن الحلقات المؤلمة في التاريخ التركي بقيت على هذا النحو، لأن مناقشتها أو الاعتراف بها يتم قمعه باستمرار، وربما كان المثال الأكثر وضوحاً هو عدم الاعتراف رسمياً بالإبادة الجماعية للأرمن، بما في ذلك المجازر الأخرى التي ارتكبت ضد الأقليات العرقية، مثل العلويين، والكورد، واليونانيين، ومن بقي حياً من الأرمن الناجين، وكذلك الجرائم التي ارتكبت ضد اليساريين، والجماعات البديلة، واغتيالات الأفراد.

تاريخ العنف غير المعترف به هو الرابط بين الأعمال الثلاثة التي حملت عنوان (أعرف أناساً كهولاء III) الذي قامت به من أجل معرض (الحسد والعداوة والإحراج) في صالة أرتير غير الربحية عام 2013.

ملأ تركيب تنغر الشارع المقابل للصالة أمام البناء، مع متاهة صندوق إضاءة ارتفاعه يزيد عن مترين، ووضعت على السطوح المضاءة صوراً من أرشيف الأخبار مطبوعة على أفلام أشعة سينية، وتمثل الصور بوضوح اللحظات التاريخية التي لم يتم الاعتراف بها، مثل الاحتجاجات بسبب اغتيال الصحفي الأرمني التركي هرانت دينك عام 2007، إلى جانبها صور لمحاكمات صورية غير معروفة جيداً، ولإعدامات ومجازر، وحلقات غامضة من تاريخ تركيا القرن الـ20، وقد رتبت كلها بعكس الترتيب الزمني، وهكذا فإن تجوال المشاهد في العمل يأخذه من الزمن الحاضر إلى الزمن الماضي في التسعينيات، في إشارة جريئة لم يلاحظها على ما يبدو الناس الذين يحاولون تعبئة الرأي العام بالغضب ضد أي موضوع يقدم سرداً يخالف سرد الدولة، مع أن الصور الأولى كانت مأخوذة قبل أسابيع فقط من افتتاح المعرض، وذلك من خلال النوافذ التي تقع على مستوى الشارع، حيث بإمكان المشاهدين رؤية صور العمليات الأمنية والأحداث التي كانت وسائل الإعلام الرئيسة جبانة في متابعتها.

SWINGING ON THE STARS, 2013, still from video installation: 2 min 57 sec. 

BALLOONS ON THE SEA, 2011, still from seven-channel video installation with audio: 5 min 40 sec, 900 × 1,400 cm.

من خلال استعارة التركيب ثمة محاولة لتوظيف أرشيف الصور، كصور الأشعة السينية التي تتيح لنا إلقاء نظرة على ما هو موجود داخل الجسم (السياسي والاجتماعي)، ونكتشف أمراضه وكسوره.

عندما كنا نتحدث ذكرتني تنغر أن عمر العمل 3 سنوات فقط (لو أردت الحفاظ عليه حتى الآن فقد كنت سأضيف عليه الكثير من الأشياء. وضعت هرانت دينك في تلك السلسلة، والآن علينا إضافة طاهر إيلسي)، مشيرة إلى المحامي الكردي الذي اعتقل في تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، لأنه نشر ما تسميه الدولة “دعاية إرهابية”، وهو الذي دعا إلى مزيد من الحكم الذاتي في المناطق الكوردية في جنوب شرق تركيا، واغتيل في تشرين الثاني/ نوفمبر بعد تصريح صحافي يدعو فيه إلى السلام.

عرض عمل (أعرف أناساً كهولاء III) في الأشهر التي سبقت احتجاجات تقسيم جيزي بارك، والتي اندلعت أواخر أيار/ مايو، واستمرت حتى حزيران/ يونيو عام 2013، وهي سلسلة ا حتجاجات صغيرة اندلعت بعد الإعلان عن خطة لهدم الحديقة المركزية في ساحة تقسيم لإقامة سوق تجارية مكانها، وقد تطورت الأحداث إلى سلسلة انفجارات ضد الحكومة على مستوى البلد، فحررت مكنونات سنوات من الإحباط المكبوت.

قاد جيل الشباب والمتعلمين بصورة عامة الأحداث، وقد قُلل من شأنهم باعتبارهم غير مسيسين مقارنة بجيل تنغر الذي جاء في زمن يعج بصراع الفصائل السياسية. طلبت منها والدتها بعد عمل (أعرف أناساً كهؤلاء) أن تقدم ما أقل مأساوية. قالت لي: (لم تستطع أمي البقاء في المتاهة وقتاً طويلاً، لكني أيضاً أسبب لذاتي حزناً عميقاً في أعمالي الشخصية، وفيما يخص هذا العمل، فقد كنت أبكي باستمرار وأنا أجمع تلك الصور).

لكن يبدو أن التاريخ والواقع لصيقان بتنغر، حتى عندما تدعي أنها حاولت إبداع شيئ ما أقل كآبة ومأساوية كما وعدت أمها، وسواء حققت ذلك أم لا؛ فإن الأمر مشكوك فيه، فالنسخة الأولى من تركيب الفيديو الذي صنعته (التأرجح على النجوم)/ 2013؛ الذي عرضته في صالة نيف في إستانبول مطلع عام 2013، وقبل احتجاجات ساحة تقسيم؛ يصور القرود الثلاثة وهي تتأرجح أمام خلفية مليئة بالنجوم منتصف القرن، وتسمع الأغنية التي تحمل ذات الاسم (هل تريد أن تتأرجح فوق النجوم)، وباستخدام شعارها المفضل كرمز سياسي؛ تشير مرة ثانية إلى الدولة، وإلى رفضها الاعتراف للشعب بجرائمها، التي تضمنها عملها (أعرف أناساً كهولاء III) بما فيه من إشارات، مع المفارقة المضافة، أي الأغنية التي تدل على الشعور بالابتهاج.

لكن بالنظر إلى عرض العمل قبيل احتجاجات ساحة تقسيم تماماً فإن تدفقاً حقيقياً للسخط الذي يقلب الصورة النمطية لجيل الألفية التركي – كجيل غير سياسي – رأساً على عقب، فقد صممت تنغر نسخة ثانية من العمل ترفع فيه القردة قبضاتها، وتبدأ بترديد بعض الشعارات الساخرة المختلفة التي شاعت في الاحتجاجات، إذ كان المحتجون يغنون (سيك باكاليم، سيك باكاليم، بيبير غازي سيك باكاليم)، وقد تجرأ البوليس وأطلق النار على جوقة “مسيرة غاز الفلفل” في الوقت الذي كانت فيه سحب الغاز المسيل للدموع تغطي القردة المحتجين.

إن كان هناك أي تفاؤل في أعمال تنغر – ما عدا اللحن الذي يبدو متفائلاً في (التأرجح فوق النجوم) – فقد ظهر في تركيب الفيديو (بالونات فوق البحر)/ 2011؛ الذي كانت تنغر تعمل عليه بداية الربيع العربي، وهو يقوم على صورة سابقة لشاطئ إزمير حيث تقع مدينتها بالقرب من باسبورت بيير ذات البلاط المميز، وفي خلفية الصورة تظهر سفن الناتو الحربية، حيث تتم لعبة تركية فريدة، حيث وضع بائع جوال بالونات مصفوفة ومتدلية تعوم على سطح البحر، والمارة يدفعون مالاً ليطلقوا عليها من بندقية هوائية، وهي هواية يبدو أنها تعكس اهتمامات الناس المتعسكرين على نحو كبير، حيث كل الرجال يخدمون في الجيش.

في تركيب تنغر توجد شاشة أولية رئيسة كبيرة تعرض البالونات المصفوفة على سطح الماء مع أن الصورة مقلوبة رأسا على عقب، وخلف شاشات العرض تظهر بالونات منفردة، وحين يتم الإطلاق على البالون في الشاشة الرئيسة فإنه يختفي عن الشاشة الخلفية، لكنه يعود إلى الظهور بعد فترة قصيرة، وحسب وصف تنغر الخاص فإن البالونات تمثل البشر (مثل السجناء المكبلين مع بعضهم ومصفوفين إلى الجدار قبل أن تطلق النار عليهم، الفارق الوحيد أنها تعود إلى الحياة). وفيما يخص كل كآباتها؛ فإن تركيب تنغر يصور أيضاً كيف تتجدد كل العوامل المطورة للتاريخ مراراً وتكراراً. (هم يعودون – أياً كانت أهدافهم بهذه الطريقة أو بأخرى – والأشياء لا تبقى على ما هي عليه). ثم أردفت بعد وقفة قصيرة: (حسنٌ، لا يزال الوضع كئيباً بطريقة ما، لكن على نحو غريب يدعو إلى التفاؤل بالنسبة لي). أعتقد أن هذا الشعور متفائل أكثر من أي شيئ سمعته من قبل أفراد مثل الفنانة، لديهم تشاؤم حول التقدم البشري المفترض، وربما بالنسبة لأي فرد، ممن ينظرون إلى العالم بمثل تلك الواقعية القاسية.

على الأقل وبرأيها إن الأشياء تتجه بالتأكيد نحو الأفضل، رغم أن كل شيئ يوحي بعكس ذلك، وإن كان صحيحاً في معظم الأحايين أن الفنانين هم الأخيرون في مشهد الجريمة كي يخبروا عنها ويصفوها ويرووها؛ فإن أعمال هالي تنغر التي تبدو بتاريخيتها أكثر ارتباطاً من أي وقت مضى بوصف الحاضر، وكون الفنان الأخير له مزاياه الخاصة، أي أنه موجود في الطليعة حين يدور التاريخ دورة أخرى.