قيل إن الأوقات التي يكون فيها الاقتصاد قوياً تولد جرائم ذوي الياقات البيضاء، والتعاملات المتباهية المرتبطة بسوق الفن التي تبدو ساحة خصبة لاستضافة الأجندات العكرة. في رحلتي الأخيرة إلى هونغ كونغ دعيت إلى لقاء مجموعة مستثمرين ذوي نوايا غامضة. بعد ما يقارب عقد من الزمن من الأعمال التجارية في المزادات تعلّمت أن أؤلئك الذين يحيطون أنفسهم بمتاهات؛ يريدون فقط التضليل، أو – ربما – لا أعرف ماذا يريدون، لكني وافقت على إعطائهم ساعة كرمى لزميلي.
تم استقبالي في بهو الفندق، ثم اصطُحِبت إلى غرفة مجلس الإدارة حيث كان ينتظرني بضعة رأسماليين مغامرين، وعالِم واحد يحمل كومبيوتراً محمولاً. كنت المرأة الوحيدة في الجلسة. لم يخفف من حرج اللقاء المزاح المتبادل حول فيما إذا كان الباب قد أقفل، أو إذا كنت قد أعطيت أحداً عنوان مكان وجودي.
قدمت لهم فكرة عن مجال عملي (الفن الآسيوي المعاصر)، وكيف بدأته (الظرف والتوقيت)، وقدمت بحذر إلماحات حول ما لا أفعله ولا أعرف شيئاً عنه (من فضلكم، لا رسومات سكرول ولا خزف أو إرث عائلي قديم). استقبلت بحرارة ولهفة، وغامرت بعد توقف قصير وسألت: (وأنتم ماذا تفعلون؟).
سريعاً بدأ عرض تقديمي، واستلمت بيدي زجاجة صغيرة مليئة بملايين الرقائق التي يعتقد أولئك الرجال أنها ستحل مشكلات التزييف في سوق الفن. كل رقاقة يمكن أن تكون جزءاً من نسيج اللوحة، أو أن تُربط بقطعة فنية معنية. تحتوي في داخلها تاريخ العروض التي شاركت فيها القطعة، والمصادر، ومعلومات عن الفنان الذي صممها، وعن صناعتها. يبدو أن سعة تخزينها غير محدودة. فهمت أنه لا بد من طريقة يمكن من خلالها فحص الرقاقة، وتحديثها مع كل استعمال جديد، وأن بياناتها الخاصة يجب أن تحفظ في مكان آمن ولوقت غير محدود لقاء أجر ما.
أثار ذلك اهتمامي، لكن لكل الأسباب الخاطئة كان اسم تلك الشركة رديفاً لشيء لا يمكن لها تحقيقه أبداً، وهو (الحقيقة).. مثل المشاريع العقارية التي يطلق عليها اسم ما دمرته.
تبين أن اللجوء إلى التقدم التكنولوجي بهدف التحقق إن كانت القطع الفنية أصلية أمر شائع كثيراً، فالمؤسسات القديمة التي تقدم إثبات صحة نسب العمل الفني لصاحبه من خلال توظيف البحوث وخبراء فن على دراية عميقة مع فنان بعينه؛ كانت قد توقفت عن العمل. وعلى سبيل المثال، وبعد سلسلة دعاوى قضائية وفضائح صغيرة؛ قررت مؤسسة وورهول عام 2001 وضع نهاية لممارسات من هذا النوع، ومنذ ذلك الوقت مؤسسات أهم الفنانين قامت بذات الأمر، ومنها جان ميشيل باسكوايت، كيث هارينغ، روبرت مذرويل، روي ليختنشتاين، وألكسندر كالدير. وبسبب اتهامات شككت بأجنداتها التي أفادت البعض واستبعدت آخرين؛ فإن العديد من تلك المؤسسات التي لديها هيئات تمويل وبرامج منح دراسية قررت – ربما بحكمة - أن هناك أشياء أخرى أفضل يمكنها القيام بها.
اتبعت مؤسسة ديدالوس الممثلة لتركة روبرت مذرويل أسلوبا مختلفاً، فبالعمل الوثيق مع جيمس مارتن من أوريون أناليستيك – إحدى المؤسسات الرائدة عالمياً في علم الأدلة القانونية – بنت قاعدة بيانات لأعمال الفنان الأخيرة، وأي ادعاء جديد لنسب العمل – مثل عدم وضوح المصدر – يمكن معالجته، عبر المقارنة مع قاعدة واسعة للبيانات، تعتبر بمثابة دعاوى “أبوة” للأعمال الفنية اليتيمة.
أنشأت جامعة نيويورك في ألباني مركز أبحاث تموله شركة تأمين حقوق الملكية “ARIS” لتطوير نظم وتقنيات تحقيق مستقل لبطاقات التعريف المرفقة بالأعمال الفنية وتتبع حركتها، في مزيد من الجهود المتضافرة لوضع معايير لهذا النشاط. بمعنى ما يتبنى المرء موقفاً راديكالياً للاعتراف بأن صناعة الفن جزء من صناعة تجارية أوسع، وأن عدداً مذهلاً من الفنانين وقّعوا للمشاركة في هذا المشروع.
يبقى السؤال مفتوحاً: كيف ستؤثر هذه الرقابة على إبداع الأفراد غير المعروفين حتى الآن، أو لا يرغبون بتصور أعمالهم الإبداعية على أنها سلعة وفن للتسويق؟ وكيف ستدير الهيئات المختلفة الأعمال الفنية حين يكون لبعضها رقاقات تتبع حركة، وبعضها الآخر ليس لها؟ المثير أن النظام الراهن غير منظم، إلى درجة أن البعض يعتبره سيئاً للغاية، فالفنانين الأحياء يبادرون بالتدخل. لكن لن تكون لمعظم الفنانين بعد موتهم منظمة ممولة تمثّلهم مثل ديدالوس.
إن علم الأدلة المتقدم ضروريٌ في محاكمات عالية المستوى مرتبطة بتزوير الأعمال الفنية. ولنأخذ حالة مزور معروف، هو: وولفغانغ بيلتراتشي الذي ادعى أنه زور أكثر من 300 لوحة، ويعتقد أن عدداً منها في متاحف أوروبية. تم استدعاء شركتي أوريون أناليتكس ومارتن لهذه القضية، فاكتشفتا أن بيلتراتشي الذي كان دقيقاً باستعمال مواد متقنة تاريخياً؛ لم يدرك أن صناعة الألوان غيرت صيغة الزنك الأبيض، حيث تمت إضافة مركب جديد لم يكن موجوداً في الأعمال الفنية التي زورها. وفي النهاية حكم على بيلتراتشي بسجن مخفف أتاح له قضاء وقت في مرسمه، حيث لا يزال مستمراً في الرسم، ويقدم أعمالاً باسمه الخاص.
في مثل هذه الحالات ثمة ما يدعو للشماتة – إلى حد ما – بالنسبة لخطورة نتائج الكشف عن الحقيقة والتزييف. أورسون ويلز في مقالته الجدلية التوثيقية (الفاء يعني التزوير- F for Fake) التي كتبها عام 1974؛ يتابع قصة شهيرة لمزور آخر للفن، وهو: إلمير دي هوري، وعلاقته الطفيلية المتبادلة – كما يبدو – مع الكاتب كليفورد إرفينغ. آنذاك كان إرفينغ يكتب عن هوري ليعزز شهرته ولانتشار مقابلاته الوهمية مع شخصية مختلقة لرائد أعمال اسمه هوارد هيوز. يستمتع ويلز إلى حد بعيد بالمتاهة التي خلقها وهو يكسّر فكرة التأليف برمتها من خلال إنجازات وهمية، وتوأمة الشهرة والفضيحة.
يخلص ويلز إلى نتيجة محرجة بعض الشيء، فأزمة الأعمال الأصلية سبّبها الخبراء الذين امتصوا المتعة والجمال من العمل الإبداعي عندما سلّعوا المعرفة. لكن الخبرة الأساسية في بعض الحالات الأخيرة أثبتت أنه عقبة مزعجة في ظل وجود أموال على المحك.
في عام 2011؛ تم إغلاق أقدم صالة عرض “نويدلر للفنون” أبوابها، وهي التي افتتحت عام 1864، تم ذلك بسرعة وهدوء بسبب تاريخ فسادها الذي بدأ ينكشف منذ عام 1994. وقد دعي علم الأدلة ثانية لقول رأيه في المسألة، لكن كان من الضروري إجبار الصالة على إغلاق أبوابها، والقبول بتسويات متعددة خارج المحكمة.
فقد كشفت تاجرة فن غير معروفة عن أعمال تعبيرية تجريدية لم تشاهد من قبل أبداً، كانت تضعها غالباً في لفافات في المقعد الخلفي لسيارتها المرسيدس، لتعطيها إلى مدير الصالة، وتتلقى مبلغاً أقل مما يمكن أن تشك فيه الحكومة الفيدرالية. ادعت التاجرة أن صاحب اللوحات أصر على عدم كشف هويته، فأصبح يعرف باسم السيد "إكس"، فيما عرضت مجموعته في الصالة باسم (سانتا السري). تطورت الأسطورة إلى الاعتقاد بأنه سويسري أو مكسيكي، أو سويسري الجنسية يملك بيتاً في المكسيك، وأن له علاقة سرية خارج إطار الزواج مع عشيق كان معروفاً بتمويل أعمال من المدرسة التعبيرية التجريدية. حقيقةً كانت التاجرة تكلف فناناً صينياً يعيش في كوينز في نيويورك بإنتاج اللوحات.
يشك المرء بكل الأطراف التي شاركت في الغش المتعمّد حين مواجهة تحفة لفنان يخطئ في كتابة حروف اسمه. ففي لوحة يُزعم أنها لجاكسون بولوك ورد خطأ إملائي في الاسم “بولاك”. ولأن الفنان كان معروفاً بإفراطه في تناول الشراب، فمن المحتمل أن يكون قد أخطأ بتوقيع اسمه عندما كان سكراناً. لكن هل من الحكمة أن يكون سعر اللوحة مليونا دولار؟
إن الغضب الذي ولّدته مثل تلك الحوادث يبدو غير معقول أحياناً مقارنة بجرائم أخرى، وهي في الحقيقة تثير تساؤلاً حول النظرة الرومانسية لصناعة الفن التي يتم تداولها منذ فترة طويلة، ونادراً ما يتم الاعتراف بها، فالفوائد الروحية لإثراء الذات والتأمل بالجمال تتحقق للفنان والمشاهد، وللمقتني في هذه الحالات. إن الرغبة في اقتران اسمنا بمثل هذه الأعمال تعكس رغبة روحية بتجاوز المرء لشعوره بذاته روحياً أم ثقافياً أم اجتماعياً، وربما كل ذلك. فالذات الأخلاقية تجد في التعبير طعم جرأة رائع، وكذلك في الموضوعات المحيطة بها، وعندما يتم تزييف أعمال فنية تجعل مقتنيها الجديد يبدو مغفلاً، في حين يُنظر غالباً إلى عملية الشراء انعكاساً لصفاته الشخصية، ولهذا عندما تكون العملية وهمية وخادعة تكون مذلة، وبمثابة صفعة لنخبة المليونيريين والمليارديرية الذين يملكون ميزانية عالم الفن. فبعدما كانوا يجسدون بثقةٍ أعلى مستويات الذوق؛ باتوا اليوم مجرد مدعين لا قيمة لهم.
على أي حال؛ الأمثلة الأخيرة تتحدى تلك الأفكار الرومانسية. فقد تصدر الجامع الصيني ليو يكيان الأخبار عندما تم تصويره وهو يشرب الشاي من فنجان سلالة مينغ الذي اشتراه بـ36 مليون دولار. وهذا مثال آخر عن إساءة صارخة للامتياز الخاص لشراء الأشياء الرائعة من قبل ملياردير حديث، أصبح معروفاً جداً ليس بسبب مشترياته؛ إنما بطريقة عرضها، فهو وزوجِه وانغ وي يملكان متحفان رئيسان في شنغهاي، ومتحف في تشونغكينغ.
في مقابلة نشرتها مجلة أورينتيشن في كانون الثاني/نوفمبر عام 2010؛ روى ليو قصة مزاد على محبرة حجرية تعود لسلالة تشينغ مع حامل من خشب الزيتان النادر. لم تتمكن الصالة من التحقق إن كان الخشب بالكامل من تلك الحقبة، فربما يكون جزءاً واحداً قد أضيف لاحقاً، وربما لا. بدأ السعر متواضعاً بين 20 ألف و30 ألف دولار، ثم ارتفع بسرعة إلى 700 ألف دولار، وروى ليو: (عندها فقط تيقنت استحالة أن يكون الحامل مزيفاً وأضيف للقطعة في فترة لاحقة، وإلا لماذا أراد شراءه العديد من الأشخاص؟).
كخبراء صالات مزادات؛ يحاول بعضنا أن تقتصر مشتريات المقتنين على ما نحبه فقط، أو بالأحرى القادرون على حبه. إن الأسعار المرتفعة أجبرت المقتنين على اتخاذ معايير أمان إضافية للتأكد من موثوقية البيانات أو بطاقات الرسامين أو مرفقات العمل الفني أي الأصل والتواريخ، والبعض يشبّه ذلك بدور وكالات التقييم أثناء أزمة سندات الرهن العقاري، وأنا أشبّه الأمر بمؤسسة الزواج التي تكون مثقلة أحياناً بدوافع مختلطة، حيث يستطيع المرء الزواج لجميع الأسباب. وإذا تزوج لأي سبب غير الحب ولم ينجح زواجه؛ فربما ستكون الكلفة أكثر من وجع القلب. وهل هناك أصعب من ألم القلب المكسور؟
To read more of ArtAsiaPacific’s articles, visit our Digital Library.