رغم فوضى المدن وقبحها وضجيجها؛ فإن لديها ميلاً شعرياً لخلق لحظات للجمال بطريقة غير متوقعة. ورغم حجمها وتنوعها؛ فإن هناك أوقاتاً لتتم الأمور معاً.
لقد خبرت واحدة من هذه اللحظات مصادفةً عندما زرت صباحاً استوديو رانا بيغوم في هارينجي شمال شرق لندن. بدأ الأمر عندما اكتشفت – باقترابي – أن الفنانة تعمل في الشارع حيث البيت الذي سكنته خمسة أعوام سابقاً، وأصبح شعوري أقوى حين اجتزت الزاوية نحو الساحة، حيث استأجرت بيغوم ورشتها، الاستوديو المكون من طابقين، وهو موقع تتشاركه مع مخزن عربات الآيس كريم.
تحت أشعة الشمس توجد أرتال شاحنات صدئة، في منظر متعدد الألوان والأشكال في ضوء الربيع المشرق، وهي بلا سائقين وفارغة، وليست لها وظيفة. كان هؤلاء الجيران الملاصقين للفنانة قد أطلقوا عليهم بعض النقاد لقب (الرومانسية الحضرية).
ذكرني ذلك بأساس فنّ بيغوم وتأثيره حتى قبل دخولي إلى مرسمها، وهو المستمد من التقاء مصادفات وجود الأشياء، ومن الفطنة لملاحظة هذه المصادفات، لتستحضر أعمالها الفنية لحظات جماليات بهية لتقاطعات مبسطة للضوء واللون والشكل.
مثال على هذه المصادفات؛ عندما فازت مؤخراً عام 2016 بجائزة مجموعة أبراج للفنون، وقد منحت 100 ألف دولار لقاء تركيبها الضخم كي يعرض في معرض دبي للفنون في السنة التالية.
اقترحت بيغوم سلسلة مثلثات زجاجية ملونة طولها 10 أمتار وعرضها 9 أمتار تعرض في الهواء الطلق، مرتبة لالتقاط الضوء الإماراتي المتغير. ومع ذلك أراد المنظمون وضع التركيب في الداخل لعدم توافر مساحة، وتبع ذلك نقاش حامٍ في استوديو بيغون، وقالت إنها تخشى ألا تتلقى القطعة الضوء الطبيعي في مكان تركيبها.
عندئذ، وفيما كان المنظمون يقدمون حججهم المضادة؛ ظهرت حزمة ضوء عبر الباب المفتوح أكدت وجهة نظر الفنانة بضرورة عرض التركيب في الخارج، فوافق المنظمون وقالوا (يجب أن يكون العمل في الهواء الطلق).
هناك رمزية دينية واضحة في لحظات كهذه، لكن هكذا تفسير يمكن أن ترفضه بيغوم رغم نشأتها ضمن أسرة مسلمة متشددة، والعديد من المعلمين والمربين حثوها في وقت لاحق على توظيف ذلك في فنها، حيث قاومت طويلاً توظيف الهوية أو الدين كموضوع، وهي تتجنب حتمية السيرة الذاتية لصالح الاستجابة الديناميكية للمصادفة والتغيير.
ورغم أن الضوء هام في عملها؛ فإنه يشار إليه لجماله وكشيء لا معنى له، وليس كرمز روحي أو غير ذلك.
كانت بيغوم متحفظة في مناقشة تفاصيل السيرة الذاتية أثناء لقائنا، لكن ليس بسبب الحفاظ على الخصوصية، إذ تكلمت بانفتاح عن ولديها وصورهما المشتركة في أنستغرام وهما يلعبان بين أعمالها. كان سبب إصرارها على تجنب الحديث عن السيرة الذاتية؛ رأيها بأنّ فنّها يجب أن يتحدث عن ذاته، وهذا موقف عميق يسِم أعمالها التي تتم تسمتيها بأرقام متوالية، والتي تجاوزت الآن 700 عمل.
ورغم هذا التحفظ؛ فإن تأثيرات السيرة الذاتية على عمل بيغوم بدأ يظهر في الأعوام الأخيرة، عاكسة العديد من اللحظات المميزة، وذكريات من مرحلة طفولتها.
ومع أنها عاشت معظم حياتها في المملكة المتحدة؛ إلا أن بيغوم ولدت في ريف سيلهيت ببنغلاديش عام 1977، حيث قضت أعوامها الأولى تفكر في الألوان النابضة بالحياة ووجوه حقول الأرز وبرك الماء وهي تتلقى ضوء النهار المتغير.
واحدة من أقوى ذكرياتها من تلك المرحلة؛ قراءة القرآن في مسجد محلي. كانت تجلس حيث الضوء الذي يدخل عبر نوافذ المبنى لتلعب بأشكالها الهندسية، تحيط بها أصوات المياه الرقراقة، وترتيل الناس آيات القرآن باللغة العربية. كل تلك الأشياء كوّنت تجربة فريدة. وفي ذات الوقت كانت هادئة ومبهجة، إذ أثار الهدوء اهتمامها المستمر في بيئات متعددة، وكيفية استيعابها فرصة لحظات من الجمال.
العمل الذي يحمل معظم الإشارات المباشرة لطفولة بيغوم – ولأي مرحلة من حياتها حقيقةً؛ بدأ برحلة قامت بها إلى بنغلادش عام 2014، حيث ساهمت في قمة داكا للفنون. والقطعة التي أبدعتها كان رقمها (473)/ 2013 – 2014، وهو تركيب كهفي بحجم غرفة، تم إنشاؤه من سلال مصنوعة يدوياً تمكن الزوار والضوء من المرور عبرها، وقد اشترط منظمو القمة استخدام مواد محلية، فاستخدمت بيغوم سلالاً شأن تلك التي كانت تصنعها حين كانت طفلة، وهي ظاهرياً ترتبط بالسيرة الذاتية. ومع ذلك فإن البؤرة الحقيقية لمرجعية طفولتها في بنغلادش التي تتضح في كل أعمالها؛ كانت محاولة لخلق بيئة تتفاعل فيها عناصر الضوء والشكل واللون وتتكوّن ثانيةً على الأقل جزئياً، وقريباً من التجربة الروحية التي مرت بها عندما كانت طفلة وتقرأ في المسجد. وبمعنى أوسع؛ بدل تطوير لغة فنية مميزة لتاريخ أي فرد أو هويته؛ فقد كانت تسعى جاهدة لنقل نوع من الخبرة المشتركة.
تلك التجارب التكوينية يمكن تفسيرها أيضاً برغبة الفنانة للوصول والمشاركة. بعد الأعوام الهادئة في سيلهيت؛ انتقلت بيغوم مع أسرتها إلى المملكة المتحدة عندما كانت في سن الثامنة، فوجدت أنها غارقة في بيئة جديدة كلياً، وغير قادرة على التواصل عبر لغتها الأم أو باللغة الجديدة التي لم تكن قد تعلمتها بعد. قالت لي: (عندما بدأت المدرسة جلست في صف ولم أستطع فهم أي شيء). نامت في الصباح الأول على مقعدها بسبب الضجر، لكن معلمتها أعطتها بعد الظهر قلم رصاص وورقة، وأصبح الرسم وسيلة اتصال فوراً.
في منزل العائلة في سانت ألبانز المدينة القديمة الغنية معمارياً التي تبعد 24 كم عن لندن؛ علّقت كل رسومها على الجدار، وتبين لاحقاً أن ذاك الصراع الأولي مع اللغة أثر كثيراً عليها. قالت بيغوم نصف مازحة: (أعتقد لو كنت جيدة مع الكلمات ما أصبحت فنانة، وأعتقد أن والديّ سيكونان أكثر سعادة بكثير).
كبرت بيغوم في سانت ألبانز واهتمت باكراً بتصوير الأشكال المعمارية، وخلال الرحلات المدرسية الفنية الممتعة كثيراً لكاتدرائية المدينة؛ تعلمت إمكانية تفعيلها بوساطة الضوء، حيث كانت شمس الظهيرة تعبر من خلال نوافذ الزجاج الملون الكبيرة، وتلعب بين الأقواس والقناطر، في مجموعة متنوعة من الأساليب المعمارية التي تحيط بصحن البناء الواسع الهادئ.
كطالبة رسمية في جامعة هيرتفوردشاير عام 1995؛ بدأت تدرك أن العناصر التصويرية أو السردية للهندسة المعمارية ليست وحدها التي كانت تهتم بها، إنما صفاتها التجريبية. أخذت تبحث في أماكن أخرى عن ذات التفاعل بين الضوء والشكل الذي خبرته أثناء قراءتها في المسجد كطفلة، وأصبحت تدرك أن اللحظات العرضية للجمال يمكن أن تنشأ حتى بين المناظر الحضرية القاسية.
ومع ذلك؛ فإن أكثر لحظات المدينة شعرية – كتلك اللحظة التي خبرتها في طريقي للقاء بيغوم – تعود غالباً للمصادفة. وعادة تكون المدن كبيرة جداً ومعقدة، وفيها حركة مستمرة وغير مفهومة، وكي تصفها بالطريقة الكونية التي رغبت بها؛ أدركت بيغوم أن عليها تبسيط منهجها.
بعد سنتها التأسيسية في هيرتفوردشاير اكتشفت ما يمكن القيام به في مجال الفن، فدرست الفن في كلية تشيلسي للفنون في لندن بين عامي 1996 و1999، وهناك عرفت فناني “الحد الأدنى” أو الحركة التبسيطية، مثل أغنيس مارتن، دونالد جود، ماري مارتن، سول لي ويت، وفوراً وجدت أنها منجذبة إلى مباشرتهم ونقائهم، فأصبح التبسيط هاماً كثيراً لها، حيث لم تستخدم الألوان خلال تلك الأعوام، وبدل ذلك ركزت فقط على التفاعلات بين الضوء والشكل في سلسة نقوش تجريدية أحادية اللون صنعتها من الخشب المطلي التي تضمنت الرقمين (7) و(8)/ 1999، على أمل أن تلتقط شيئاً من البيئة الحضرية التي حولها.
دخل اللون إلى أعمال بيغوم فقط في سنتها الدراسية الثانية من الماجستير في مدرسة سليد للفنون الجميلة بلندن، وهي ذات السنة التي أصبح خلالها الفنان الأسكتلندي بروس مكلين رئيس قسم الرسم. تتذكر بيغوم أن مقاربة مكلين للون كانت فوضوية، وهكذا انخرطت في سلسلة لوحات كانت مخططة بتناغم مع شريط لاصق ألوانه حيوية، من بينها الأرقام (36)، (37)، (38)/ 2002. وأخبرتني ونحن نتحدث: (أعرف تلك الأنواع من الأعمال التي تمت صناعتها من قبل، لكن هدفي كان فهم اللون).
لأنها فتحت عملها على هذا المتغير الجديد؛ بدأت تكتشف أن اللون يمكن استعماله مع نمط التجارب الحميمة للمكان الحضري. استمرت لوحاتها المخططة مع سلسلة من الأعمال، ومن بينها رقمي (93) و(94)/ 2005، حيث استعملت ثانية الشريط اللاصق، لكنها نظمته في نماذج مجردة تذكّر بالبساطة والتصاميم الحية المستخدمة في اللافتات الحضرية في كل أنحاء العالم. ومثل شاحنات الآيس كريم المركونة خارج مرسمها؛ فإن تلك الترتيبات من اللون والشكل اكتشفتها من أي وظيفة وفي لحظات معينة للمشاهد. وبينما قد تعني كل لافتة عملية (قف)؛ فإن أعمال بيغوم ترمِّز اللافتة ذاتها، وتشير بالتالي إلى العالمية، وإلى اللغة الحضرية أيضاً المجردة بغرابة، والتي تبتعد عن أي معنى مباشر أو موقع محدد.
من خلال هذه السلسلة أصبح وعي بيغوم يتزايد بكيفية إمكان المواد الحضرية اليومية العادية أن تكون جميلة في بساطتها، أي عندما تنفصل عن وظيفتها وينظر إليها من الزاوية المناسبة أو يمسها الضوء المناسب. وبناء على ذلك؛ بدأت تجرب على العاكسات، أي النوع الموجود في إشارات المرور والتي توجه المركبات، فتغطيها بالفسيفساء لتخلق نماذج تتفاعل مع تغير الضوء.
آنذاك لم تكن بيغوم قادرة تماماً على تطوير هذه التجارب لنقص التمويل والاهتمام الخارجي، لكن مع صعود شعبيتها بسرعة خلال الأعوام الأخيرة؛ منحت الفرصة لإحيائها في عدة أعمال عامة كلِّفت بها، ومن بينها عملها رقم (700) عاكسات/ 2016؛ في ميدان لويس كوبيت قرب محطة كينغ كروس في لندن. وهو مجموعة عاكسات متعرجة حمراء وبرتقالية وبيضاء طولها 50 متراً، مرتبة في صفوف نحو الداخل ومتعاكسة مع الخلفية السوداء.
في موقعه البارز في جزء مزدحم من العاصمة؛ ينقل التركيب شعوراً مجرداً بالمدينة، بينما يمتص الضوء والطاقة منها أيضاً. وهو مرئي من زوايا مختلفة وخاضع للضوء الطبيعي والاصطناعي طوال ساعات النهار والليل، ومفتوح على فرصة تفاعلات الضوء واللون والشكل التي تسعى بيغوم إلى خلقها.
يالإضافة إلى المواد العادية اليومية والألوان البسيطة؛ فإن أعمال بيغوم المصنوعة من الأشرطة والعاكسات تستخدمها على حد سواء للأنماط المتكررة، والتي تعتبر ذات أهمية كبيرة بالنسبة إليها. فهي تكشف عن إحدى طرق خلفيتها التي تجد طريقها إلى أعمالها.
تمتعت بيغوم كطفلة في بنغلاديش بروتين قراءة القرآن، وبالصلاة خمس مرات يومياً. فالتكرار هو أيضاً أحد الطرق التي يُقارب بها الفن الإسلامي الذي يقترب من اللانهائية، وذلك بإظهار جزء من كل، ومن دون تصوير البداية ولا النهاية.
عندما كانت بيغوم طالبة في معهد تشيلسي للفنون أعادت البحث في الفن الصوفي والإسلامي، وفيما بعد رسمت في سليد عدة لوحات هندسية معقدة مكونةً عدة دوائر غريبة، مثل رقم (1)، أي (الأشعة) /2002، ورقم (31)/ 2001، أو خطوطاً مستقيمة تنبثق من عقد شعاعية، كما في العمل رقم (19)/ 2001، وكلاهما يستحضران فن “التذهيب” أو الإضاءة.
بعد تخرجها؛ الرسام والطابع البريطاني تيس جاراي الذي عملت مساعدة له خمسة أعوام شجعها على إدخال المزيد من العناصر الدينية والسياسية في عملها، لكنها قاومت ذلك، وفيما بعد وجد الفن الإسلامي طريقه إلى أعمالها بهدوء عبر هذه النماذج اللانهائية المتكررة، حيث يتم تقديم المدينة كشيء له قدرة على نمو لا حدود له.
تأثير التكرار يظهر على أعمال بيغوم كأفضل ما يكون في سلسلتها التي بدأتها عام 2011، حيث تجمع فيها بالتناوب زوايا ألمنيوم مطلي وحديد خام خفيف، إما مرسومة على جدار الصالة كما في رقم (280)، أو مطوية على الأرض مثل انعكاس، كما في رقم (278)، وهما من عام 2011. هذه القطع من الأنماط المتكررة تلمح إلى اللانهاية، وهي تجربة شبه روحية لجوهر المدينة، لكن موادها الصناعية مثل الحديد الخفيف القابل للصدأ؛ تشير أيضاً إلى الوجه العابر الدنيوي الزائل للمدينة.
باستثناء ريتشارد سيرا وقلة آخرين؛ فمن النادر أن يعتمد فنان على نمو الصدأ في عمله. وهو ما تعتبره بيغوم – مع ذلك – فرصة للإضافة. قالت لي: (أحب استعمال مواد تسمح للأشياء أن تحدث داخل العمل، وعندما تنظرين إلى الكثير من أعمالي تشعرين أنها مسيطر عليها جداً، لكنها ليست حتمية، فهنا توجد الكثير من الحرية). وسواء كان ذلك من خلال اضمحلال المدينة وتطورها أو عبر بساطة الحركة الثابتة التي تميز المدن الحديثة؛ فإن التغير أساسي، وكي تعكس بيغوم ذلك فقد تركت فراغاً للمفاجآت. فهي تفهم أن اللحظات التي وجدتها وتجدها جميلة جداً – كتجربتها المبكرة في المسجد – هي عناصر تتحول مجتمعة باستمرار، وتظهر مدى تقبّلها لمصادفة مثل هذه الأحداث في أعمالها الفردية، لكنها غيّرت مسار تطورها الفني عدة مرات على مدار حياتها المهنية.
خلال إقامتها في بيروت عام 2009 جاءت لحظة هامة من خلال مؤسسة ديلفينا. ولأن بيغون تستخدم منح الإقامات لتعيد التركيز على عناصر أساسية من عملها، ففي بيروت كانت تنوي استكشاف الرسم، وكأنها شخصية “فلانوز” تمشي في شوارع المدينة، وتعجب بالهندسة المتطورة لأسطحها ومظلاتها، وأحد استنتاجاتها حدثت في متجر يبيع قصب الشرب الملون الرخيص الذي يباع في كل أرجاء العالم.
فوجئت بمنظر القصب هناك، وفرحت بمصادفة وجوده، فاشترت عدة رزم منه، وبدأت تكوِّن هياكل هندسية مفتوحة تذكّر بالخطوط المختلفة للمدينة وبالأشكال التي قدمها الفنان المفاهيمي والتبسيطي سول ليويت في السبعينيات. اشتغلت على هذه الهياكل بعض الوقت قبل يوم واحد، وحين دخل شعاع ضوء إلى مكان عملها في بيروت توهج القصب، وتغيرت جماليته ومعناه فوراً، وقد أوضحت بيغوم ذلك بحماس قائلة: (أصبح كالحياة الليلة للمدينة عندما تسيرين في فضاء المكان). كانت نتيجة تلك الإقامة تركيباً في مؤسسة ديلفينا، حيث ألوان سوداء مضاءة بهيئة نيونات، في محاكاة تجريدية لليل المدينة.
إن المواد التي استعملتها في أكثر أعمالها المثلثية الصدئة كانت غير دائمة. ومنذ أن قدمت بيغوم هذه الطريقة في “الرسم” على الجدار، وأشكال الحديد المنتصبة، مثل العمل رقم (623) رسم M، والعمل (624) رسم M (كلاهما من عام 2015)، وأعمال “الطي” المميزة، كالطائرات الهندسية المرسومة على الجدار مع النهايات المطوية والمؤخرات ملونة التي تعكس هالات اللون على جدران الصالة خلفها، وقد بدأت هذا المشروع كدراسة ورقية، حولتها بيغوم فيما بعد إلى ألمنيوم وحديد أكثر متانة.
عندما ننظر إلى مصادفة هذه اللحظات من الإضاءة التي توحي بأشكال وبمواد وبنهج جديد؛ فمن السهل معرفة مصدر “الرومانسية الحضرية”. لكن ما يميز أعمال بيغوم هو الاهتمام الذي توليه للحظات التي يمكن تجاهلها بسهولة، حتى على حساب اهتمامات أخرى، وهذا ما يعطي عملها زخماً، وربما لا يجعلها مثالية رومانسية، إنما يضعها بين موقعين، بين الجغرافيا والهندسة.
أخبرتني أنها أجرت مقابلة هاتفية قبل عدة أيام من حديثنا، وأثناء المحادثة بدأت أشعة ضوء طبيعي تدخل عبر النافذة، وفجأة أخبرت الذي يجري المقابلة معها أنها لا تستطيع التحدث، وبإمكانه التواصل معها فيما بعد، ثم أقفلت الهاتف.
ما تزالت بيغوم تتقبل تلك الفرص والمصادفات التي لا يمكن التنبؤ بها حتى عندما تكون كارثية. وعلى سبيل المثال فقد كان الهدف من سلسلة (الصندوق) أن تكون وسيلة أخرى للاقتراب من العلاقات المتغيرة للشكل واللون والضوء ضمن بنية البيئة، والسلسلة عبارة عن قضبان عمودية مغلفة بالألمنيوم ذات جوانب ملونة تظهر أشكالاً مختلفة تعتمد على موقع المشاهد في العلاقة معها.
أما أعمال “الطي” فتصبح عن بعد جزءاً في الصالة، وتندمج مع الهندسة المعمارية، وتتغير عندما يقترب المشاهد منها. وقد عرضت بعض هذه الأعمال في معرض (لحظة المحاذاة) في صالة ذا ثيرد لاين في دبي عام 2009،
في العام التالي كانت بيغوم تحضّر لعرض أعمال تكرارية جديدة في صالة بيشوف/ فايس في لندن، وأثناء ذلك كانت تعلّق عملاً كبيراً جداً في الصالة يوم افتتاح المعرض، فأصابها الرعب عندما لاحظت أن اللون بين القضبان قد تغير، وفي صور الأعمال المكتملة بالكاد يظهر الخلل بسبب التأثر الطبيعي للعمل. لكن بالنسبة للعين المجردة فإن اثنين من الألوان المتعارضة على جوانب كل قضيب مجاور اجتمعا ليخلقا ظلاً جديداً صلباً.
قالت بيغوم عن الموضوع: (كانت كارثة عندما فكرت بها لأني لم أخلط الألوان. أحب فكرة أخذ اللون مباشرة من الأنبوبة، والحفاظ على شكله الأصلي النقي). وبمجرد مرور الصدمة الأولى أصبحت منفتحة على الفكرة كطريقة أخرى لعكس تغيرات البيئة التي تشاهدها كل يوم. وقالت: (لو كنت مسيطرة على كل التفاصل، لما حصلت هذه الأشياء).
سواء ضبطت ذاتها أم لا؛ فإن أشياء كهذه ستحصل لبيغوم بلا شك. ففي عام 2016 عرضت (The Space Between)، وهو معرض استيعادي أقيم في مؤسسة باراسول للفن المعاصر في لندن، وفيه عرضت أعمالاً كثيرة من حياتها المهنية، فضلاً عن الأعمال الإبداعية التي خلقت أرضية جديدة في عملها. إن العمل رقم (670)/ 2016، يستند على أعمال جدار من عام 2015، حيث تتداخل طائرتان شبكيتان بألوان مختلفة لتكونا الثالثة، وكان باستطاعة الزوار اكتشاف الهيكل المعقد للشبكة المغلفة بألوان مختلفة. والعمل يشكّل بيئة بصرية معقدة تتغير لوناً وشكلاً عندما يستكشفها الزوار. إن إعادة الخلق التجريدية التي تقوم بها بيغوم للتجربة الحضرية يأخذ إلى مجال جديد كلياً.
بعد معرضها في باراسول؛ نفّذت عدة مشاريع فنية عامة في العامين الماضيين، من بينها التركيب الذي فاز بجائزة مجموعة أبراج للفنون. كما أقامت معرضاً فردياً في مركز سينزبيري في مدينة نورويتش شرقي بريطانيا، وهو أول معرض لها في متحف. كما ستكون ضيفة خاصة في معرض سيقام في حديقة يوركشاير للنحت في تموز/ يوليو ، وهو المكان الأضخم من نوعه في أوروبا، مع أعمال من مجموعة مجلس الفنون الإنكليزي.
عندما تحدثت معها كشفت عن أنها لا تريد التفكير كثيراً حول هذه المشاريع القادمة، فذلك "يتعبها"، وهي تتطلع إلى الشروع بإقامتها في البندقية في وقت لاحق من هذا العام، وتعتزم التفكير حول “دفع العمل”، وهو تعبيرها المفضل.
تتذكر أن إحدى الطرائق الممكنة للاستكشاف هي المزيد من التعاون مع منتج الموسيقى الإلكترونية هِيَتال/ ديفيد كورني، ومع الذين تعاونت معهم في تركيبات بصرية وصوتية، والعمل رقم (694) هِيّتال/ 2016؛ جزء من (The Space Between).
مر أكثر من 15 عاماً على استخدام بيغوم للون في عملها، وبالإضافة إلى الصوت؛ هي الآن تعرب عن اهتمامها بالتخصصات الأخرى، كالأداء والتصميم والأزياء، وترغب بإدخالها في أعمالها الحالية. مع ذلك تمكنت خلال العقدين الماضيين من فعل الكثير بوساطة المواد القليلة التي استخدمتها، ونجحت بتصوير مجموعة كبيرة متنوعة من التجارب الحضرية في عدد قليل من العناصر البسيطة. عندما غادرت المرسم كانت صور أعمالها ما تزال طازجة في ذهني، ومعظم عربات الآيس كريم قد غادرت، وخرجت إلى الشوارع، عاكسة على نوافذها مباني لندن المتنوعة معمارياً، وعندما تتوقف وتتحرك تصبح جزءاً من مناظر المدينة ذاتها.
وأنا أمشي إلى حيث أقرب محطة مترو؛ اجتزت ملعب كرة السلة الذي لعبت فيه خمسة أعوام من قبل. كانت أشعة شمس الربيع الحادة ترتد عن أسطح سيارات وبيوت متعددة الألوان، وتشرق من خلال الفراغات بين الأوراق الجديدة الخضراء، وعبر أقفاص الملعب والشباك المتأرجحة.
ومع كل خطوة مشيتها كان كل عنصر من هذه الصورة المصغرة للمدينة يتحرك، يتقاطع ثمّ يتوازى. اختلطت الألوان واندمجت، وانعكست الأشعة وانكسرت، وأشكال متكررة وفريدة في آن واحد تضخمت وتقلصت وأنا أمر.
لقد اختبرت العالم (كما يراه فلانوز) كما دعتنا بيغون لأن نكون، وكل شيء في النهاية أساسه ثلاثة عناصر هي بكل بساطة الضوء واللون والشكل.
SUBSCRIBE NOW to receive ArtAsiaPacific’s print editions, including the current issue with this article, for only USD 85 a year or USD 160 for two years.
ORDER the print edition of the July/August 2017 issue, in which this article is printed, for USD 15.