كان المنظر مثل الطِّرس، وكذلك كانت المدينة، مكتوبة، وممحوة، ومعاد كتابتها.
تيجو كول – المدينة المفتوحة
حقيقة كم نعرف عن الأمكنة التي حولنا، وعما جعلها على ما هي عليه الآن؟
مع تزايد عدد السكان في المدن خلال القرن الـ20؛ قدرت الأمم المتحدة في العام الماضي أن 54.5% من البشر في العالم الآن يعيشون في مناطق حضرية، مقارنة مع 33% عام 1960، فالهجرة إلى المدن شكلت بيئة الأحياء ونسيجها الاجتماعي، حتى حينما تكون القوى التي تدفع إلى هذه التغيرات ما تزال غير مرئية إلى حد بعيد. وعلى الدوام كان التاريخ يُنسى أو يُحجب حتى وإن كان يترك إرثاً غير ملموس في حياة الناس اليومية.
بيروت مثل العديد من المدن في القرن الـ21، حيث وصل التوسع الحضري السريع بعد الحرب إلى أكثر من 86% من تعداد سكان لبنان، وأنتج مجتمعات جديدة معقدة، مع وجود الكثيرين الذين يقيمون بشكل غير رسمي في أحياء مقسمة بصورة أساسية وفق الدين أو الطائفة والانتماء الاجتماعي والطبقي. وفي الآونة الأخيرة أعاد اللاجئون والمهاجرون تشكيل التركيبة السكانية على مستوى الشارع، بينما أنتج ازدهار قطاع العقارات أبراجاً من الزجاج والحديد، كما هو الحال في العديد من المدن حول العالم.
إن محاولة فهم وجود الأمكنة بالطريقة الموجودة عليها، وكيفية تجمع سكانها وتشكّلهم يأتيان في صميم أعمال لمياء جريج الفنية وصناعة الأفلام منذ أواسط تسعينات القرن الماضي، وذلك إثر عودتها إلى بيروت بعد دراستها في باريس، ثم في جامعة رود آيلاند للتصميم في الولايات المتحدة.
لبنان الذي عادت إليه كان قد بدأ بالتعافي، بعد إعلان الدولة رسمياً انتهاء الحرب التي حولته إلى إقطاعيات متحاربة منذ عام 1975، وبعد قرار البرلمان المشؤوم الذي صدر في آذار/ مارس 1991 وأعلن العفو رسمياً عن كل المتحاربين، وبالتالي فإن العديد من حوادث الحرب لن يتم التحقيق فيها، وأمراء الحرب الذين يقودون الفصائل السياسية في البلاد سيبقون في السلطة. (جريج مثل العديدين من أبناء جيلها لا تحب تذكّر الصراع خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وقد لاحظت أن دولاً إقليمية وعالمية تورطت فيها، وسوريا وإسرائيل غزتا واحتلتا أجزاءً من لبنان). آنذاك كانت أجزاء كثيرة من المدينة التي تم تدميرها في الحرب قد بدأ إعمارها ببطء كضمادات لجراح لم تلتئم.
(المدينة شكل من أشكال الطِّرس).. استعارة تحبها جريج. عام 2013 بدأت الفنانة بمشروع (بيروت بصدد الكتابة) المكون من ثلاثة أجزاء عن مناطق معينة من المدينة، وشرحت لي مفهومها خلال حديثنا في شباط/ فبراير قائلة: (الفكرة هي أنك عندما تنظر بصورة محددة إلى موقع، وإذا حفرت فيه، وبحثت في تاريخه انطلاقاً من الحاضر؛ سترى طبقات الاختلاف، وبعضها لن تراه لأنها اختفت تماماً، فقد محي أثرها، لكنها موجودة في غيابها/ وأنت تعرف أنّي أتحرك في مجالات مختلفة، من علم الآثار إلى علم الاجتماع والعمل التوثيقي).
بدأت من حيّها، إذا يمكن لجريج أن ترى عبر نافذة شقتها في بيروت المتحف الوطني، وهو مبنى ومؤسسةً وظيفته جمع الأشياء والحفاظ على التاريخ. بدأ إنشاؤه في الثلاثينيات، لكنه لم يفتتح حتى عام 1942، وفيه مجموعات هامة من التوابيت الحجرية، والآثار التي يعود تاريخها إلى ما قبل العصور الفينيقية في الألفية الأولى قبل الميلاد، لكنه يمثل تاريخ لبنان الحديث بطرائق أخرى غير مقصودة أيضاً.
عند اندلاع القتال كان المبنى يقع على حط التماس الذي كان يفصل شرق بيروت عن غربها، وقد دمره المقاتلون خلال الحرب، واستخدموه كثكنة ومقر للقناصين وللقصف الخارجي، ورغم أن مدير المتحف وضع بعض المقتنيات في القبو وأحاطها بالإسمنت، ومع أنه غطّى الأشياء الأثقل والفسيفساء الضخمة بطبقات إسمنتية، إلا أن العديد من القطع والتحف الفنية نُهبت أو تضررت بحيث لا يمكن ترميمها ثانية، ليبقى عدد التحف المسروقة وأي منها بالضبط غير معروف للعامة حتى الآن.
مثل العديد من أحداث الحرب؛ لا تزال تفاصيل ما حدث للمتحف غامضة، ومحكومة بنظرة الأطراف المتصارعة، وبإشكاليات تحدد سرديتها. ومن هنا يأتي تحري جريج الفنيّ ومقاربتها كتجسيد لحالة للمتحف.
قالت لي جريج خلال حديثنا إنها زارت المتحف لدراسة مجموعاته التي من المفترض أن تضم مائة ألف قطعة، ومع ذلك لم تجد جرداً دقيقاً، وعلى الأقل ليس هناك جرداً متاحاً للعامة، وقالت إن مدير المتحف كان متعاوناً في البداية، لكنه رفض بعدئذ أن يريها أي شيء ليس معروضاً، حتى أنها مُنعت من الدخول إلى المستودع لرؤية الأعمال التي تضررت بسبب الحرب. الموضوع الوحيد الذي سمح لها رؤيته قبل العامة “لوحة الراعي الصالح” الفسيفسائية، وصورها من فترة ما بعد القتال، حيث فتح قناص كوة في الجدار عبر الزاوية اليسرى السفلى للوحة كي يرى نقطة التفتيش بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية.
رأت جريج هذ الوضع – إذ كانت تستطيع رؤية ما هو مسموح للعامة فقط – كاستعارة مناسبة لتاريخ البلد، ووثقت الحقيقة البصرية المحدودة من خلال تصوير اسم كل قطعة أتيحت رؤيتها في 15 كانون الأول/ ديسمبر 2012، ثم أعادت نشر النصوص التوضيحية بخط عريض، كما وضعت كتاباً بعنوان (القطع المفقودة من المتحف الوطني في بيروت)/ 2013؛ يجمع قصصاً وتقارير عن القطع التي كانت ذات يوم ضمن المجموعة التي لا يمكن التأكد من حالتها الراهنة.
أبدعت جريج من لوحة (الراعي الصالح) الفسيفسائية منحوتتها الخاصة عن الحرب (أشياء من الحرب)/ 2013؛ التي تشبه جذع شجرة ثلاثي الأبعاد، والمصنوعة اعتماداً على صور فوتوغرافية قديمة ورسومات أولية وقياساتها الخاصة، وهي تصور الفراغ الذي بقي رغم إعادة تشكيلها.
العمل المرافق شريط فيديو (180 درجة عرض حديقة)/ 2013؛ الذي يظهر حديقة مليئة بالقطع الأثرية التي بالإمكان رؤيتها عبر فتحة القناص، والتي من الصعب أن نتصورها الآن، وكتبت جريج عن المشروع قائلة: اليوم، ورغم التوترات والقضايا العديدة التي أدت إلى الحرب الأهلية اللبنانية ولا تزال بلا حل أو تغيير؛ فإن شكل البلاد – وخاصة بيروت – تغير جذرياً بعد إعادة الإعمار على نطاق واسع في المدينة، فماذا تبقى لنا لنقدره أو نحترمه من فترة الحرب؟ وكيف علينا معالجة ذلك؟ وحتى الآن الشبه بين المتحف ولبنان ما قبل الحرب أنه لا يزال مسكوناً بالآثار المتبقية التي تعذبها طبقات الموت التي تحملها داخل طياتها، والتي يجب استدعاء أشباحها واستخراج بقاياها.
المشروع الذي حقق إشادة واسعة لأول مرة لجريج؛ كان عملها الذي ما يزال مستمراً، والمسمى (أشياء من الحرب)/ 1999؛ الذي يتألف حتى الآن من ستة أشرطة فيديو من المقابلات، مُددها بين 60 و90 دقيقة، تم تسجيلها مع مجموعة من الأصدقاء والمعارف، بعضهم شخصيات معروفة في مجتمع الفن اللبناني، مثل الفنانين طارق عطوي، لينا سانح، أكرم زعتري، ربيع مروة، القيّمة رشا السلطي، وصالح بركات صاحب صالة عرض، وقد طلبت جريج من كل من قابلته اختيار موضوع عادي كان هاماً بالنسبة له خلال الحرب، واتخذت من ذلك نقطة بداية أحاديثهم عن ذلك الوقت.
عند عرض هذا العمل كانت ذات القطع تعرض في خزائن إلى جانب الفيديوهات، كما حدث في معرض المتحف الحديث (هنا وفي مكان آخر)/ 2014. وكما قالت لي جريج: (عام 1998 خطرت لي فكرة أن القطع يمكن أن تتحدث عن ذاتها، لأنها كانت دائماً في صلب حديثنا: الراديو، الضوء، البطاقات. وربما بدأت مع شيء كان عزيزاً جداً علي ورُمي بعيداً، عندما كنت طفلة أعطاه لي خالي الذي اختفى فشعرت أن خسارته كانت بمثابة فقدان كائن رمز بالنسبة لي، ولا بد أن الآخرين عاشوا ذلك. كان كل من حولي قد خبروا الحرب، ولهذا شعرت أن الطريقة الوحيدة لأحصل على تاريخها هي من خلال قصص الناس وسماع التجربة الإنسانية من قبل وجهات النظر المختلفة بقدر ما أستطيع).
لقي المشروع قبولاً عند الناس كما قالت لي جريج، لأن الذكريات ترتبط بالأشياء إلى حدّ كبير، وبالتالي تصبح وسيلة لتقديم قصص من ذاكرتنا بشكل ملموس. زينة عريضة – على سبيل المثال – ناقشت موضوع حقيبة ظهرها “Miss Piggy” التي كانت تحملها دائماً إلى الملجأ لتحتمي من القنابل، وأكرم زعتري وجد شريطاً صوتياً يحتوي على تسجيلات من مدينته صيدا من انتخابات بشير الجميل مع أصوات لإطلاق الرصاص احتفالاً بذلك وموسيقى الــ"بي جيز"، وجدّة جريج قدمت حقيبة كانت تحفظ المال فيها.
مع الوقت؛ حملت عملية مقابلاتها مع معارفها آثار الأحداث المعاصرة في لبنان، وقالت جريج إن الفيديو الذي أنتجته عام 2006 كان مختلفاً لأن كل الردود كانت متأثرة بحرب إسرائيل على لبنان في ذلك العام. وهناك مقابلات محددة ما تزال تبكيها حتى الآن رغم أنها لم تكشف عنها. وأكدت في محاضرة في معهد رادكليف للدراسات المتقدمة في جامعة هارفارد حيث هي زميلة باحثة: (أصبح من الواضح لي أن الطريقة الوحيدة لمقاربة الحرب اللبنانية وسرد قصتها في تلك اللحظة هي التخلي عن السعي من أجل سردٍ كامل، أو عن الحقيقةِ المطلقة، وأستطيع فقط اقتراح محاولات وأجزاء من التاريخ والحقيقة بشكل نسبي وبحسابات شخصية استثنائية وعادية، وكل ذلك يعطينا الفجوات والخسارات في التاريخ وفي عملية التذكر.
إذا كان مشروع (أشياء من الحرب) متجذراً في الشهادات الطوعية للناس الذين تعرفهم جريج؛ فإن عملها (هنا وربما في مكان آخر)/ 2013؛ أكثر جرأة في استخدام الأماكن العامة، وفي دخوله حياة الغرباء. عام 2002 قضت جريج ثلاثة أسابيع وهي تصور مواقع على طول ما كان يسمى أثناء الحرب الخط الأزرق الفاصل بين شرق بيروت وغربها، وتجري مقابلات مع أناس في الجوار وتطرح السؤال التالي: هل تعرف أحداً اختطف هنا خلال الحرب؟ لقد فُقد أكثر من 17000 شخص خلال الحرب ولم يعودوا أبداً، ومنهم خالها الذي اختطف بالقرب من خط التماس.
استخدمت جريج أرشيف صور نقطة التفتيش القديمة بما فيها صور المتحف الوطني، والمنطقة الواقعة بالقرب منه، وحاولت أن تجدهم ثانية وسط المدينة التي تطورت بعد الألفية وبدء إعمارها. ويُظهر الفيديو الذي تصل مدته إلى 54 دقيقة طيفاً من ردود الأفعال غير المريحة لأناس يقولون بدايةً إنهم لا يعرفون أحداً، ومع ذلك قدموا قصصاً تبدو شخصية، وقبل نهاية الفيلم فقط يتضح أن جريج أيضاً تبحث عن شخص مفقود من تلك الفترة. وقد أشار زوجين مسنين في إحدى المقابلات إلى اختفاء خالها.
وفي حين أنها تشرع بذلك السؤال لإعادة بناء الماضي، وحتى في المنسي عمداً أو بصورة طبيعية باستخدام الصور القديمة وقصص الناس؛ فهي تقول إن الفيلم سيكون مختلفاً تماماً لو صورته الآن، فقد تغيرت السياسة والسكان في المدينة، واختفت الذكريات، ويوجد صراع جديد الآن، وقد قالت لي: (لذلك – بهذا المعنى – هو أيضاً تشخيص للحاضر).
إن التوتر أو العلاقة بين التاريخي والحاضر يحفّز الجزء الثاني من (بيروت بصدد الكتابة) الذي سمي (النهر). وهنا تنظر جريج إلى الحي الشرقي المجاور لجسر الوطى على طول نهر بيروت الذي كان سابقاً منطقة طرفية، ثم أصبح حيّ مركز بيروت للفن الذي أسسته جريج بالمشاركة مع ساندرا داغر عام 2009، وأدارته لمدة خمسة أعوام. وقد عُرض العمل في كارديف، ورُشحت جريج لجائزة آرتس موندي 7 عام 2016، ثم في رادكليف في شباط/ فبراير. والفيديو ثلاثي الأبعاد مصوَّر من سيارة تسير على طول النهر الجاف المبطن بالإسمنت، ويصوّر عمال البناء – العديد منهم سوريون هربوا من الحرب – الذين يشيدون الأبنية العالية في المنطقة. وقد قابلت جريج أيضاً رجلاً كانت عائلته تمتلك أرضاً في المنطقة، وبوّاب مركز بيروت للفن الذي جاء كذلك من سوريا. وبينما كان النهر يستعمل من قبل الحكومة كمكبٍّ للنفايات خلال الأزمة السياسية الأخيرة، وكنقطة تنسيق لاحتجاجات “طلعت ريحتكم”؛ فقد أصبحت الطبقة الاجتماعية التي تسكن منطقة جسر الوطى أرستقراطية.
جريج قالت لي: (أردت التعمق أكثر في التاريخ الاجتماعي للنهر، لكني أيضاً كنت مهتمة جداً بالتحول لأني كنت شاهدة عليه. أردت أن يكون هناك فهماً مختلفاً للجغرافيا؛ حيث يمكن جعلها أكثر حميمية، وفي ذات الوقت يمكنها منحك وجهات نظر متنوعة عن آراء مختلفة). بالإضافة إلى الفيلم؛ نفذت جريج سلسلة لوحات من الشمع والباستيل والألوان الجافة، تبدأ من تضاريس النهر التي أصبحت أكثر طبيعيةً وتجريداً، وتذكر بالأزهار والخلايا المجهرية والأعضاء البشرية.
هشاشة الحياة في بيروت أصبحت موضوعاً دائماً في أعمال جريج، وهو ما يبرز في مشروعها السابق المؤلف من ثلاثة أجزاء (بيروت – تشريح مدينة)/ 2010؛ الذي سبق مشروعها (بيروت بصدد الكتابة)، ويتضمن الجزء الأول (تاريخ اختفاء بيروت المحتمل) صوراً فوتوغرافية ومقاطع فيديو ذات علاقة بلحظات من التاريخ عندما اقتربت المدينة من الدمار الكامل، والجزء الثاني فيديو صور متحركة (بيروت 1001 مشهد) مؤلف من كولاج صور من كل مراحل التاريخ، تعرض التحول المضطرد للمدينة، ومُلتقطة من زاوية تطل على البحر الأبيض المتوسط الذي لم يتغير تقريباً، والجزء الثالث هو فيديو (بيروت 2058) الذي يصور خطاً ساحلياً هادئاً وخالياً يشبه بيروت – رغم أن المدينة اختفت – ويرافقه راوٍ يسرد بضمير المتكلم ما حدث للمدينة، وسواء كان زوالها طبيعياً أم غير طبيعي إلا أنه يبقى من دون شرح
ربما كان العمل الذي التقطت فيه جريج مزاج مدينتها بصورةٍ أكثر تأثيراً هو فيلمها المميز (والحياة هانئة)/ 2014؛ مدته 74 دقيقة ويصوِّر عام 2011، عندما كانت تمر عدة دول من المنطقة باضطرابات مختلفة، بينما بقي لبنان كما تقول جريج: (هادئاً بشكل غريب). تخيلت جريج خمس شخصيات تسكن في بيروت “مدير مبيعات، موسيقي، فنان، ممثل، مغنّية”، وكلهم يعرضون متع حيواتهم وآلامها ومشاعرهم المتضاربة حول المدينة.
خيارها ألا تكون شخصيات الفيلم ممثلين محترفين، كان همّها أن يؤدوا أو يعيدوا خلق أحداث واقعية من حيواتهم الخاصة على مدى ثمانية شهور من التصوير. وغالباً ما تعكس الشخصيات ذاتها القضايا المتعلقة بتاريخ المدينة، فعلى سبيل المثال المغنية ميراي كسار وصديقها الموسيقي الإلكتروني طارق عطوي يدخلان في نقاش حول ما إذا كان من الواجب إنشاء مواقع تذكارية في بيروت. برأي طارق إن مثل هذه المواقع مجردة وبلا معنى، لأن ثلث المدينة في تلك الحالة يجب أن تصمم كمنطقة مقدسة، بينما ترى ميراي ضرورة حماية بعض الأمكنة من التغيير في مدينة تتطور بلا هوادة.
كما صوِّر فراس بيضون وهو يشرب القهوة رفقة صديق قديم في مقهى على الشاطئ في ضاحية الأوزاعي الجنوبية، ويرثيان حالة التردي التي وصلت إليها المنطقة، ويراقبان الطائرات وهي تحط في مطار بيروت الدولي. قالت جريج: (لدي هذه الفكرة: كيف أستطيع التقاط تلك اللحظة المميزة من تاريخ بيروت، والحياة التي بدن لي كلحظة مؤقتة لأن بيروت كانت راكدة حقاً. لم يكن هناك سيناريو لعملي هذا لأني أردت أن يأتي “الآن” من ذات الأشخاص).
تصوير قصة فراس أخذ جريج إلى الأوزاعي الذي أصبح موضوع الجزء الثالث من (بيروت بصدد الكتابة) حيث كانت تعمل على مدى العام الماضي في رادكليف، وقد سميت المنطقة باسم إمام ومشرّع سني من القرن الثامن، هو عبدالرحمن الأوزاعي، وكانت المنطقة حتى أواسط الخمسينيات رملية، لكنها الآن مكتظة بالسكان المستقرين بصورة شبه قانونية من اللبنانيين المهاجرين، والفلسطينيين الذين هربوا أو أخرجوا بالقوة من فلسطين أثناء تأسيس إسرائيل عام 1948 والصراعات اللاحقة.
الأوزاعي موطن العديد من الجماعات المهمشة تقليدياً، ويضم أيضاً جماعات شيعية جاءت من ريف الجنوب اللبناني، والمنطقة معروفة كقاعدة للقوة السياسية لحزب الله في البلد. وبينما كانت لا تزال تجمع جريج بحثها ومادتها؛ فقد اعترفت في محاضرتها في رادكليف أن (الجزء الثالث يمكن أن يكون الأكثر تحدياً، لأن التاريخ مشحون بالتعقيدات الاجتماعية السياسية والتوترات الموجودة في صميم بنية لبنان، وعندما نبحث في تاريخ الأوزاعي نكتشف فرادته، فضلاً عن اكتشاف العديد من أوجه الشبه مع البلد ككل، والشعور بأنك في وضع مميت مسدود لا حل له).
لطالما جريج فنانة؛ فقد كانت لديها غريزةأساسية لتشخيص محيطها، بصرف النظر عما إذا كان موضوعها – لبنان – حياً أم ميتاً أو في حالة غيبوبة. وكما قالت: (كان الأمر بالنسبة لي مثل هاجس. كان عمري ثلاثة أعوام عندما اندلعت الحرب، ولهذا الشيء الوحيد الذي أريد فعله كفنانة هو الحديث عما حصل، وعن تجربة ما حصل). لكن هذا التفكير حول الحرب، وحول المدينة التي نجت، وحول التعافي من الحرب؛ أصبح بسرعة طريقة انعكست على التمثيل ذاته. قالت لي: (ربما كنت في الأعوام الأولى من عملي مهتمة بتقديم صورة للمدينة، مع وجود فكرة تمثيل ذلك عن طريق السرديات المجزأة والصور. لكن كان دائماً أكثر عن فكرة التمثيل ذاته)، وتابعت: (بالنسبة لي ليس هناك تناقض بين صورة المكان وسردٍ يأتي من مكان)، رغم تأكيدها على حدوث تحول طفيف في مقاربتها أثناء التصوير(والحياة هانئة)، إذ تقدم المدينة ذاتها، وليس تصاميم جريج، عبر تحفيز القصص والذكريات. ربما أدركت لمياء جريج من خلال مشاريعها أشياءنا ومدننا وضواحينا؛ أنها كانت تتكلم كل الوقت، ونحن نتعلم فقط كيفية الاستماع إليها.
SUBSCRIBE NOW to receive ArtAsiaPacific’s print editions, including the current issue with this article, for only USD 85 a year or USD 160 for two years.
ORDER the print edition of the September/October 2017 issue, in which this article is printed, for USD 15.