إن الفنانين العاملين في المُحترَفات الحكومية بكوريا الشمالية هم الذين ينتجون الأعمال الفنية الوحيدة التي تعبر حدود البلد، وفي الوقت الذي أصبح فيه فنهم مرئياً على نحو متزايد حول العالم، ومتاحاً للاقتناء أو للعرض بالوكالة في بلاد متعاطفة مع نظام كوريا الشمالية الشمولي، وتشاركه حاجته بوضع الأنصاب الفنية تحت سلطة الدولة، فإنه على المرء إمعان النظر في الآثار الجمالية والسياسية والأخلاقية الناتجة عن هذا الامتداد القوي.
ويعد مُحترَف “مانسوداي” للفنون الأكبر من نوعه في كوريا الشمالية، ففيه من العمال أربعة آلاف، ومن الفنانين ألفاً، ويزعم مدير الموقع الإلكتروني للمُحترَف “بيير لويجي سيسيوني” أحد أوائل جامعي الفن الكوري الشمالي، أن المُحترَف “ليس نوعاً من سلسلة مصانع، كما الحال في مراكز صينية وشرقية أخرى”، إنما هو مُحترَف يوظف خريجي أرقى أكاديميات الفنون في البلد، مثل جامعة “بيونغ يانغ” للفنون الجميلة، وعلى الرغم من وجود عدة مُحترَفات فنية في كوريا الشمالية إلا أن “مانسوداي” فقط هو الذي يعمل تحت “إشراف خاص” من قبل “كيم يونغ لي”، مما يجعله المؤسسة الفنية الأبرز في كوريا الشمالية، وحسب تقديرات “جين بورتال” مؤلفة الكتاب التاريخي المهم ( الفن تحت السيطرة في كوريا الشمالية)/ 2005، فإنّ الفنانين هناك ينتجون ما معدله لوحتان شهرياً، أي حوالي أربعة آلاف سنوياً، نصفها تنفّذ بأوامر رسمية، فيضطلع عمال “مانسوداي” بالمسؤولية عن إنتاج أهم الأعمال الفنية في كوريا الشمالية، وتترواح الأعمال العامة الكبرى من تمثال ( تشوليما) الفرس المجنح الذي يبلغ طوله 42 قدماً معروض في وسط “بيونغ يانغ”، وحتى لوحات الحبر المعلقة في ردهات الفنادق.
زُيِّن المدى في كوريا الشمالية بأعمال فنية رسمية بشكل لا مثيل له، وقد أشارت دراسة أجراها معهد كوريا للاقتصاد العالمي في “سيؤول” أن الإنفاق على “تأليه عائلة كيم” ـ أي التماثيل، والمهرجانات، والأفلام، والكتب، واللوحات، والجداريات، والمواقع التاريخية، وأية تبجيلات أخرى للعائلة الحاكمة ـ يعادل 40% من ميزانية الدولة المعلن عنها، وذلك في الوقت الذي تناقص الإنفاق على الجيش، وعلى الرعاية الاجتماعية، وعلى البيروقراطية، وحسب منتقدي النظام فإن الهدف من زيادة الإنفاق على البروباغاندا في كوريا الشمالية مواجهة تأثير العالم الخارجي، وإتخام الناس بالأيديولوجيا بحثاً عن الاستقرار الاجتماعي.
في العقد الماضي وسّع مُحترَف “مانسوداي” من تواجده في الخارج من خلال (مشاريع “مانسوداي” الدولية MOP) الجهة العالمية المرتبطة به، وقد أتاحت الـ (MOP) الكثير من أعمال المُحترَف للاقتناء الشخصي من خلال الشركات الرسمية التابعة له، مثل الموقع الإلكتروني وصالات العرض المدارة إيطاليّاً داخل وخارج كوريا الشمالية، بما في ذلك فضاء الفن الناجح منذ عامين في مقاطعة 798 ببكين، فقد توجّهت هذه الشركات بداية إلى الأسواق اليابانية والصينية والكورية الجنوبية، إلا أن نمو (مشاريع “مانسوداي” الدولية) الأكثر إذهالاً كان في أفريقيا، حيث وسّعت حضورها هناك بهدوء منذ عام 2000، وعلى الرغم من العقوبات الاقتصادية المفروضة على الدولة التي زادت من صعوبة المناورة الدولية على “كيم يونغ لي” وحكومته، إلا أن المشاريع الإنشائية لـ “مانسوداي” أثبتت نجاعتها في تزويد النظام بالعملة الصعبة، ووفقاً لمقالة مثيرة كتبها “كيم يونغ هان” ونشرتها في حزيران 2010 وكالة أنباء الإلكترونية “كوريا الشمالية اليوم” بسيؤول، والتي يديرها ناقدون لنظام كوريا الشمالية، فإن أرباح الـ (MOP ) في العقد الماضي تجاوزت 160 مليون دولار أمريكي، وذلك من خلال بناء التماثيل والأنصاب التذكارية، وصروح أخرى في دول أفريقية مثل أنغولا، والجزائر، وبينين، وتشاد، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ومصر، وغينيا الإستوائية، وأثيوبيا، وناميبيا، والسنغال، وتوغو، وزيمبابوي، ولا تقتصر نشاطات الـ (MOP) على أفريقيا، حيث تعدّتها إلى تنفيذ أعمال في كامبوديا وفي ماليزيا، كما تشغِّل مكاتب محلية في عدة بلدان تتعامل معها، ويديرها غالباً كوريون شماليون يحملون جوازات السفر الديبلوماسية.
ولعل تمثال “النهضة الأفريقية” الموجود في مدينة “داكار” بالسنغال أكثر تلك الأعمال إثارة للجدل، وهو عبارة عن عمل نحتي تم العمل به بأمر من الرئيس السنغالي “عبدالله واد” بمناسبة الذكرى الخمسين للاستقلال عن فرنسا، ويزيد ارتفاعه البالغ 164 قدماً عن ارتفاع تمثالي تمثال “الحرية” في أمريكا، و"المسيح المخلص" في “ريو دي جانيرو”، ويجسد التمثال رجلاً أفريقياً ممتلئ الصدر، يرفع بيده رضيعاً يشير إلى المستقبل، وإلى جانبه امرأة رشيقة جسدها مندفع إلى الأمام، وفي عام 2010 وصف الرئيس السنغالي ـ 84عاماًـ لـ"صحيفة وول ستريت" التمثال بأنه “أفريقيا الخارجة من الظلام، من خمسة قرون من العبودية وقرنين من الكولونيالية”، وعلى الرغم من المشاعر المباشرة والمبهجة التي قد يوحي بها العمل، إلا أنه محمل بإشارات أيديولوجية، حيث أن “واد” هو أحد آخر الأنصار السياسيين الدائمين للنهضة الأفريقية، والمثقف الذي حمل أجندة شعبية في التسعينيات، غير أنه فقد بريقه في السنوات العشر التي كان خلالها رئيساً، وقد أشار النقاد إلى استثمار “واد” مالاً لم يكن يملكه في مشروع هائل أعطاه الرئيس أولوية على حساب الاحتياجات الأساسية لمواطني السنغال، حيث تقدّر تكلفة هذا العمل بـ 28 مليون دولار، ومُوِّل بعقار رسمي تم تحويله إلى ملكية “مانسوداي” التي باعته لاحقاً محققة أرباحاً، ويقع التمثال الذي أزيح الستار عنه في أبريل 2010 بالقرب من مناطق عشوائية ومكبات النفايات، وقد وجّه أعضاءٌ في المجتمع السنغالي المسلم الذي يزيد عن 90% من السكان نقداً حاداً لأسلوب بناء التمثال، ولا سيما ثوب المرأة الذي يكشف عن جسدها، بل ذهب أحد الأئمة إلى حدّ إصدار فتوى ضد ما اعتبره وثنية التمثال، وقد وصفت “آمي نيانيغ” في مقال نشره موقع الأخبار الأفريقي التقدمي “أخبار بامبازوكا” المشروع ببضع كلمات: “فضيحة جمالية، وسياسية، ومالية هائلة”، أما الجماهير الأفريقية فقد شجبت دائماً الأجندات الجمالية والسياسية الملازمة لتماثيل “مانسوداي”.
وفي مثال آخر في بوتسوانا، فازت (مشاريع “مانسوداي” الدولية MOP) عام 2004 بعقد بناء “المتحف الوطني والغاليري الفني” بقيمة 1.1 مليون دولار، ويشمل العقد تصميم وبناء تمثالاً لثلاثة من زعماء كبريات القبائل، الأمر الذي أشعر الفنانين المحليين بالإحباط، ودفعهم للتعبير عن سخطهم لاستبعادهم من عملية عطاء غامضة ومشتبه بها، وحرمانهم ظلماً من العمل على مشروع ذي دلالة وطنية، كما شكك كثيرون في الأمانة الفنية للعمل، حيث وصفه أحد الفنانين بأنه “على غرار تماثيل كاملة ونصفية لجنرالات أوروبيين، برؤوس ممشطة بعناية لزعماء بوتسوانيين”، فيما سخر آخرون من تشابه العمل مع الواقعية الاشتراكية، وهو أسلوب لا علاقة له بأية ثقافة أفريقية أصيلة، وفي ناميبيا اشتكى الناس من التدهور المتسارع لتمثال الجندي المجهول الذي بنته “مانسوداي” في “ويندهوك” بـ (فدّان الأبطال)، وهو يشبه كثيراً الرئيس السابق “سام نيوجوما” يحمل الكلاشينكوف سلاحه الأساسي، فبعد ثلاثة أعوام فقط من تدشين العمل الذي كان في عام 2002 فُقد حرف “S” من كلمة "Sam"، وحرف “N” من كلمة "Nujoma"، أما الحروف الأخرى فهي متأرجحة، وكذلك حين حصلت “مانسوداي” في عام 2008 على عقد بناء (بيت الشعب) الحكومي في "ويندهوك"، قوبل المشروع بتشكيك وغضب، وبسببه نقلت عائلات من أماكنها لفسح المجال أمام بنائه، ولم تعلن تكلفته الرسمية، وفي زيمبابوي عام 2010 أوكلت عائلة نائب الرئيس الراحل “جوشوا نكومو” (مشاريع “مانسوداي” الدولية MOP) مهمة بناء تمثال تذكاري، لتقوم العائلة نفسها بعد فترة قصيرة من إتمام العمل بسحب التوكيل، حيث رأت أن التمثال لا يشبه الرجل الذي يُعرف بين محبيه باسم “أبو زيمبابوي”.
بدأ تواجد كوريا الشمالية في أفريقيا من خلال جهود بُذلت لتقوية العلاقات مع ما بقي من دول إشتراكية في العالم، وعبر تبادل هدايا ديبلوماسية، مثل ( تمثال النصر) الذي أهدي للحكومة الأثيوبية في سبعينيات القرن الماضي، غير أن العلاقات ليست واحدة في حميميتها، ولا سيما في زيمبابوي، حيث تلقى اللائمة على كوريا الشمالية لدورها في مذبحة “الغوكوراهوندي” التي وقعت في الثمانينيات، فقد قامت بتدريب العساكر في لواء زيمبابوي الخامس الذي ذبح حوالي عشرين ألف مدني في الأقاليم ذات الأغلبية النديبيلية، وماتزال درجة الاستياء الشعبي من كوريا الشمالية عالية جداً في زيمبابوي جراء تلك الصدمة، إلى حدّ أنها سحبت عرضها باستضافة منتخب كرة القدم الكوري الشمالي أثناء تدريباته استعداداً للمشاركة في كأس العالم الأخيرة بجنوب أفريقيا 2010.
لكن وعلى الرغم من الخلافات المتفشية، إلا أن “مانسوداي” تواصل الحصول على توكيلات في المنطقة للعمل في مشاريع جديدة، ومن ضمنها تمثال الذكرى الخمسين لاستقلال تشاد، ومركز “أغوستينو نيتو” الثقافي في أنغولا، اللذين ظفرت بهما بعد منافسة مع شركة برازيلية، وماتزال هذه الحكومات تتجاهل الاستقبال الشعبي الفاتر لأعمال "مانسوداي"، مفضِّلة إياها ومفضَّلة أسعارها التنافسية، فكما قال صراحة الرئيس السنغالي “واد” لجريدة “وول ستريت”: “لم يكن عندي المال، ووحدها كوريا الشمالية التي أمكنها بناء تمثالي”.
يقطع ذلك المال شوطاً طويلاً في بيونغ يانغ، حيث يشتبه أن أرباح توكيلات “مانسوداي” توزع على أرصدة الحزب المودعة بحسابات خاصة في كل من الصين وماكاو وسويسرا، وتدار عن طريق ما يعرف بـ “الطابق الثالث”، وذلك في إشارة للمكتبين 38 و 39 في مجمع مكاتب اللجنة المركزية لحزب العمال الكوري الشمالي في المقاطعة المركزية لبيونغ يانغ، وهذين المكتبين هما منظمتان سريتان تديران أموال وأرصدة الحزب وعائلة "كيم"، ويعرف مكتب 39 بانخراطه في إدارة مناجم الذهب والزنك وعائدات العملة الصعبة من الفنادق التي يرتادها الأجانب في بيونغ يانغ، وكذلك صادرات الزراعة وصيد السمك، لكن سمعة المكتب سيئة بين علماء الاقتصاد والمحللين السياسيين والصحفيين، بسبب أنشطته المحظورة، مثل تزوير العملة الأمريكية، وتهريب المخدرات، وبيع الأسلحة.
وفي النهاية يبدو جلياً أنه في الوقت الذي توسّع فيه (مشاريع “مانسوداي” الدولية) من حضورها الدولي، فإنها تثبت وبشدّة مهارتها في إبداع أنصاب للسلطات السياسية بأسعار تنافسية، وبما يضمن بقاءها كمقاول تلجأ إليه كثير من الدول الأفريقية، لكن هذه الأرباح تأتي على حساب أشياء أخرى، وفي النهاية تقف أعمال “مانسوداي” شاهدةً، لا على تراث وآمال دول فتية، بل على فساد منتشر في العالم، تعززه في كل الأطراف قوانين الصفقات، والخيلاء.