احتجنا إلى نصف ساعة في السيارة كي نصل إلى مدخل هذه الواحة في الضواحي الواقعة بين جنوب دلهي ومدينة صناعية على الحدود، عابرين جسراً مزدحماً، وحياً كبيراً مكتظاً بسكان من الطبقة العاملة، وقد غمرني إحساس بأنني تركت المدينة ورائي، و"سين" تريني جنبات الغرف المضاءة جيداً ذات التهوية المنعشة، والمليئة بركام منظم وكوزموبوليتاني من الكتب، والأعمال الفنية، والألوان، وفراشي الرسم، والورق، واللوحات، والتحف، أما المشهد من شرفتها ـ المطلة على ناحية الغرب على منظر طبيعي هندي بامتياز مغطى وموشى بأشجار مسكيت كئيبة ـ فيبدّد حالة التوهان الخاطفة التي يشعر بها المرء وهو في هذا المكان المرتفع.
ونحن نشرب القهوة السادة ونأكل الكعك، هنأت “سين” على فوزها في شهر كانون الثاني/ يناير بجائزة “سكودا” للفن الهندي المعاصر، وذلك على عملها “حلوى سوداء”1، وهو سلسلة رسومات كبيرة بألوان مائية وميديا مختلطة على الورق، شكّلت تناولها اللاذع والصارخ والمأزوم نفسياً للذكورة، متفوقة بذلك على زميليها “كيران سوباياه” و"أ. بالاسبرامانيام"، ومقابل فوزها حصلت على مبلغ مليون روبية (22 ألف دولار) ستخصصه لدعم مشروعاتها الكبيرة التي ظلت حتى الآن حبيسة درجها بسبب غياب التمويل.
يبدو استديو “سين” الحل الأمثل لساكن المدينة الذي تتنازعه رغبة الحصول على مكان مريح للنفس، وللتواصل مع الآخرين في ذات الوقت، والفنانة ـ كما تقول ـ تحب أن تخلق البيئة المحيطة بها، لافتة نظري إلى ما يملأ غرفتها من أشياء مصنوعة يدوياً، مثل نمر بنغالي كبير محشوّ يجلس على رف إلى جانب بورتريه لـ “سين” الصغيرة، وقد رسم على وجهها شاربان مثل شاربي “سلفادور دالي”، وصورة بالأبيض والأسود للفنانة المكسيكية “فريدا كالو”.
لكن منطقة الهدوء تلك لم تقلّل من القلق في عمل "سين"، حيث يبدو أنها زادته حدّة، لتظهر النتيجة من الداخل خليطاً فوضياً ومضطرباً متناثراً في لوحات وفضاءات متقنة، وكأنه ركام من أنسجة حيوانية وإنسانية، وأعضاء ذكورية، ومخلوقات هجينة، وألسنة متدلية خليعة، وشظايا من صور شخصية وشعبية، وكذلك أعمال “سين” التي تزأر فيها نمور شرسة من خلال انفراجة قدمين بشريتين، وتوضح الفنانة أنها تُمضي عدة أسابيع وهي تدون تداعيات أفكارها في دفتر قبل البدء بأي عمل جديد، لتتبع ذلك بمرحلة من التركيز الشديد تسميها "الذهول"، تلك التي تقودها إلى إنتاج عملها، وهي نصف واعية.
إن أحبّ مشاريع “سين” الشخصية إلى قلبها كانت قد بدأته في عام 2007، حين حلّ بها قلق أخلاقي نتيجة إدراكها أن قيمة أصغر أعمالها المادية تفوق دخل والدها السنويّ الذي يكدح للحصول عليه، وبعدها قرّرت أن تتبرّع بجزء من أعمالها لتواجه بالإيثار طمع السوق، ومنذ ذلك الحين وهي تدعو الناس لكتابة رسائل لطيفة لها مقابل الحصول على عمل فني أصليّ، وقد قرّبها هذا المشروع من مثالية وتمرد شبابها، وهي ذات الروح التي قادتها للانخراط في مدرسة الفن “فيسفا بهارتي، كالا بهافين” في "سانتينيكيتان"، من دون أن يعني هذا تخليها عن عقودها مع المعارض وصالات العرض.
غادرتُ استديو “سين” مدركة أنني قد قابلت شخصية معقدة جداً، متأقلمة مع ظروفها، ومنتجة مع ذلك أعمالاً غاية في الاغتراب، وبعد أيام ـ وأثناء افتتاح عرض جماعي بعنوان “فكرة الموضة” في استديوهات “خوج” ـ شاهدت الفنانة وهي تجلس القرفصاء تمسح الغبار بلطف عن أقدام والديها، لتمسح به رأسها للتبرك بهما وفق طريقة تقليدية، وذلك قبل أن تقودهما بمحبة إلى غرفة صغيرة قشرت جدرانها وشوتها بشدة كنوع من فعل تعرية مجازي، ولا شكّ أن العمق في فن “سين” سيكبر كلما كبرت صانعته، بعقلها البارع الذي استطاع خلق توازن غير مستقر بين ظروفها المحلية المحافظة وعالمية سعة أفقها وروحها الحرة.
1 iforgotmypenisathome