أشياء كثيرة تعتمد على التسليم بحقائق معدودة.. هذا ما كان يندبه إدوارد سعيد حين كتب في آب/ أغسطس 2001 بصحيفة “الأهرام ويكلي” القاهرية: “إن تاريخ الاحتلال العسكري الإسرائيلي البغيض المتواصل لمدة 34 عاماً (وهو ثاني أطول احتلال في التاريخ الحديث) للأرض الفلسطينية المستولى عليها بشكل غير قانوني، قد تم محوه من الذاكرة الجمعية في كل مكان تقريباً، وقد حدث مثل ذلك في تدمير المجتمع الفلسطيني سنة 1948، وتهجير حوالي 68 % من السكّان الأصليين الذين بقي منهم اليوم 4.5 مليون لاجئ”.
طوال العقد الماضي ـ وبينما نقترب هذا العام من الذكرى الـ44 لنكسة حزيران ـ فإن الصراع حول مستقبل فلسطين ووضع الفلسطينيين يبقى نوعاً من تمثيل الماضي والحاضر معاً، ويبقى كل ما له علاقة بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية متنازعاً عليه حقائقياً ودلالياً، فما عدد الجرحى والقتلى في مظاهرة ما؟ ومن قتلهم؟ هل هو “جدار” أو"حاجز" أو “سياج” ذاك الذي فصل بين أراضي الضفة الغربية؟ هل تؤسّس السياسات الإسرائيلية لـ "تمييز"، أو لـ “فصل عنصري”، أو لـ “تطهير عرقي”؟ وقد وصل النزاع إلى سؤال حول ما إذا كانت نكبة 1948 قد حدثت أصلاً؟ تلك النقاشات يشارك فيها الكلّ لتحقيق مصالحه الإستراتيجية الخاصة، سياسيون وناشطون فلسطينيون وإسرائيليون، وذلك على المسرح الدوليّ، وفي الميديا، وفي حروب الدعاية والتضليل بالوكالة التي تقوم بها فصائل تتناحر على كتابة القصة التاريخية لفلسطين ما بعد الانتداب، وقد وجد الفنانون الفلسطينيون ـ باعتبارهم رواة وسفراء الثقافة الفلسطينية ـ أنفسهم طوعاً أو قسراً جزءاً من ذلك الصراع من خلال كل أشكال الفن الذي بواسطته يعبرون عن الثيمات الأساسية للثقافة الفلسطينية الحديثة، وهي التهجير، والحنين، والمنفى، والمقاومة.
وفي حالة الفنانين البَصَريين في فلسطين فإن الوضع يعتبر أكثر تعقيداً، إذ كيف يمكن تمثيل الحقيقة لوضع يخضع ـ بحكم تعريفه ـ لسيطرة محكمة، ولمراقبة لصيقة من قوى الاحتلال العسكرية منها والمدنية، سواء كان الموضوع تفتيت الأراضي، أو حركة الناس، أو المصادر الحيوية، أو البضائع المادية، أو النقود، أو الصور؟ فهذه البنى التحتية الضخمة من القيود، والتي تم إيجازها بعجالة هنا؛ وتوصف غالباً بـ “المؤقتة” وتبرّر بدواعٍ “أمنية” ـ تجعل النشاطات الروتينية في الأراضي المحتلّة صعبة للغاية إن لم نقل مستحيلة لجميع الفلسطينيين بمن فيهم الفنانون، ولذلك فإن تسجيل تفاصيل الحياة اليومية لا يبقى مجرد عمل عادي، بل هو شهادة غاية في التأثير لأثر الاحتلال بعيد المدى على المدنيين، حيث أن انتفاع الفنانين الفلسطينيين من التقنيات الوثائقية خلال العقد الماضي لم يقدّم شهادة حاسمة على الأوضاع الاجتماعية في الأراضي المحتلة فحسب، إنما تم استخدامها بشكل متزايد لالتقاط أشكال معينة من المقاومة، ولتزويدنا بنماذج مفاهيمية لماضٍ ولحاضر ولمستقبل بديل.
وثائق التعطيل
كانت مجرد مصادفة أن يفتتح قيِّم المعارض “أكوي إنويزر” دراسته للممارسات الفنية الكونية “دوكيومينتا 11” ببلدة “كاسل” الألمانية في حزيران/ يونيو 2002، أي بعد أسبوع فقط من بدء إسرائيل عملية بناء عملها المعماريّ المعرِّف بها، أي جدار الفصل في الضفة الغربية بطول يبلغ 709 كم، والذي لم ينته العمل فيه بعد، وعلى الرغم من عدم وجود رابط بين الحادثتين، حيث لكل حادثة طريقتها الخاصة، إلا أنهما تعبّران عن المرحلة تماماً، كما تعتبران تجليّاً لعمليات مستقلة بدأت قبل ذلك بكثير، وسيكون لها تأثير على مسار الفن الفلسطيني في القرن الـ 21، إذ يمثّل جدار الفصل اتّساع رقعة الاحتلال الإسرائيلي، وهو الذي تزامن بناؤه مع توسّع بناء المستوطنات في الضفة الغربية، واشتداد حدّة انتفاضة الأقصى.
وعلى الرغم من أنّ إسرائيل شدّدت قيودها على حركة الفلسطينيين والأجانب على حدّ سواء في العقد التالي لعمل الفيلم، بحيث باتت الرحلة الآن مثلاً من إسرائيل إلى غزة مستحيلة إلى درجة استحالة تصوير عمل (من حيث أتينا)، إلا أن “جاسر” استطاعت في فيلمها تحقيق عدّة أمنيات، مثل التجوّل في شوارع الناصرة، وتناول طعام محليّ في غزة وعكا، والخروج أيضاً في موعد بالنيابة عن “رامي” من “بيت جالا” القريبة من مدينة بيت لحم مع فتاة في القدس الشرقيّة؛ لم يكن قد كلّمها من قبل إلا هاتفياً، وحين عرضت “جاسر” مشروعها علقت صورة من دون إطار لكل مهمّة منجزة، مصحوبة بملاحظات مكتوبة على خلفيّة سوداء باللغتين العربية والإنجليزية، حيث تشرح حالة الجنسيّة المعقدة للأشخاص الذين كلّفوها بالمهمة، أين ولدوا، ومكان إقاماتهم الحاليّة، والجوازات والبطاقات الشخصية التي يحملونها، وهل ومتى عاشت أسرهم في الغربة، وتكشف الطلبات في (من حيث أتينا) عن القيود العديدة المفروضة على تحركات الفلسطينيين في الأراضي المحتلّة.
بعد سنة من تجول “جاسر” في إسرائيل وفلسطين بغية إنجاز عملها (من حيث أتينا)، وهي التي كانت تعيش في رام الله وتدرّس في جامعة “بير زيت”، ألقى جنود الاحتلال الإسرائيلي القبض عليها وهي تصوّر قدميها إلى جانب حاجز إسرائيلي قريباً من بلدة “سردة” على الطريق المؤدّي إلى “بير زيت”، وعند حاجز “سردة” طُلب منها ومن جميع الفلسطينيين الترجل من مركباتهم وقطع مسافة كيلومترين مشياً قبل أن يستقلّوا مركبة أخرى لمواصلة رحلتهم، وتحت تهديد السّلاح احتجزت دوريات الاحتلال الفنانة عدّة ساعات أثناء هطول المطر، وصادرت شريطها، وعند عودتها إلى بيتها أحدثت ثقباً في حقيبتها كرد فعل على ما جرى معها، وهكذا أمضت الأيام الثمانية التالية وهي تسجّل رحلتها عبر الحاجز من رام الله إلى جامعة “بير زيت”، وبواسطة الكاميرا المخفية في حقيبة كتفها المتأرجحة صورت طريقاً موحلاً، وعلى جانبيه دبّابات وناقلات جند مسلّحين، كما يظهر التسجيل أشخاصاً محتشدين تحت المطر وهم يحاولون اختراق الحواجز الخرسانية، متجنّبين في الوقت نفسه الجنود المراقبين الضاغطين على أزندة بنادق إم 16، وفي الأيام المشمسة يُظهر التسجيل لمحات خاطفة لخيال “جاسر” والحقيبة التي تخفي الكاميرا، وقد ظهر العمل تحت عنوان ( اجتياز سردة: تسجيل الذهاب والإياب من العمل)/2002، وفي سياق معرضٍ تم عرض العمل بهيئة إنشاءة بقناتين، إحداها تعرض 130 دقيقة من اللقطات غير الممنتجة على شاشة كبيرة، والأخرى تعرض على مونيتر 30 دقيقة ممنتجة للحظات مختارة من اللقطات، والعمل لا يكشف أسراراً عسكرية، إلا أن تصوير الحاجز بالنسبة لـ"جاسر" شكّل عملاً استكشافياً بميزانية ضئيلة ويحمل في طياته مجازفة ومخاطرة، فلقطاته تصوّر قيود الاحتلال بعيدة المدى على المجتمع الفلسطينيّ، وهو من جهة أخرى قريب جداً من الوثائقية الصرفة ـ كتأسيس حقائق على أرض الواقع ـ، وباعتبار العمل نوعاً من التحدّي، فإنه يقدّم طريقة بسيطة وفعالة للتعريف بتلك الحقائق، و(اجتيازسردة) بما فيه من غضب يجسّد تفاؤلاً بإمكانيات العمل الوثائقي، وهو إيمان أعرب عنه أيضاً إدوارد سعيد قبل وفاته بوقت قصير في أيلول/ سبتمبر 2003، حيث قال: “متى ما تم التعريف بالحقائق، فإن هناك اعترافاً مباشراً وتعبيراً عن أقصى حالات التضامن مع عدالة القضية الفلسطينية، والسعي الشجاع للشعب الفلسطيني نحو تحقيقها”.
نظرة إلى الخارج
خلافاً لثقة سعيد بأن الحقائق ستتحدّث عن نفسها ـ وحتى حين يحدث ذلك فعلاً ـ إلا أن الواقع يشهد بأن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية أصبح أكثر رسوخاً، وفي العقد الماضي الذي شهد بناء مكثفاً أنشأت إسرائيل في الأراضي الفلسطينية بنى تحتية ضخمة ومعقدة، وحين ينتقل المرء في منطقة أ (وهي تحت السيطرة الفلسطينية الكاملة، وتشكل 18 % من الضفة الغربية)، وفي منطقة ب (وهي تحت حكم السلطة الفلسطينية المدنيّ والإشراف العسكريّ الإسرائيليّ، وتشكل 22 %)، وفي منطقة ج (وهي تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، وتشكل 60 %)؛ تظهر السلطة عبر حضور ونوعيّة البنية التحتيّة، لتصبح هذه الفوارق ـ أي الحقائق الاقتصادية المعززة بالشكل الكولونياليّ للاحتلال ـ أكثر وضوحاً بطرق غير معتادة في الليل، في حين تكشف سلسلة صور (مناظر طبيعية للظلام)/2011 للفنان “يزن خليلي” صوراً لمنطقة ج (وهي في أغلبيتها غير متطورة باستثناء المستوطنات والطرق المؤدّية إليها)، وقد التقطها أثناء قيامه بنزهات ليلية مع صديق بين عامي 2008 و2009 ، والصور التي نجت من الحذف القسري أثناء توقيف الفنان المتكرّر من قبل مسؤولين أمنيين إسرائيليين وفلسطينيين عُنونت بتوقيت التقاطها وبؤرتها، وليس باسم الموقع الذي التقطت فيه.
ففي لقطة (20” | f 7.1) صوّر خليلي وادٍ شديد الانحدار تم جرفه ونحته بدقّة لإنشاء طرق التفافية مُنارة بعناية بأضواء شوارع، ومزودة بإشارات الطريق السريع البنيّة اللون، وفي المقابل تُظهر لقطة (10” | f 4.0) شوارع معتمة تقود إلى تجمعات من البيوت في قاع هضبة يمكن إدراك أنها فلسطينية لأن الطرق المؤدية إليها غير مضاءة، فالمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية تقام دائماً على قمم الهضاب من أجل الهيمنة الإستراتيجية والبصرية، فيما يتجلى التناقض الأكبر بين الأماكن المتجاورة في إسرائيل والأراضي المحتلّة في لقطة (30’ | f 5.0) حيث يظهر طريقاً متسخاً معتماً يقود عبر التلال إلى أفق مُنار بأضواء أرجوانية ـ قد يكون تل أبيب ـ كما يظهر شبكة الطرق المحيطة به.
وإلى جانب قدرة مشهد (مناظر طبيعية للظلام) على التعبير عن الظروف العامة للاحتلال من خلال الصور، فإنه يمنح أيضاً إمكانية طرح مفاهيم أكثر مجازية وتأملاً عن المكان، إذ يُظهر المشهد وقد نُزعت ألفته، وتبدو الخصوصيات والتواريخ المحددة لمكان ما وقد شابها الغموض، فعلى سبيل المثال تظهر في (30” | f 20) شريحة ضئيلة من القمر وهي ترتفع في الأفق البعيد فوق الهضاب حالكة السواد، أو في (20” | f 7.1) تظهر الهضاب المتدحرجة الجرداء التي تنحسر في الليل هناك، وعن ذلك يقول خليلي: “فسحة كي لا نرى ما يفترض أن يُرى، وإمكانية تحرير صورنا من المشهد، ومن المنظر الطبيعي وعنف امتلاكه عبر النظر”، وتكمن جمالية محدوديةِ الرؤية في هذه المشاهد حتى حين يتم تسجيلها بدقة؛ لأنها تطلق العنان لخيالنا، وتجعلنا نتجوّل في صورة لا تظهر تفاصيلها بكثرة، وإن حرية التحرك تلك ـ جسدياً أو عاطفياً ـ يندر توافرها في الأراضي المحتلة.
ولأولئك الذين يغفلون عن مدى تقارب الأماكن في هذه الأرض الصغيرة المقسمة، قدم “خالد حوراني” لهم تذكيراً بذلك، حيث وضع أكثر من 80 علامة طريق من السيراميك على جدران وأعمدة صغيرة في بلدات ومخيمات لاجئين في الضفة الغربية والقدس وغزة، وحتى على بعض المواقع في الخارج، وذلك في مشروع أسماه ( الطريق إلى القدس) الذي شكّل جزءاً من “القدس عاصمة الثقافة العربية” عام 2009، وكل واحدة من تلك العلامات المصنوعة من 6 قطع سيراميك تقليدية بيضاء وزرقاء، تُظهر مقدار البعد عن البلدة القديمة في القدس، ذلك المكان الذي لا يستطيع سكان الضفة وغزة الوصول إليه إلا بتصريح، ومثل عمل (من حيث أتينا) لـ"جاسر" فإن الإشارات هنا تربط مواقع في الضفة الغربية المحتلة مع الخارج، والمفارقة المؤلمة تماماً أن الخارج في هذه الحالة هو القدس، تلك المدينة التي يعدّها الفلسطينيون مسلمين ومسيحيين عاصمتهم ومركزهم الروحيّ، ويذكرنا مشروع “حوراني” بتعبيره البسيط عن المسافات المادية باستحالة أو بمحدودية وصول الفلسطينيين إلى القدس في الوقت الذي يؤكّد فيه مكانتها، وهو ما يشي بنقضه أو برفضه الحدود السياسيّة التي تشكّل طبيعة الحياة اليومية هناك
وإذا كان قياس المسافات إحدى طرائق رفض أو تجاوز الحدود المفروضة، فإن مشروع (الجار قبل الدار) الذي أنجزته مجموعة "كامب"، وقدمته كأحد عروض “مؤسسة المعمل” في القدس 2009 يمثل ذلك، حيث استخدمت تكنولوجيا المراقبة لإعادة وصل المهجّرين بملكيّاتهم التي فقدوها، وقد قامت “كامب” ـ مقرها “مومباي” وتضم عدة مساهمين من بينهم مؤسّسوها “شينا أناند” و"سانجاي بهانغار" وأشوك سوكوماران" ـ بتصميم كاميرا سقف محمولة ومؤقتة من نوع PTZ الذي يركّب عادة في الأسقف للمراقبة، وركبتها في مواقع بالبلدة القديمة في القدس، ومنها حارة المغاربة القديمة التي هُدمت عام 1967 من أجل إقامة ساحة حائط البراق، وحي الشيخ جراح المتنازع عليه في القدس الشرقية، وبلدة سلوان المجاورة، وبعد ذلك استطاعت ثماني عائلات فلسطينية ـ كانت قد طردت من بيوتها ـ التحكّم بالجهاز المتحرّك، ورصد بيوتها السابقة، والأحياء التي احتلّها الآن مستوطنون إسرائيليون، وأثناء استخدام كاميرا المراقبة كانت الأسر تعلق على أحوال البيوت، وعلى أشكال البناء التي كانت سائدة في تلك المنطقة، ومع أن أعضاء مجموعة “كامب” ليسوا فلسطينيين، إلا أن الذين نفذوا العمل سواء بتحديد الصورة وبتزويد التعليق الصوتي هم من السكان المحليين الذين منحهم العمل فرصة استعادة قصة تهجيرهم، ونقشها على أماكنهم المسلوبة؛ حتى وإن كان من بعيد.
طرق حول الحاضر الكولونيالي وعبره
إن استعاد الفلسطينيون يوماً سيطرتهم الكاملة على الضفة الغربية، فما الذي يجب عليهم فعله إزاء البؤر العسكرية والمستوطنات المقامة على قمم الهضاب التي قد يخلِّفها الإسرائيليون؟
منذ زمن تعمل الجماعة البحثية “تفكيك العمارة الكولونيالية” على حل مشكلات كهذه في الاستوديو الخاص بها في بيت ساحور على تخوم بيت لحم، وذلك منذ تأسيسها سنة 2007، والجماعة المكونة من “ساندي هلال” و"أليساندرو بيتي" و"إيال وايزمان" بالإضافة إلى متعاونين كثر، استخدم اقتراحهم الأشهر ( العودة إلى الطبيعة) البؤرة العسكرية “عش الغراب” المطلة على مدينة بيت لحم التي تم إخلاؤها عام 2006، كحالة دراسة لموضوع تحويل الأبنية الكولونيالية، وقد اقترحت المجموعة تحويل الأبنية العسكرية المهجورة إلى أعشاش للطيور المهاجرة التي تمرّ في كل من الضفة الغربية وغور الأردن قادمة من أوروبا إلى إفريقيا أو آسيا، وإن هذا التصميم الذي عُرض في معرض فني بشكل كتاب متضخم ونموذج معماري؛ لم يحدث تغييراً في الأبنية العسكرية المهجورة سوى فتحات دائرية تسمح بالوصول إلى دواخلها، وهو مثال أيضاً على واحدة من إستراتيجيات المجموعة الأساسية يطلق عليها اسم “الانتهاك” المصطلح الذي استعارته من الفيلسوف الإيطالي “جورجيو أغامبين”، وتقوم الإستراتيجية على استخدام أبنية موجودة أصلاً لغايات لم تصنع من أجلها، وحول العمل تقول المجموعة: " أعادت حركات إنهاء الكولونيالية غالباً استخدام مخلفات الاستعمار من الأبنية والبنى التحتية لذات الأغراض التي صنعت من أجلها، مما أبقى تراتبية الجغرافيا الكولونيالية على حالها، وبهذا المعنى فإن ممارسات إنهاء الاستعمار والتحرير في الماضي لم تتخلّص تماماً من سلطة سيطرة المستعمر… والتحرّر الحقيقي هو النقيض، أي أن تسعى لإعادة ما قسّمه وشوّهه الاستعمار إلى وضعه الطبيعي".
وفي بينالي الشارقة 2011 قدّمت جماعة “تفكيك العمارة الكولونيالية” 3 مشاريع، أحدها جاء تحت عنوان (خط فاصل خارج على القانون) الذي يدرس الأمتار الخمسة الإشكالية، وهي الفاصلة بين مناطق “أ” و"ج" بالاعتماد على الخط المرسوم بالحبر الأحمر في خريطة اتفاقيات أوسلو 1993، والذي تحول على أرض الواقع إلى مساحة حقيقية تشكّل منزلة بين منزلتين تفصل بين المناطق التي تخضع لسلطة فلسطينية عن تلك الخاضعة لسلطة إسرائيل، وقد عرض في البينالي فيلم فيديو لمحام عيّنته الجماعة للدفاع عن فكرة وجوب إعلان هذه المساحة الضيّقة منطقةً مستقلةً ذات حكم ذاتي لا تخضع لأي من الطرفين، وتتصور المجموعة في هذا العمل “نظاماً فوضوياً ذا سيادة ذاتية” يأتي للإقامة في تلك المنطقة، بل إنها تصرّح بأن: “خطوط التماس هذه ـ كشقوق صغيرة في نظام إقليمي ـ هي التي قد تمزّق نهاية النظام الكلي القائم على التقسيم”.
لكن هذه الإمكانيات التكهنية الطوباوية التي تتخيلها هذه الجماعة تصطدم دائماً بالحقائق القائمة على الأرض، وحين التقى باحثو الجماعة مع المحامي تحضيراً لمشروع (خط فاصل خارج على القانون) تعرفوا على قصة مدهشة لامرأة كان الخط الفاصل قد شطر بيتها إلى نصفين، وقد أظهر فيلم الفيديو المحامي وهو يجادل في المحكمة، بأنه على الرغم من أن معظم البيت يقع في بلدية رام الله إلا أن المدخل والمطبخ يقعان على الجانب الآخر أي في القدس، وعليه يجب أن تعتبر المرأة من سكّان القدس، وقد كان على المحكّ بالنسبة لهذه المرأة إمكانية الوصول لعائلتها في القدس، وإلى مدارس القدس من أجل أطفالها، وإلى المستشفيات والخدمات البلدية الأكثر جودة هناك، ومع اتّضاح العشوائية الصارخة لمفهوم الحدود وتطبيقه تفتح الخطوط الفاصلة مجالاً للتفاوض أو للتقاضي، الأمر الذي يهدم ما تحمله من معاني الديمومة والحتمية عادة.
الشحن والنقل
إن عدم إمكانية الوصول للضفة الغربية من دون المرور بإسرائيل إحدى صعوبات حياة الفلسطينيين، وقد ركّزت عدة مشاريع فنية على لامعقولية وبذاءة هذا النظام القسري التابع، وما يكشفه عن طبيعة الاحتلال الإسرائيلي، وفي عام 2006 عزمت “جمانة إميل عبود” على تحضير شجرة ليمون ـ إحدى أنواع الأشجار الشائع وجودها في الأراضي الفلسطينية ولاسيما في أراضي 1948 من القدس إلى رام الله ـ لكنها كانت تعلم أنه طبقاً للتعليمات لا يمكنها تمرير شجرة كاملة من خلال الحاجز، لذلك قطفت ثمار الليمون من شجرة في بيت جديها بالجليل، وحمّلتها في حزام خصر أحمر اللون صمم خصيصاً لهذه المهمة (وهو يشبه بشكله حزاماً ناسفاً)، ورجعت به من القدس إلى رام الله، ثم دفنت الليمون في الأرض، وقد أنتجت هذه الرحلة فيلم (تهريب الليمون)/2006 الذي يظهر “جمانة” وهي تمشي في البلدة القديمة بالقدس بمحاذاة جدار الفصل، لتعبر حواجز عسكرية مراراً وتكراراً إلى أن انتهت من إحضار جميع ثمار ليمون تلك الشجرة، والفنانة هنا تأخذ فاكهة فلسطينية مألوفة وتساويها بسلاح أو ببضاعة مهربة (والغريب أنها لم تواجه أي نوع من التفتيش المتوقع عند الحواجز)، فالليمونة بالنسبة للفنانة تمثّل “ثراء ومجد الأرض، وموسوعة شخصية وتاريخية من الارتباطات الثقافية”، حيث يصبح ذاك الماضي الأغنى بضاعة يجب تهريبها في الحاضر الفلسطيني الكئيب، وإن إمكانية قلب هذا الواقع تكمن في انبعاث الليمونة من جديد، شجرة أو عصيراً كما في نسخ أخرى من المشروع.
وإذا كانت “جمانة” غير قادرة على إحضار شجرة كاملة من القدس إلى رام الله، فإن المدير الفني للأكاديمية الدولية للفنون “خالد حوراني” قد وضع نفسه أمام تحدّ لوجستيّ أكثر صعوبة، فاستعدادا لمشروعه “بيكاسو في فلسطين” /2011 قرّر أن يستعير لوحة بيكاسو ( تمثال نصفي لامرأة)/1943 من متحف “فان أبّي” في “أيندهوفين” الهولندية لعرضها في الأكاديمية في رام الله بدءا من الرابع والعشرين من حزيران، لتكون تلك المرة الأولى التي يحضر فيها عمل لبيكاسو إلى الأراضي الفلسطينية. وقد صادف المشروع الذي بدأ التحضير له منذ عامين عوائق جمة في الطريق، منها أن المتحف الهولندي اشترط إقامة مكان خاص آمن يمكن التحكم بجوّه من أجل عرض اللوحة، وهو ما بدا بسيطا مقارنة بالحصول على إذن وتعاون السلطات الإسرائيلية لشحن العمل، بما في ذلك نقله من مطار “بن غوريون” إلى الضفة الغربية، وحلّ الإشكاليّات القانونية والتأمينية الناجمة عن وضع فلسطين الغامض باعتبارها منطقة محتلة.
وقد خضع احتمال وصول العمل لفلسطين إلى تكهنات عديدة، رافقها تأجيل مستمر لعرضه الأول، من تشرين الأول/أكتوبر 2010 إلى نيسان/ أبريل 2011، ثم إلى أواخر حزيران/ يونيو، لكن حتى لو لم تحضر اللوحة لما تغيّرت قيمة وطرافة مشروع “بيكاسو في فلسطين”، سيّما أن “حوراني” قد قام، بالتعاون مع المخرج “رشيد مشهراوي” بتوثيق العملية جميعها. وسيقف هذا التوثيق، مدعوما بفيلم ينوي “مشهراوي” إطلاقه عام 2012، شاهداً على نظام الاحتلال الكولونيالي الذي كاد يجعل المشروع مستحيلا، وقد أجبر “حوراني” الاحتلال، وهو يفحص مداه وحدوده، على إظهار أشكاله المنهجية والبيروقراطية وغير المرئية غالبا.
مستقبل عبر الماضي
إن خلق علاقة مع الماضي التاريخي هو عمل أساس، سواء كان بشكل رحلة إلى ما كان بيتاً، أو بالتجسّس على الجيران، أو بمحاولة تعريف جمهور الضفة الغربية بعمل فني حداثي مهم، وهذا ليس فقط من أجل الحفاظ على ثقافة واقعة تحت الحصار، إنما لتخيل مستقبلها كوطن أو دولة أيضاً، وقد عمل “خليل رباح” على هذه الفكرة بعدة تنويعات، بما في ذلك اختلاق شركات وطنية لمجتمع مدني فلسطيني مستقل لم يظهر للنور منذ نكبة 1948، مثل “الولايات المتحدة الفلسطينية تايمز” و"الخطوط الجوية للولايات المتحدة الفلسطينية"، وقد نظر “رباح” أبعد وأبعد إلى الوراء في عمله “متحف رباح الفلسطيني للتاريخ الطبيعي والبشرية”/2004 ـ 2009، والذي شمل بظهوره المتكرّر في المعارض الدولية عرضاً لقطع فنية بشكل حفريات وعظام وعينات نباتية ورجوم نحتها الفنان من أشجار الزيتون، وفي عملٍ أحدث يوجّه “رباح” اهتمامه إلى تاريخ الفن الفلسطيني من خلال سلسلة جديدة مؤلفة من 50 لوحة من نوع “صورة واقعية”1 تحت عنوان “معرض فني: تمثيلات أشياء جاهزة 1954ـ 2009”/2011، وهي تعرض تلك الصور التي رُكبت في الصين بدايات وأعمالاً فنية ولحظات مهمة أخرى في تاريخ الفن الفلسطيني، مثل معرض “إسماعيل شموط” الشخصي في القاهرة سنة 1954، ونساء يرتدين الفرو ويتأملن لوحات “ليلى الشوّا” في صالة عرض سلطان بالكويت سنة 1972، و14 فناناً يقفون معاً ليُرْسَموا في معرض “الربيع الأول” في فضاء “الحكواتي” بالقدس سنة 1985، ومشاهد من معرض “بين الفنانين” في رام الله 1995، وعمل “منى حتوم” في معرضها الشخصي بمتحف Fondazione Querini Stampalia في البندقية 2009، وقد جاء العمل بشكل كرة أرضية حمراء متوهجة، وهو يذكّر بأن الفن الفلسطيني وجد فعلاً، وأنه يوجد تاريخ من المعارض والعروض والمشاريع المهمة، وتكمن مساهمة “رباح” في تقديم وثائق لتاريخ لم يؤسس بعد، أو لسرد لم يرد على الألسنة كثيراً، وهو نتيجة مباشرة لحقيقة أن فلسطين ذاتها بما أنها وطن الشعب الفلسطيني لا تملك حاضراً تؤسّس عليه ماضيها.
وفي العقد الماضي اختار الفنانون الفلسطينيون توظيف ذلك النوع من الواقعية الممزوجة بالمطالب الأخلاقية التي كان “إنويزر” قد وصفها في مقاله سنة 2003 الذي دار حول الاستقبال النقدي لـ"دوكيومينتا 11"، وجاء تحت عنوان “الوثائقي/ الحقيقي: السياسة الحيوية 2، وحقوق الإنسان، وعنصر الحقيقة في الفن المعاصر”، فكتب: “إنها نوع من الشهادة التي تنتج عملاً أخلاقياً في خضم تفاصيل الحقيقي من جهة، وتعزّز الحقيقة بالطريقة التي تجري بها حكمها على الأحداث وتنقل بها تصوراتها للناس وللأشياء من جهة أخرى…، هي فوق ذلك كله الاهتمام بالآخر، والإخلاص لحقيقةٍ يعمل الوثائقي دائماً على بنائها وتفكيكها”، وبهذا المفهوم يحافظ الفنانون على مسافة بينهم وبين أعمالهم نتيجة “الاهتمام بالآخر”، وتندر رؤية هذه المسافة بالذات في حالة الفنانين الفلسطينيين الذين ينتجون أعمالاً عن تاريخ فلسطين وواقعها الحالي، فالاحتلال الإسرائيلي المتواصل بحدّته وبآثاره بعيدة المدى لا يسمح بوجود مسافة كهذه بين الفنان وموضوعه، وكما قالت “إميلي جاسر” لمراسل نيويورك تايمز سنة 2009: “وُجد عملي ( اجتياز سردة) لأن جنديّاً إسرائيليا هدّدني ووضع الـ إم 16 على صدغي”.
1 Photorealist
2 Biopolitics