P
R
E
V
N
E
X
T

RYAN GANDER, We never had a lot of € around here, 2010, a single 25 euro coin from 2036. Photo by A. Burger. Courtesy gb agency, Paris.

رؤية أوروبية 2036

Ryan Gander

UK
Also available in:  Chinese  English

في الوقت الذي تترنح فيه اليونان وهي على حافة الانهيار الاقتصادي، كان من السهل على زوار بينالي البندقية الذين لفحتهم شمس هذا الصيف المشؤوم، ألا يلاحظوا نبوءة متلألئة في أرضية الجناح الرئيس، في حين كوفئ الممعنو نظرهم جدياً في مستوى أقدامهم برؤية منحوتة ضئيلة لا تقاوم، للفنان البريطاني المفاهيمي “ريان غاندر”، حيث يظهر العمل ( لم يكن لدينا قط العديد من اليوروهات هنا)/2011 مطابقاً تقريباً لقطعة الـ 2 يورو المعدنية، لكن بالنظر إليه بدقة أكبر يتكشّف أن القطعة المعدنية في الحقيقة هي من فئة 25 يورو، وأنها تحمل تاريخ 2036، فضلاً عن احتلال 24 نجمة مكان الـ12 نجمة الموجودة في العملة الحالية، وهو ما يمثل تجمعاً متضخماً للدول الأوروبية، وقد ثبتت القطعة المعدنية في أرضية الجناح بإحكام، وكأنها عالقة مؤقتاً في رحلة عودتها من المستقبل.

يبدو أن “غاندر” المفاهيمي بارع في الألعاب والحكايات والمرجعيات الأدبية، وغالباً ما تظهر أعماله على شكل قرائن مثيرة غير متوقعة تقود المشاهد بلطف نحو أدغال من الغموض حيث الحقيقة والخيال والأحلام معاً، فقد قدم صدمة من خلال عمله (فواصل)/2010 الذي عرض بمتحف “غوغينهايم” في نيويورك، والمكون من زجاج ملون ورصاص مبعثر في حجرة قراءة “آي سيمون”، وهذه المداخلة الطريفة هي نسخة “غاندر” المتخيلة للطروحات الفلسفية بين الفنانين الحداثيين الهولنديين “بيت موندريان” و"ثيو فان دوسبيرغ" اللذين اشتهرا بنشوزهما بسبب استخدامهما الخطوط المائلة، وقريباً من المتحف في حديقة سنترال بارك توجد منحوتة (الأمير السعيد)/2010 التي طُلِبت من “غاندر” لتعيد الحياة إلى حكاية “أوسكار وايلد” الحزينة الفرحة عن تمثال مرصع بالجواهر طلب من عصفور توزيع حليه على الفقراء الذين هدموا التمثال لاحقاً وعلى عجل بعد أن زالت عنه جواهره.

مع عمل (لم يكن لدينا قط العديد من اليوروهات هنا) يحذو “غاندر” حذو الاتجاه الفني الذي يتعامل مع الاقتصاد بتبجيل وبعبث معاً، وثمة أشكال أخرى للعمل، مثل قطعة ربع دولار أمريكي بقيمة 25 دولار من سنة 2032، وجنيه إسترليني، وربما منحوتة ين ياباني قريباً، وقد قام فنانون آخرون مثل “مارسيل دوشامب” وج.س.غ. بوغس" بصنع شيكاتهم وسنداتهم المالية وطوابعهم البريدية وفواتيرهم الخاصة، مثبتين بذلك أن “العطاءات الفنية” ـ المدعومة بسمعة الفنان وحدها ـ تستطيع محاكاة السندات المالية إلى حد ما.

وضمن هذه الأعمال الفنية المحاكية للعملاء يقف عمل “غاندر” فريداً، ذلك لأنه يطرح علناً سؤال القيمة المستقبلية، وعلى الرغم من أن الكل يفكر يومياً بالمستقبل وبالنقود، فإن الفنانين نادراً ما تعرضوا للموضوع تعرضاً ذكياً، وهو ما يشكل مفاجأة أخرى، نظراً لأن الفن المعاصر ليس غريباً عن التسليع.

الفنانان المفاهيميان “جوناثان كيتس” و"كريستين لاهر" قاما بتطبيق مفهوم “دوشامب” عن “الفن كرأس مال” على معاملات الشركات الرسمية، خالقين بذلك نوعاً من التحقيقيات الهزلية في علاقات مقتني الفنون بالقيمة المستقبلية، فيما أبدع “كيتس” المقيم في سان فرانسيسكو ( الثقة في الدماغ)/2003، وهو مشروع استثمار فني لا يمكن لمقتني الفن ـ أي المستثمرين ـ أن يعرفوا قيمته الاحتمالية إلا بعد وفاة “كيتس” ذاته، أما الأكاديمية والفنانة المفاهيمية الألمانية “لاهر” فقد دعت الجمهور في عملها ( أن تهب لاشيء)/2002 لتوقيع عقود هبات للاشيء فعلاً، ومع ذلك احتفظوا بحقهم في التربح من إعادة بيعهم ذلك “اللاشيء” شريطة أن تحصل “لاهر” على 5 % من الأرباح، ويهدف النشاز والتنافر بين الهيكلية الشكلانية للعملين وضآلة الأرباح المحتملة منهما إلى توجيه نقد حاد لطبيعة العقود الاشتقاقية التلفيقية التي حكمت السوق العالمي في القرن الـ 21.

وللمفارقة فإن “روبن هانسن”، الفائز بجائزة “نيكا” الذهبية المرموقة في “بركس أرس إليكترونيكا” سنة 1995 عن فرع “الأفكار المستقبلية” لم يعدّ نفسه فناناً أبداً، وقد اختار هذا الاقتصادي والمستقبلي مخترع أسواق التنبؤات، أن يوصي بحفظ دماغه مبرداً بعد موته، كدليل على إيمانه بالمستقبل. وفي الأفكار المستقبلية، أو ما يعرف عادة بأسواق التنبؤات، يراهن المشاركون على أحداث مستقبلية في الترفيه والسياسة والرياضة وغيرها من المجالات الممكن قياسها كمياً، ويمكن للشركات والحكومات وحتى الأفراد الاستفادة من هذه الحكمة الجمعية في عمليات صنع قراراتهم.
 
تظهر رؤية “غاندر” لعام 2036 تضخماً مالياً كونياً هائلاً، فيما تبدو أوروبا أكثر توسعاً وربما عناداً، فتركيا التي شكلت حادثة إقصائها الشائنة من عملة اليورو عام 2005 إهانة للبلاد الأقل ثراء وذات الأغلبية المسلمة، ما تزال لا تجد لها مكانا في "أوروبا"، وذلك على الرغم من النمو السريع في ناتجها المحلي الإجمالي بنسبة 11 % حتى هذا العام، الأمر الذي يضعها في مكان متقدم على جيرانها من البلدان الأوروبية المتقدمة.

ربما يكون “غاندر” مثالاً على المخالف الحكيم، لكنه لا يجد تأييداً كبيراً في تكهنه بعملة يورو طويلة المدى، وقد كتب الأب الروحي للمجازفة واللايقين “نسيم نيكولاس طالب” في سنة 2010 مقالة نشرتها مجلة الإيكونوميست بعنوان “العالم سنة 2036” وجاء فيها: “نموذج الدولة القطرية العظيمة بنظام حكمٍ أعلى-أسفل سيكون قائماً شكلياً فقط، هزيلاً بسبب العجز المالي، وسوء تقدير السياسيين للمصالح، وتضخم الأخطاء على يد الأنظمة المركزية، سيكون هناك عملات ربما، ولكن بعد التعلم من كارثة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي فإن الدول ستلجأ إلى عملة لاحكومية، كالذهب”، فيما يضع موقع “أنتريد” أحد أكبر أسواق التنبؤ على الإنترنت احتمالاً نسبته 13 % حالياً، وهو أنّ أية دولة تستخدم اليورو الآن قد تتخلى عنه منتصف ليلة 2011/12/31، وهذا الاحتمال سيتصاعد إلى 31 % في 2012، و55 % في 2014، والأرجح أن يزداد السيناريو سوءاً بحلول عام 2036.

إن إحدى أكثر التنبؤات المتداولة عن عام 2036 هو أن كويكب “أبوفيس” الذي يصل قطره إلى 885 قدماً سيصطدم بالأرض، وربما كان أثر مستقبلي كهذا وراء إرجاع عملة “غاندر” ربع قرن إلى الوراء، لتهبط على مستوى أقدامنا كتميمة للتغيير يمكننا من خلالها محاولة شراء شيء من الزمن.

Ads
SAM Opera Gallery SOTHEBY'S E-flux