يقيم الفنان الكوري الجنوبي “كيم بيوم”، ابن الـ48 عاماً في عمله “أنيماليا” عالماً لامعقولاً من السحب المنطادية، والصخور التي يمكن تعليمها الشعر أو الطيران، والبواخر التي تندب غياب البحر، والفنان في عزفه نوتة ساحرة لأعمال تجمع بين العبثية والتحليلية الصارمة يوظف عناصر من المفاجأة واللامألوف، وهي تكتيكات تذكّر بالدادائية وبالسريالية، من أجل مساءلة النظام الطبيعي للمخلوقات وإمكانية الإحيائية أو الحياة الروحية للجمادات.
افتتح العرض بعمل حصان يركب حصاناً (بعد إدوارد موبريدج)/ 2008، وهو فيلم صور متحركة بني على دراسات رائدة في الحركة لمصوِّر القرن الـ19 الإنجليزي "موبريدج"، وقد استبدل “بيوم” سائس “موبريدج” بحصان صغير يعتلي باستقامة سرج حصان، كاشفاً بذلك عن تلاعب وتعديل بالصورة محل الدراسة، وفي فيلم (مشهد)/2010 قلب “بيوم” الرواية المركزية من مدرسة الوثائقية الطبيعية المدغدغة للعواطف والسادية غالباً، والتي تعرض للحيوانات المفترسة وهي تطارد فرائسها، لنرى في اللقطات الجديدة الممنتجة ثانية ظبياً يطارد فهداً، وقد صرّح الفنان في مقابلة السنة الماضية: “كان لديّ دائماً هواجس حول الظلم الوحشي القائم بين الحيوانات أو البشر”، وعبر قلب الأدوار هذا، البسيط والفكاهي والمبتكر معاً، فإن “بيوم” يحكي عن شكوكه في مسألة الخلل في التسلسل الهرمي للطبيعة وقوانين الإنسان المجتمعية.
منحت الرسومات والمخططات لبنى ولأنصاب متخيَّلة سياقاً آخر لقلق الفنان، وكان أبرز أمثلتها مخطط مدرسة (الانعكاس)/2009، حيث قلب بناء مدرسة نموذجية رأساً على عقب، بمقاعد ودروج وحلقات كرة سلة منبعثة من الأرضية والسقف، وتلمّح المدرسة المقلوبة إلى إحساس “بيوم” بمثالب وخلل النظام التعليمي، فلماذا يكون التدريس وسيلة للتلقين وإدراج الإنسان ضمن المبادئ والقيم المجتمعية؟
ولد “بيوم” وترعرع في كوريا الجنوبية، لكنه حصل على ماجستير الفنون الجميلة من مدرسة الفنون البصرية بنيويورك، مما جعله مطلعاً على كلٍّ من نظام التعليم الملتزم والمحافظ في آسيا، والتفكير النقدي والإبداع المبجلين في التعليم الغربي، أما النظام التعليمي الخاص الذي يتصوره “بيوم” مقلوباً رأساً على عقب، ومختلطاً في كل أجزائه، فإنه يستلزم بالضرورة إعادة الترتيب.
قاد جناح الرسومات والمخططات إلى المعرض الأساسي الذي حوله “بيوم” إلى صف مدرسي من خلال 4 إنشاءات منفصلة، تشكل جميعها أجزاء سلسلة “أجسام متعلمة”/ 2010، حيث أن لامعقولية الأعمال المرتبطة ارتباطاً خفياً، وسيناريوهات الغرف الصفية وتعليمها المستبعد، تقدم نوعاً من السخرية والتهكم بالهياكل والأيديولوجيا القائمة وراء النظام التعليمي، وفي أكبر الأعمال ( أجسام تعلم أنها ليست إلا أدوات)/2010 وضع الفنان أغراضاً منزلية مثل السكينة وإبريق الشاي والمزهرية ومروحة الطاولة على مقاعد خشبية ضئيلة مصنوعة يدوياً، وجمعت الأجسام أمام محاضرة متلفزة مصورة مسبقاً لأستاذ مقطوع الرأس، وبصوته المسرّع الوتيرة والحاد يكرر بشكل قاطع وحاسم فائدة "الطلاب"، وبالتالي لا جدوى محاولة أن تكون شيئاً آخر، كما يشدد الصوت على أن الأدوات، كالطلاب تماما، لا تذهب إلى المستشفى لرؤية الأطباء كما يفعل البشر، بل هي تخدم بثبات أو تبدل ببساطة.
وفي عمل (صخرة تعلمت شعر يونغ جيونغ)/ 2010 يعرض فيديو لأستاذ يحاضر صخرة لمدة 212 دقيقة حول الشاعر الكوري الجنوبي المعاصر، حيث يرسم الأستاذ جداول معقدة ورسومات بيانية على لوح جاف يمكن مسحه، ويطرح أسئلة بلاغية، ويتوقف بين فترة وأخرى وكأنه ينتظر جواب الصخرة، وعلى يسار مونيتر الفيديو نشاهد الصخرة جالسة على طاولة بشكل يدعو المشاهدين للتساؤل فيما إذا كان هذا الدرس التاريخي قد غيّر تلك الكتلة الرسوبية بشكل من الأشكال، ويتبع العملان (صخرة تعلمت أنها طائر)/2010 و(باخرة تعلمت ألا ثمة بحر)/2010 المنطق ذاته، أو بالأحرى غياب المنطق، ولا يسع المرء وهو يشاهد أغراضاً مؤنسنة كهذه تجلس بائسة على المقاعد والطاولات، إلا أن يتخيل في ذهنه بشراً، طلاباً أو عمالاً، يجلسون معها، فهل تضمن النظم التعليمية القائمة استفادة الطلاب من إمكانياتهم القصوى؟ كيف يمكننا أصلا أن نعرف ما هي الإمكانيات؟
على أي حال فإن أسئلة فلسفية ودوغمائية كهذه تحتل مكانة ثانوية، لأن الجمهور قد يشغله أكثر إمكانية أن تنجو الباخرة من درسها المحبط، أو فيما إذا ستصعد الصخرة إلى السماء، و"بيوم" يقلب البنى والنظم الاجتماعية للأشياء والحيوانات والبشر التي نادرا ما جرت مساءلتها قلبا بالغ الإقناع، وهو بذلك لا يدعو الجمهور إلى تأمل وجود الإحيائية فحسب، بل يغرس حياة روحية في هذه الأجسام، على الأقل مادام المعرض قائما.