كان معرض “بين السماء والأرض: الفن المعاصر من وسط آسيا” طموحاً وناجحاً، ويليق بالسجل المميز لمؤسسة “كالفيرت 22” اللندنية التي تسعى لترويج ثقافة روسيا وأوروبا الشرقية واتحاد الدول المستقلة وفنونها المعاصرة، حيث قدم منظم المعرض “ديفيد إليوت” أعمال 23 تعاونية وفناناً بأعمار متباينة، يملك بعضهم حضوراً عالمياً مهماً، وهم الذين حضروا من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، مثل كازاخستان، وقرغستان، وطاجاكستان، وأوزبكستان، بالإضافة إلى أفغانستان ومنغوليا.
وعلى الرغم من أن الفرصة سانحة لاستكشاف أثر الانسحاب السوفييتي على الفن والمجتمع منذ التسعينيات، وللأدوار الجديدة التي تمثّلها الفنانون الكبار الذين تدربوا في مدارس موسكو، ونظراؤهم الشباب، فإن المعرض ابتعد ـ بذكاء ربما ـ عن منح ذاته ذلك الامتياز، إذ أن اختلافات الماضي والحاضر في تلك البلاد الستة جسدياً وسياسياً ودينياً واقتصادياً وفنياً، كانت ستجعل من الإحاطة بها مشروعاً ثقيلاً هائلاً، وعوضاً عن ذلك سلط “إليوت” الضوء على نوعية العمل المنتج عبر آسيا الوسطى كاملة التي يشعر أنه يتم غالباً تجاهلها أو تصويرها كاريكاتورياً في الإعلام الغربي، وإلى جانب ذلك لمح “إليوت” إصراراً جمعياً جديداً لدى الفنانين، تلخّصه قدرتهم على المضيّ بعيداً عن مآسي الماضي و"الجمع بين أثير المثالية، والعملية الحسية التي تتصف بالتوحّش والأرضية والمفارقة".
يلتقط فيلم ( أحلام ترانسوكسيانا)/2011؛ لـ “المغول مينليبايفا” تلك الثقة الفنية الوليدة، وفيه نرى تصحر بحر آرال نتيجة الري السوفييتي من خلال عيني طفل، بالإضافة إلى لقطات وثائقية لأسلوب الحياة في مناظرها القاتمة، وتجاورها متواليات لكائنات نسائية أسطورية مؤسلبة، يقفن في مواجهة مع مخلفات الاحتلال السوفييتي الصدئة، والنتيجة الخلابة لذلك كله تشكل مزيجاً من تعليق على الاستغلال السوفييتي مع بحث المخرجة عن هويتها الموروثة من خلال لغة سريالية تصفها هي بـ “الشامانية الصوفية الرومانسية”.
والكثير من الأعمال المختارة كانت ذات طابع سياسي معلن، فعمل (إعادة ترتيب التاريخ)/ 2011؛ لكل من “غليم مادانوف” و"زوريش تيريكباي" كان واحداً من عدة إبداعات تتلمّس طبيعة الصدمة الناتجة عن الالتقاء بالقوى الكبرى ماضياً وحاضراً، ويتألف العمل من سلسلة مكونة من 40 لوحة ذهبية زيتية مرهفة، تعلوها حروف تشكل أسماء مؤلفين وعناوين كتب حول “اللعبة الكبرى”، في إشارة إلى صراع القرن الـ19 الروسي ـ الإنجليزي سعياً للسيطرة الإقليمية، والتي تم استخدامها إعلامياً أيضاً لوصف التسابق الحالي على النفوذ السياسي والاقتصادي في آسيا الوسطى، أما عمل (قمة الشيوعية، الخريف، الشتاء)/ 2009؛ لـ “إيربوسين ميلديبيكوف” الآنِيَة ـ جمع إناء ـ المطلية والمطروقة بشدة، فيثير مخاوف شبيهة، مغلّفة بفكاهة ثاقبة، إذ تحيل تلك المواد المعدنية المصنوعة على هيئة أعلى قمة في جبل البامير إلى الجبل في لحظة معينة؛ تشكل تنافس القوى السياسية المتصارعة عليه.
إن أعمالاً قوية تماماً كتلك، ذات أبعاد ساخرة، بل وغاضبة، لكن كثرتها في المعرض جازفت بتقويض بعض أهدافه، إذ سعى بداية إلى تجاوز وسم آسيا الوسطى بأرض يباب مغلقة، مهووسة دائماً بالتاريخ وبالاضطرابات السياسية وبالتدهور الصناعي والبيئي، وأن تعرض أعمالاً جمة تبرز فيها تلك المواضيع فإن هذا قد يدل على أنها ـ في نواحٍ كثيرة ـ ما تزال جوهرية في التقاليد الفنية للمنطقة، وبذلك فإن المعرض قد يكون معززاً وليس لاغياً، أو على الأقل معدّلاً للتعميمات القائمة المتعلقة بالمنطقة، ولهذا كله فقد بدا مطمئناً أن يلتفت المعرض إلى أعمال عالجت التغيرات في المجتمع على نطاقات أضيق ملامسة العادي وحتى اليومي عديم القيمة، وهكذا فإنه يمكننا ملاحظة بقع من اللون الشعبي “كوه” الأخضرـ الأزرق على عربة بطيخ مثلاً، أو على عمارة حكومية، وذلك في 42 صورة لـ “إيلينا فوروبيفا” و"فيكتور فوروبيف" شكلت سلسلتهما الشعرية (كازاخستان، المرحلة الزرقاء)2002/ 2005؛ وتعكس تلك الصور أشواقاً معنوية، مثل التطلعات القومية والعواطف الدينية وفقدان الحس المجتمعي، موازِنة بذلك بين الأسى والتفاؤل.
لم يكن “بين السماء والأرض” تجربة سهلة للزوار، وكان ينبغي تقديم تعليق صغير على كل عمل نظراً لاتساع الإحالات المرجعية وكثافتها، وعلى الرغم من ذلك فإن تركيبة الأعمال وجودتها كانت دائماً مثيرة للإعجاب، مما يشكل دعوة قوية لمزيد من الدراسات والمعارض التي تستطلع المسارات المتخذة باتجاه إعادة تشكيل الهويات الفنية في حقبة ما بعد الاتحاد السوفييتي.