لا تعكس الصورة الحديثة لسيؤول ما يختبئ وراءها من تاريخ معقد للكولونيالية والحروب وإعادة الإعمار والحكومة العسكرية والتصنيع السريع، وكما هو الحال في حواضر آسيوية أخرى، فإن التجديدات المتلاحقة لنسيج المدينة الحضري وبدءاً من ستينيات القرن الماضي عنت أن مساحات شاسعة من المدينة قد اختفت وأصبحت جزءاً من الذاكرة، وهو ما يُحدِث أحياناً نوعاً من القلق لسكانها.
حاولت بعض التعاونيات الفنية الكورية الأخيرة عرض أثر هذه التحولات الحضرية المستمرة المتلاحقة على سيؤول وسكانها، إذ بادرت تعاونية “Flying City” إلى إنشاء (منتجون منجرفون)/ 2004؛ وهو مشروع ضمّ مقابلات وتعاونات مع باعة متجولين أُجبروا على إخلاء منطقة “تشيونغ غي” الواقعة وسط سيؤول، بحجة إعادة إعمار نهر صغير كجزء من مبادرة تجديد حضرية.
أما تعاونية “استمع إلى المدينة” فقد أقامت محاضرات وبرامج رحلات ومشاريع بحثية أرشيفية، مثل (رحلات سيؤول)/ 2010؛ وذلك لمواجهة قضايا شبيهة، في حين عالجت تعاونية “جناح بدوام جزئي” مسألة نجاة الفن والناس في المدن من خلال احتلالهم المؤقت لأمكنة حضرية ذات مشاريع محددة، إذ احتُلت سنة 2009 ـ وضمن ما سمي “off-off stage” ـ قطعة أرض شاغرة وسط سيؤول، وتم تحويلها إلى مسرح ليليّ، وذلك بإقامة شاشة على شكل جدار بينها وبين القطعة المجاورة، فتمكّن الزوار من استكشاف قطعة الأرض المظلمة بواسطة مصابيح يحملونها، ليصبحوا مؤدين يجسّدون لا يقينيّةَ ما قد يخبئه المستقبل لمعالم حضرية شاغرة تزداد ندرتها، وفي ذات الوقت تأملت الفنانة الكورية العالمية “لي بل” في مسائل اليوتوبيا الحضرية وذكرياتها الشخصية عن سيؤول من خلال عملها (Mon grand récit: because everything…) الذي جاء على شكل منتحوتات تذكرنا بنماذج معمارية.
في مشهد سيؤول الفني ووسط تطورات الحقبة من منتصف تسعينيات القرن الماضي وحتى نهايتها، برزت ظاهرتان متوازيتان، أولهما تأسيس متاحف فنية معاصرة جديدة مثل “لييم/ متحف سامسونج للفن” ـ صالة “هوام” سابقاً ـ، ومركز "أرتسونجي"، وثانيهما انتشار فضاءات بديلة أصغر حجماً يديرها غالباً فنانون، مثل فضاء “Loop” وفضاء "Pool"، وإلى جانب هذه المبادرات الخاصة استثمرت الحكومة أيضاً في تعزيز حضور سيؤول العالمي من خلال دعم المعارض، مثل “بينالي سيؤول لفن الميديا الدولي” الذي يعرف بـ “ميديا مدينة سيؤول”، وقد أُطلِق بمتحف مدينة سيؤول سنة 2000 ليكون واحداً من ثلاثة بيناليّات كورية كبرى، بعد بينالَي “غوانغجو” و"بوسان"، ومما يُلاحظ أيضاً دعم الحكومات المحلية والوطنية الذي تم توجيهه لفنانين شباب وصاعدين، بالإضافة إلى الفضاءات البديلة الصغيرة التي تسهم عادة في تعزيز ممارساتهم، ونتيجة تلقي هذا الدعم فقد تمكنت مؤسسات بديلة صغيرة مثل “Loop” و"Pool" وحتى فضاء “Ssamzie” المؤثر ـ الذي توقف نشاطه سنة 2008 ـ من تطوير برامج أكثر طموحاً، وتحتل فضاءات أكبر، وتصبح معروفة على نحو أفضل.
ومما زاد من تعقيد الوضع الهش للبيئة في سيؤول تلك المراكز التي بدأت بداية طموحة قبل أن تحقق نجاحاً تجارياً كبيراً، الأمر الذي ساهم في ار تفاع قيمة التملك، وللدلالة على هذا فإن “لييم/ متحف سامسونغ للفن” الذي يعرض الفن والسيراميك الكوري التقليدي إلى جانب الفن المعاصر والحديث، أعاد الروح إلى برنامج معارضه المؤقتة، بعد أن ظل خاملاً فترة من الزمن، وهو الذي أقام مؤخراً معرضاً فردياً لـ"كريستيان ماركلي"، بالإضافة إلى معرض “لحن كوري: مونتاج للتاريخ والذاكرة” الذي يتعامل مع تعقيدات حاضر البلد وماضيه القريب، ويقع المتحف في منطقة “مابو ـ غو” التي تتواجد فيها جامعة “هونغك” مركز أحد أهم المرافق الفنية في كوريا، والتي جذبت كذلك صالات عرض جديدة مثل “KT&G Sangsangmadang”.
غير أن هذه الظاهرة سلاح ذو حدين، فإن كان سحر المنطقة قد جذب المقاهي ومتاجر الأزياء، فإنه في المقابل ساهم في رفع قيمة الإيجارات، مما أجبر الفنانين على نقل استديوهاتهم إلى أماكن أخرى مثل “مولاي ـ دونغ” الواقعة جنوب غرب المدينة، أو أبعد منها.
ونظراً للنجاح السريع الذي شهدته مبادرات الحكومة الفنية، فقد حولت سياسات دعمها إلى بنى تحتية جديدة، مثل المراكز الفنية المحلية الصغيرة التي تضم مساحات للعرض وأماكن إقامة للفنانين، فإلى جانب الاستديوهات المدارة حكومياً في مدينتي “جو يانغ” و"تشانغ دونغ"؛ فإننا نشهد حالياً ظهور فضاءات جديدة مثل “فضاء سيؤول الفني” في منطقة “غومتشيون” الذي تشرف عليه مؤسسة سيؤول للثقافة والفنون، وتتواجد فيه 9 استديوهات لفنانين محليين، و7 استوديوهات لفنانين أجانب، كما أنه من المقرر افتتاح البناء الجديد للمتحف الوطني للفن المعاصر سنة 2013 بمبنى قيادة الأمن الدفاعي السابق في سيؤول، ولكن نظراً لأن استثمارات كهذه تتطلب أعداداً كبيرة من الزوار لإثبات فاعليتها، فإن المنظمون يميلون إلى تخصيص أجزاء كبيرة من برامجهم لعروض تجارية ضخمة.
وعلى الرغم من أن المشهد الفني في كثير من الأحيان يتم تضمينه في المبادرات الأخيرة للمناطق الحضرية، إلا أن إخضاع النتائج لعوامل اجتماعية وسياسية سيكون مدعاة للقلق، فالسياسيون يميلون إلى ملاحقة غاياتهم الإستراتيجية الخاصة، ومع ذلك فإن تلك النتائج غير المتوقعة تسلّط الضوء على ديناميكية مدينة مثل سيؤول، وإن الموقف الحالي الذي شهد الانخراط المتواصل للمصالح الحكومية والتجارية في المشهد الفني يجعل المرء يتساءل عن الفرص التي تنتظر الممارسات الفردية والبديلة.