مضى شهران على انتقال مجلتنا إلى مقرها الجديد في هونغ كونغ، ولايزال الحديث بين محررينا حول البنى التحتية جارياً، ليس فقط حول كيف نجهّز في آسيا مكاتب التحرير التي كانت في نيويورك، إنما أيضاً حول كيفية المقاربة مع نظرائنا في المجال الفني في هذه المنطقة فيما يخص بناء مؤسساتهم الفنية، أي بدءاً من الفضاءات التي يديرها الفنانون وحتى المتاحف الكبيرة، وذلك في بيئة مزدهرة لكنها فقيرة مؤسساتياً، وفي هذا العدد تتأمل مجلتنا في الهيئات الفنية المتعددة في آسيا، القديمة منها وتلك الآخذة بالظهور، وكذلك في الأشخاص الذين يؤثرون في تلك المجتمعات الوليدة.
محررنا الإداري “أوليفييه كريشر” درس في تحقيق العدد أعمال الفنانة الهونغ كونغية الشابة “وونغ واي ين” التي أنهت لتوها برنامج إقامة في “أرشيف آسيا الفني”، ويكشف مشروعها غريب الأطوار الذي هدفه خلق تاريخ فني مغاير لهونغ كونغ؛ عن أزمة هوية في الساحة الفنية المحدودة في البلد، فأعمال “ين” تنتقي ممارسات مَتحفية ومفاهيم عن السلطة في عالم الفن لتتلاعب بها، منذ محاكاتها اليدوية الساخرة لكاتالوغ بينالي هونغ كونغ الفني سنة 2005، وحتى سلسلة نماذجها المعمارية والملصقات التهكمية الهزلية (إذا كان لديك مال، فابنِ لـ HK متحفاً)/ 2007ـ 2008، وحول المشهد الفني المضطرب في هونغ كونغ تقول “ين” بصراحة: "يتعلق الموضوع بانعدام النقاش والتواصل بين الفنانين والآخرين العاملين في القطاع… كنت غاضبة من الطريقة التي تعامل بها هذه المدينة عمَّال المجال الثقافي، وقد انسحب غضبي هذا على المتحف، وبما أن العمل جارٍ الآن على مقاطعة غرب “كولون” الثقافية ـ حيث تسعى هونغ كونغ لبناء مشروع متحف عالمي كبير ليرى النور العقد القادم ـ فإنه من الأجدى بالقائمين على ذلك المشروع الإنصات للأصوات المتعددة التي تشكل المشهد الفني هنا".
وإذا انتقلنا إلى سنغافورة ـ التي تفوق المتاحف الفنية فيها ما هو متواجد لدى جيرانها مجتمعين ـ فإننا نرى استمراراً في حالات الرقابة، آخرها ما حدث في بينالي هذه السنة، وبهذا الصدد تقوم “سوزي لينغهام” أستاذة الفنون البصرية والأدائية المساعِدة في “المعهد الوطني للتعليم” بسنغافورة؛ بتتبع القصة المقلقة للرقابة على الفنون في البلد، وكيف أعاقت تلك الممارسات حرية التعبير، سواء تمظهرت بشكل الرقابة الذاتية الخفية، أو بنشر معلن لقائمة سوداء بأسماء فنانين وأنصارهم، تلك الحرية التي تعتبر إحدى أهم أعمدة الثقافة وحقوق الإنسان في مجتمع مفتوح.
فيما يستعرض المحرر المشارك “أندرو كوهين” في مقالته عن أعمال النحات العصامي “وانغ كيبينغ” كيفية مشاركة الفنانين الصينيين في عملية “لَبْرَلَة” بلادهم، ويشتهر “كيبينغ” بتماثيله النصفية المشوهة عن ماوتسي تونغ، تلك التي نحتها من جذوع الأشجار في ثمانينيات القرن الماضي، وقد دخل التاريخ هو ورفاقه الفنانين حين تحدوا النظام إبّان بداية الانفتاح في الصين في عهد “دينغ تشاو بينغ”، ثم نتجه إلى غرب آسيا حيث المنتدى الذي نظمه المحرر المراسل “هـ.ج. ماسترز” بالاشتراك مع المنظمة المستقلة غير الربحية للفنون "آرتيس"، وفي هذا المنتدى تمت الدعوة لاستطلاعٍ تأملي في عوالم الفن في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث ناقش “سعيد أبو شقرة” مدير صالة أم الفحم الفنية الدافع وراء إقامة متحف للفن الفلسطيني والمعاصر في إسرائيل، فيما قدّم “جاك بيريسكيان” المدير المؤسس لـ “مؤسسة المعمل للفن المعاصر” في القدس وصفاً مقلقاً للحياة وللعمل في منطقة عسكرية، أما الفنان الإسرائيلي “رونين إيديلمان” فقد وصف المراحل التحولية لمشروع فني جال به في أرض فلسطين التاريخية.
وفي باب “لمحات” يكشف المحرر المشارك “مايكل يونغ” عن الاتجاهات الجديدة في عمل الفنانة “يي سوكيونغ”، بما في أداءاتها من دمج مع الموسيقى التقليدية الكورية والرقص، في حين تسافر “أليسون وايت” إلى كراتشي لتُحضر منها صوراً عن الأنشطة المتنوعة للتعاونية الباكستانية الفنية “Vasl” التي قامت على مدى عقد بدعم الفنانين المحليين وبتعزيز العلاقات الدولية على الإنترنت وغيره، في حين تزور المحررة المسؤولة “إيزابيلا إي. هيوز” المركز الأرمني للفن التجريبي المعاصر، وتتحدث إلى مؤسسَيه إدوارد وسونيا بالاسانيان عن تطور الفن في “ييريفان” خلال السنوات الـ 20 الماضية.
وفي باب “مقالات” تعّلق “جيوتي دار” على ممارسات تنظيم المعارض في الهند، بينما تتساءل محررة المراجعات “هاناي كو” عن الفهم المؤسساتي في اليابان لمفهوم الثقافة، وعن جائزة “وسام الثقافة” التي تم منحها حتى لرائدي فضاء أمريكيين، فيما يناقش “شين شين ياب” في باب “دراسة حالة” دعوى حقوق الملكية الأخيرة التي أقامها 6 من فناني “الأوريغامي” أو “طي الورق” ضد الرسامة “سارة موريس”، وما يعنيه ذلك لحق الفنان في “الاستخدام العادل”.
أما رسالة هذا العدد فقد سطرها الباحث ومنظم المعارض المستقل “سونجونغ كيم” من مدينة سيؤول التي ربما تملك أكثر البنى التحتية الفنية ديناميكية في المنطقة، بما فيها المتاحف والفضاءات غير الربحية التي افتتحت مؤخراً، أو على وشك الافتتاح، ولكن لا يجب التهليل لجميع أشكال التطوّر ـ وأبوظبي مثال على ذلك ـ فبينما تبدو تلك الحاضرة العالمية مصمِمة على منافسة نيويورك ولندن وباريس، إلا أن مجموعة دولية من الفنانين كانت قد نبّهت العالم إلى المعاملة غير الإنسانية التي يتلقّاها العمال المهاجرون الذين يشيدون منطقة المتاحف الكبرى.
وفي باب “محور العدد” يشرح لنا “غريغوري شوليت” أحد الفنانين المشاركين في المجموعة الدولية تلك؛ سبب مقاطعتهم “غوغنهايم أبوظبي”، وبحماس مماثل نجده في باب “واحد بواحد” تقوم فنانة “النيو ـ جيو” “أشلي بيكيرتون” المقيمة في مدينة بالي باستذكار رسومات “نيومان ماسريادي”، أما في باب “استطلاع” فيشير الفنان الهونغ كونغي “هو سيو كي” إلى يده، تلك الأداة التي لا يمكنه مطلقاً العيش من دونها.
ومن خلال تحليل 3 كتب جديدة تستكشف الفن الفلكلوري والجميل والوهمي يعلق “دون ج. كوهن” كبير المحررين على الإنتاج الثقافي في مواقع متميزة، أما في باب “مراجعات المعارض” فترتحل بنا من كراتشي إلى لوس أنجلوس، ومن بورت مورسبي إلى فلورنسا، وما بينها، ففي الصين مثلاً نلقي نظرة على معرض الميديا الجديدة الباذخ “عبر الحياة”، وفي لندن نزور معرض “بين السماء والأرض: الفن المعاصر من آسيا الوسطى” الذي نظمه “ديفيد إليوت”، وضم أكثر من 20 فناناً من آسيا الوسطى، ومن شيكاغو نورد تقريراً حول العرض الذي أقامه “متحف الفن المعاصر” لأعمال فنانَي الرقص اليابانيين الرائدين “إيكو” و"كوما"، ويشتمل عددنا أيضاً على مراجعة مسهبة لترينالي “يوكوهاما” (ساعتنا السحرية) الذي أقيم في الموعد المحدّد له هذه السنة، على الرغم من الزلزال المأساوي الذي وقع في شهر مارس/ آذار.
وفي أعقاب التسونامي المدمر يطرح الترينالي تساؤلاً مفاده: “كم من البشر يمكن أن نعرف؟” والجواب كما تدلنا عليه القصص القادمة من فلسطين وإسرائيل، أو من معركة “ين” ضد العزلة الفنية وإهمال المجتمع، يُبرِز مرة أخرى أن وظيفة الفن ليست التلاعب بموقع أو بمكان البناء، وليست الحصول على ميزانية ضخمة، فالفن هو ذلك الربط بين البشر على أكثر المستويات الإنسانية بساطة.