يكتسب اقتران الفن بالتكنولوجيا حضوراً بارزاً في الصين التي تتوق لتكون في الطليعة بشتى مجالات التكنولوجيا فائقة التطور، وفي المعرض الضخم “عبر الحياة” الذي احتضنه المتحف الوطني الصيني للفن، تم عرض 53 عملاً فنياً لأكثر من 80 فناناً وتعاونية عالمية، وقد صنعت الأعمال بأحدث التقنيات لتكون بمثابة عدسة يمكن من خلالها تأمل العلاقة الهشة بين الإنسان والطبيعة، وإذا كان معرض “أوقات تركيبية” ـ الذي شهده المتحف خلال دورة الألعاب الأوليمبية في بكين ـ قد سعى لتسويق انخراط الصين بالميديا الحديثة للجمهورين المحلي والدولي، فإن معرض “عبر الحياة” ـ الذي أشرف على تنظيمه اختصاصي فن الميديا الصيني “زانغ غا”، وجاء في افتتاح “الترينالي الدولي لفن الميديا الحديثة”ـ حقق غرضاً مزدوجاً، حيث كشف عن موقف الصين الواعي والساعي نحو إنتاجٍ إبداعي وتقدم تكنولوجي يتجلى في مؤسساتها، إلى جانب الإنذار بالتغيرات والتقلبات التي تحضر عادة في النقاش حول الحالة البيئية المحفوفة بالمخاطر في الكون.
وقد رُتب المعرض وفق محاور ثلاثة تذكِّر بوسائل التسلية الغامضة، وهي: “مستشعر الغرائبيّ”، “سمو الحدّي”، “منطقة الوشيك”، وفي مقدمة فناء المتحف يصادف الزائر العمل الفني (نفق الطقس)/2011؛ الذي يشبه خيمة بيضاء، حيث قام بتصميمه “ما يان سونغ” ليضعنا أمام أسلوب تسلية العصر الفيكتوري، وبمجرد دخول هذا الهيكل فثمة أصوات طقطقة مجردة، وتجهيزات غير مألوفة (مراوح طنانة، لعبة فيديو، قبة إكريليكية تحتها روبوتاً، منظاراً أفقياً)، تشجع الجمهور على التعامل مع المعلومات البيئية باعتبارها تجارب حسيّة مباشرة تتناقض مع ما هو متواجد في المبنى الرئيسي من لوحات تقليدية مرسومة بالحبر وأخرى زيتية، فكانت البيئة غامرة مع الأجهزة التفاعلية والتكنولوجيا المصقولة.
وفي تجهيزٍ نموذجي ضمن زاوية “مستشعر الغرائبيّ” بدا الجمهور متلهفاً لنور (القمر الاصطناعي)/ 2011؛ الذي صممه “وانغ يو يانغ” بشكل جرم عملاق مؤلف من 10 آلاف مصباح كهربائي موفِّر للطاقة، غير أن (ميزان)/ 2010؛ كان أكثر الأعمال جذباً للانتباه، وهو مشروع تعاوني جمع ثنائية الفن والتلحين LocalStyle (مارلينا نوفاك وجاي ألان إيم) مع المهندس الحيوي “مالكولم ماك إيفر”، ويتكون العمل من 12 حوضاً إكريليكياً، داخل كل حوض سمكة السكين المولِّدة للمجال الكهربائي، والتي تعيش في حوض الأمازون، وقد رُتبت الأحواض بشكل قوس يحيط بمنصة المتحدثين، وسمحت شاشةُ تعمل باللمس للجمهور بتنسيق نغمات موسيقية تنتج عن تحويل إشارات الأسماك إلى أصوات، ويهدف “مشروع الفن من خلال الأجناس” التعاوني هذا إلى خلق وعي بالأهمية العلمية لتلك الأجناس، وبهشاشة موئلها الطبيعي، فضلاً عن فكرة غير مقصودة ربما، على الرغم من أنها أوثق صلة بدعوة المعرض إلى ضمير بيئي، وهي أن (ميزان) يعكس بأسى قوة الإنسان واستعداده للعب دور الإله مع الطبيعة، منسّقاً أدوار المخلوقات الحية بعد نزعها قسراً من أماكن عيشها الطبيعية.
في الطابق العلوي وضمن “سموّ الحدّي” تتمثل الفنانة الأسترالية “ماري فيلوناكي” بسلسلتها (سمك – طائر)/ 09-2004؛ التي يتحرك فيها كرسيين روبوتيين (“سمك” و"طائر") بشكل دائم و"يكتبان" خلال ذلك رسائل حميمة لبعضهما تظهر لاحقاً من طابعات داخلية صغيرة، وقد بُعثِرت قطع من الأوراق على الأرضية التي يدور عليها الكرسيان ببطء ومن دون انتظام، وتؤسس حركات هذين الكرسيين لحكاية غريبة عن حب من طرف واحد يدور بين آلات، ما يمنح العمل سريالية وسحراً، مستغلاً موضوع هذا الجزء من المعرض أحسن استغلال، إذ إن “سموّ الحدّي” سعى لقبول الأشياء المصطنعة بما هي جزء من الطبيعة، ومنحها نوعاً من الحياة الداخلية، والجمهور الذي تسمّر أمام العمل ليرقب ما ستفضي إليه “العلاقة” يشهد بنجاح الفنانة ومنظم المعرض في عملهما.
أما في قسم “منطقة الوشيك” فتطالعنا الإنشاءة الضخمة (فارس الاستقالة اللانهائية) /2009؛ للفنانة الكندية “ديان لاندري”، وتتكون الإنشاءة من 12 عجلة معدنية ترمز لعدد الشهور والساعات، والعجلة عبارة عن حلقة مكونة من زجاجات مياه بلاستيكية في كل منها رمل ومصباح كهربائي أبيض، وحين تدور العجلات ينزاح الرمل داخل الزجاجات كما هو الأمر في الساعة الرملية، باعثاً في جهاز “لاندري” الأنيق المشؤوم مشاعر الموت والفراغ وسط حركة دائمة باهرة، وهذه الإنشاءة البائسة تزاوج بين قلة المصادر المتاحة وسهولة إلهاء الإنسان بالأشياء التكنولوجية اللامعة، في إيجاز شعري لمدى الانسحاب والفجائعية التي تختفي بين ثنايا هذا الموضوع.
وفي معرض “عبر الحياة” حملت الأعمال شعوراً بالمسؤولية يليق بترينالي فني جديد في بكين يجمع بين الوعي بالقضايا البيئية الكونية الخطيرة وطموحه ليكون أنموذجاً لحقبة أصبح فيها الفن التمثيلي – كما يقول منظم المعرض ـ “جزءاً من الماضي”، وبذلك فإن تلك الأعمال تسكن عالماً متوتراً مراوغاً، وقد بدت بعض الإنشاءات معقدة حقاً أو روحانية جداً، أو منغمسة في إبهار مشهدي تام، أما ما يعلق في الذاكرة منها فهي تلك الأعمال التي توازن بين الفكرة والشكل، أو باختصار تلك القادرة على أن تنطق بوضوح من خلال لغة ليست تقليدية.