P
R
E
V
N
E
X
T

دليل لأوقات الثورة وما بعدها

Palestine Jordan Kuwait Egypt
Also available in:  Chinese  English
77_thepoint_toy_soldier_web_1000

Illustration by Debbie Poon for ArtAsiaPacific.


أن تعيش في “حالة الطوارئ” كحتمية، يعني أن تعيش في حالة الثورة، فأثناء ثورة ما يصبح الإنتاج ـ أياً كان شكله ـ وسيلة الحركة من أجل النجاة، ووسيلة المشاركة والإسهام في التغيير، حتى بالنسبة لأولئك الذين هم من أمثالي غير الحاضرين جسدياً في المكان الثوري نفسه؛ تصبح عمليات الإنتاج نفسها هنا وثائق على الزمن الذي ظهرت فيه، وبعد تجاوز الإثارة المذهلة التي تصاحب المرحلة المنجزة من الثورة، فإن من الضروري أن نفهم كيف جرى ما جرى.

إن نتائج المشاقّ وظروف الحياة القاسية التي تمت الثورة عليها، تصبح ذاتها سلاح الثوريين المهرة وأدواتهم التي تمكّنهم من الصمود في وجه عناد نظام رافض للإصلاح. لنأخذ مثالاً على ذلك: إن تعقب أسئلة من مثل (من الذي أوصل الكهرباء من المصابيح في ميدان التحرير إلى الخيام وقاطنيها؟ وكيف عرف الطريقة لفعل ذلك؟) قد يوصلنا للكشف عن مشاركة أولئك الذين ربما فعلوا الشيء ذاته فيما مضى حفاظاً على لقمة العيش في المناطق المكتظة بالسكان، الخالية من البنية التحتية، على أطراف القاهرة.

قد لا يكون هناك البتة وقتاً كافياً لفحص دقيق وشامل للقصص العديدة وطرائق تغلغلها في المجتمع، إذا أخذنا بعين الاعتبار وفرة المواقع والمواد التي أنتجها سياسيون ومعارضون ومدونون وصحفيون وناشطون ومستخدمو الـ “تويتر” خلال ثورات العام الماضي، هذا فضلاً عن ملاحظاتنا الذاتية، وتأملاتنا، ومجموعاتنا، وأرشيفاتنا المبوبة، ومع ذلك، فأن نمنح ذواتنا والثورة ذاتها المسافة اللازمة للتحدث عن الخبرات وفهمها، فهذا يعني أن نفهم صناعة الثورة والنجاة بعدها.

ينتاب أهل الفن دوماً صراعات نفسية حول مدى واقعية وفعالية الإنتاج الفني في وقت حرج كهذا الذي نحياه، لكن رؤية فنانين حاضرين تماماً في قصة الثورة كما كان عليه الحال في القاهرة وسواها يصالحني ـ ولو للحظات ـ مع أزمتي الوجودية.

إن ممارسو الفن هؤلاء شاركوا في المسيرات والاعتصامات وحملات التوعية في الإنترنت وفي الشارع باعتبارهم ناشطين أولًا وقبل كل شيء، وقد كان ذلك إيذاناً ـ غير مقصود ربما ـ بكسر الفصام غير المعلن بين عالمين، وإذا كان الفنانون قد أصبحوا الآن نشطاء في الصراع، فإن المواطنين العاديين قد بدؤوا في تبني التعبير الإبداعي عن ذواتهم وعن الآخرين، ومع ذلك لنقتبس من الفنانة القاهرية “دعاء علي” التي تقول في مقالة “عن الفن والحرية” غير المنشورة: (العامة غدوا أخيراً مهتمين بالفن، شرط أن يكون في حالة اشتباك علني بالسياسة، وما الذي يمكن أن يكونه الفن إن لم يكن أداة للدعاية وتفسير التاريخ؟(

اهتم العامة بعملي (عسكر من تنك)، وهي إنشاءة فيها 12.235 تمثالًا مصغراً لجنود، عارضة ما مقداره 200/1 من مجموع الجيوش الـ9 في بلدان الشرق الأوسط، وقد أمكنني معرفة هذا الاهتمام من خلال العدد الكبير من الصور التي التقطت لعملي أثناء عرضه في بينالي اسطنبول سنة 2011، وقد أنتجت خُمس تلك الإنشاءة قبل ذلك بسنة لعرضها في بيروت، حيث تم استقبالها على أساس أنها سبر للعسكرية وللقوة وللعلاقات السياسية في المنطقة، أما في السنة الماضية، وأثناء التحضير لعرض العمل في اسطنبول، فقد جلست مع 12 مساعداً لتلوين التماثيل المصغرة للجنود الذين كان نظراؤهم الحقيقيون في الوقت ذاته يصوبون أسلحتهم ضد شعوبهم في الثورات العربية، وكم كانت لحظة قاسية تلك التي شهدنا فيها جهازاً وطنياً يتحول إلى جهاز إرهابي، وخلالها بدأتُ بتدوين كلمات جديدة ذات معان محددة تعلمتها من تلك التجربة: (منشقّ، هارب، منتشر، خائن، متسلّل(.

في الوقت نفسه كنت في حالة بحث وتجميع وتوكيل لمواد “مقروءة وبصرية” تلزمني من في نشر مشروعي المصاحب عن الجنود في المنطقة، وكانت تلك قصصاً حقيقية عن جنود يمكن تقسيمهم حسبما أرى إلى 4 أقسام: (المتأملون، الخياليون، المتظاهرون، المنكسرون)، وهم حتى نهاية 2010 كانوا إما يخوضون معارك وهمية في أذهانهم، أو يتظاهرون بها في التدريبات العسكرية، أو يلعبونها في المواقع الافتراضية، أو يقوم بها الجنود الأكبر سناً الذين شاركوا في معارك سابقة، وذلك ضد المثال الذي كانوه.

وأثناء قيامي بالبحث وجدت أناساً مأسورين بصراعات متخيلة وبعسكرية قسرية، إلى أن تغير كل شيء فجأة في العام الماضي، وقد كان القصد من هذا المشروع البحثي أن يكون دليلاً فقط كي أقدّم بورتريهات لجنود نائمين، لكنهم الآن ـ وخلافاً لتلك الصورة ـ عادوا إلى الحياة في عرض ضخم من التمويه، وحروب الشوارع، والأكفان، وقد جهدت كثيراً كي لا أكره جنودي وهم يتحولون في نهاية عام 2011 إلى وحوش.

ها أنذا الآن، مستغرقة تماماً بالتطورات السياسية التي تدور من حولي، والتي أعاقت وتجاوزت غايات مشروعي، إذ كنت قد نويت عام 2011 أن أنتج شيئاً ربما يساهم في تقديم شرح للأمور التي كانت تحدث معي ومع الآخرين، لينتهي بي الحال في نهاية العام وأنا غير قادرة على الإحاطة بالأمور التي نعرف أنها تحدث.