في مدينة دلهي، وفي يوم ضبابي من أيام ديسمبر/ كانون الأول زارت “أرتس آسيا باسيفيك” استديو “شيبا” الحاصلة على جائزة Asia Pacific Breweries Foundation Signature Art لعام 2011، وكانت الدردشة التالية معها:
هل لكِ أن تخبرينا عن انتقالك من الأعمال التصويرية المبكرة، مثل (بنات غانغا)/1992ـ 2004، إلى إنشاءاتك الأولى في تسعينيات القرن الماضي؟
بعد 10 أعوام من توثيق الحركة النسائية بدأت أسائل كذبة الموضوعية في التجارب الوثائقية الغربية الأساسية وسياسات التمثيل، وفي البداية التقطت صوراً لنساء يحاربن من أجل تغيير أوضاعهن، كنوع من التصحيح لوسائل الإعلام، لكنني أدركت أني وعلى مدى 10 أعوام قمت بخلق صورة نمطية أخرى، وهي المرأة المناضلة.
في إحدى الصباحات وأثناء انضمامي لمظاهرة فوجئت بسربٍ من مصوري الصحافة يطلبون من النساء الوقوف أمام الكاميرات كما تقف بطلات صوري، لذلك بدأت عملية أكثر تعاونية ببورتريهات ممسرحة مثل (سبع حيوات في حلم)/ 1998، نقلت نمط ممارستي إلى البين- ذاتية، حيث يعمل المصور والشخصية معاً، وقد شكل ذلك بطريقة ما اتجاهي نحو الفن، فتمت “مسرحة” عمل (بنات غانغا) بطريقة مختلفة، وعلى كل حال تشكل النساء الزاهدات هويات أدائية، بالإضافة إلى أنهن يقفن أمام المصور وقوفاً نشطاً، وقد احتوت الإنشاءة الأولى التي صنعتها بورتريهين من (بنات غانغا) إلى جانب منحوتات ونصوص موجودة found texts.
إلى جانب القضايا النسوية، كان لأثر التحول الحضري حضور دائم في مسيرتك، كيف ظهر ذلك في أعمالك؟
ظهر ذلك بداية مع عمل (نيلكانث ـ السم/الرحيق)/ 2002- 2000، ففي عام 2000 كان الهواء في دلهي خانقاً بشكل لا يصدق، إلى درجة أنني كلما تركت المدينة ورجعت إليها كانت اللازمة (مدينة سامة، مدينة سامة) مصاحبة لي، حيث يقودك السم عادة إلى شيئين آخرين هما: الدواء والرحيق، فقد قرأت عن الخيمياء، وعن المعالجة المثلية Homeopathy، وكيف للاستخدام الحكيم للسم أن يجعله دواء، وللاستخدام الطائش للدواء أن يجعله سماً، ومع تتبعي أصول الميثولوجيا وقفت على قصة "نيلكانث"، وفيها تعمل الآلهة والشياطين معاً لاستخلاص إكسير الخلود، حيث تقوم بخض المحيط خضاً عنيفاً لتظهر منه عجائب شتى: مثل المجوهرات، وأم الأبقارthe cow of plenty، فمع مواصلة خض المحيط يبدأ بالجيشان والغليان والقذف، متحولاً في النهاية إلى لهب، وفي لحظة يبدو الجميع وحيدين أمام كتلة سوداء.. أمام سمّ يهدّد بتدمير الأرض، ووحده “شيفا” ـ مدفوعاً بشفقته على العالم ـ يفتح فمه ويبتلع اللهب ليتحول إلى "نيلكانث"، وقد كان ذلك بالنسبة لي الكناية المثالية عن الجشع المتمثل في السعي إلى الخلود، والسم الذي يجب عليك مصارعته دوماً.
أعتقد أن هذه الصور حول “الماء الأسود” و “ماء فوق النيران” ترتبط أيضاً بعملك عن نهر “يمنا”؟
إنني أصنع أعمالاً عن “يمنا” منذ 2005، وهي جميعها تسعى إلى استعادة الذاكرة الثقافية والفلسفة الإيكولوجية التي أحسّها كامنة في عمق تلك السرديات كسبيل لإيجاد طريق ما عبر هذا الواقع الإيكولوجي الشديد، لكنني هذه المرة وبعد تعرضي لاختناق بسبب غاز الميثان المنبعث من النهر تملكتني حالة يأس شديد، لم يخرجني منها سوى انهماكي بعمل مستقبلي بعنوان (المياه السوداء سوف تحترق)/2011، عليك أن تعبر هذا النص المقدس؛ أنشودة يمناشتاك التي تصور النهر امرأة شهوانية فاتنة، وعندها فقط ستراه على حقيقته: صورة امرأة مجروح، فقد شكلت الأنشودة بالنسبة لي أداة للتأمل في الانفصال الغريب بين عبادة الإلهة والتجاهل التام للنهر، وفي الغسق يعرض عارض projection انعكاساً لصورة الماء وهي تشتعل لهباً، ويهدف عملي لصدم الجمهور، لأن موت النهر بالنسبة لي هو موت المؤنث أيضاً.
ينظر عمل (عراف الماء)/ 2008؛ الذي قد يكون أحد أكثر أعمالك إيجابية في تداعيات أخرى للماء، من أين جاءتك الفكرة؟
صدفة عثرت في بداية المشروع الفني العمومي (48° Celsius) على بناية تعلوها لوحة كتب عليها “بركة سباحة”، نظرت وإذا بي أقرأ على البناية ذاتها “مكتبة دلهي العامة”، وفي أحد ممرات البناية وجدت نافورة على شكل رأس أسد تعود إلى عهد الاستعمار، وقد ملئت بالجرائد وبالغبار وببيوت العناكب، وفي التسوية التي كانت فيما مضى بركة سباحة رأيت مقاعد محطمة، وفراشاً عفناً، وكتباً، فشعرت فوراً بأن هذا المكان هو الذي عليّ أن أعمل فيه، إذ بدا المشهد بكل أشيائه في التحام تام، فأصلحت النافورة، لكنني أجريت فيها ماءاً أسود اللون، لقد كان المكان مليئاً بضوء أزرق شديد إلى درجة أنك حالما تدخل ستتحول إلى كائن أزرق، وحين تنزل إلى الأسفل ستصادفك حجرة هائلة مليئة بكتب منتصبة حولك، وسترى صناديق خفيفة على شكل كتب تحمل صوراً كلاسيكية من الثقافة النهرية، وهي عبارة عن منمنمات مأخوذة من قصص "كريشنا"، وقد تموضعت بشكل نافر مع محيط المنطقة حولها، وبمحاذاة المزراب الرئيسي يُظهر صندوقاً خفيفاً خريطة دلهي القديمة، مبرزة أن الشارع الذي فوقك كان في السابق قناة ماء، ويخترق صوت الماء الجاري المكان كله، وبعد الماء الأسود ستأتي إلى ماء أزرق شديد الصفاء، إضافة إلى صورة لفيل يسعى إلى إرجاع الناس إلى تلك الذاكرة المركزية، للذة الماء: إنه كناية عن الذاكرة الثقافية، وأعتقد أن هذا أحب أعمالي إليّ.