قد يكون الفيلم الصامت (لاكونا)/2009 بتوقيع المخرجة الدنماركية السريلانكية؛ السويدية المولد “نينا مانغالا ناياغم”، مثالًا على ما نقول، فالدقائق الـ 10 التي يتكون منها الفيلم تشكل لقطة ثابتة مركّزة على وجه الفنانة وهي تجاهد لإتقان دقائق التواصل غير اللفظي الكامن في لغة الإشارة التي تُعرف أحياناً بـ “إيماءة الرأس الهندية”، ومع إعجابنا بهزات رأسها المتواصلة، فإن الفيلم بترجمته المصاحبة يقص علينا إدراك الفنانة التدريجي لكونها “آخَرَ” في طفولتها، وهو ما يمنح الفيلم مسحة وعظية، وإذا التفتنا نحو فن أكثر براعة لـ “مانغالا ناياغم” فسنجده في التصوير، فسلسلتها (الوطن)/2008 تُظهرها مع أفراد عائلتها في بيتهم في السويد، وهم منشغلون معاً في أعمال محلية تماماً، مثل قطف الفطر، وتزيين شجرة عيد الميلاد، وتلوين بيض عيد الفصح، وفيما يبدو والدها ذو الأصل التاميلي قد بلغ درجة ما من الرضا مع بلده المتبنّى هذا، فإن الفنانة ذاتها تظهر التباساً أكثر، بل تشوشّاً، لتتركنا الصور بلا إجابات حول المدى والطبيعة الحقيقية للاندماج.
وبشكل مشابه يتتبع الفنان “أنثوني كي” – الصينيّ الأبوين، والجنوب إفريقي المولد، والبريطاني الإقامة – تطوُّر أفكاره عن الهوية، وهذه المرة من خلال محتويات المطاعم الصينية وتغليف أطعمتها، ومن أفضل أعماله في هذا المجال (كتاب الأرقام)/2011؛ الذي عدّد فيه بعناية شديدة كل المطاعم الصينية في المملكة المتحدة، فدوّنها على لفافة مكونة من 8 آلاف عود من عيدان الأكل الصيني، بالإضافة إلى سير العمل الذي طلب من “كي عمله” إثارة ما يشبه الهالة الدينية، مما ساهم بنجاح في إيصال فكرة أهمية مشاريع كهذه إلى المجتمعات المهاجرة.
لكن أكثر الأعمال صعوبة جاءت من قِبل “نافين روانتشايكل” و"سيمون فوجيوارا"، فالأول ـ وهو فنان تايلاندي من أصل هندي ـ عرض 3 أعمال غير اعتيادية تحتفل بمجتمعه المحلي في “شيانغ ماي”، ففي عمل (هونغ رب كايك)/2008؛ قام الفنان بتجميع مقابلات أجراها بشكل منفصل مع 7 مهاجرين استقروا في “شيانغ ماي” مثل والديّ الفنان أعقاب الحرب العالمية الثانية وتقسيم الهند، وفي تلك المقابلات يؤكد كل مهاجر على الانفتاح والتعاون والمحبة التي وجدوها في تايلاند على الرغم من الفروقات الدينية والثقافية، وبالرغم من أن إجماعهم هذا يبعث إحساساً حميماً ورائعاً، لكنه منفّر في الوقت ذاته، فبعيداً عن الاستخدام المتواصل لكلمة “كايك” أو زائر باللغة التايلاندية كي يصف المهاجرون حالتهم؛ فإن انعدام أي شكل للشقاق والنشاز مقلق قليلاً للجمهور المعاصر، لكن ربما تكون صدمة تهجيرهم القسري من الهند قد قللت من استغراقهم في التفكير بقضايا الهوية.
أما إنشاءة “سيمون فوجيوارا” الفيلمية فقد قلبت افتراضات الجمهور بصورة أكثر توهجاً، حيث يظهر في العمل (Artist’s Book Club: Hakuruberri Fuin no Monogatari)/2010 كاتباً يابانياً ـ إنجليزياً في مقابلة مع مراسل بريطاني وهو يتحدث بعناية عن إعجابه برواية “مارك توين” الشهيرة “مغامرات هكلبيري فن”، وعما يتعلق بالتاريخ المعقد لترجماتها واقتباساتها اليابانية، حيث يلعب “فوجيوارا” دور الكاتب، دامجاً بين ملاحظات ممتعة حول تاريخ الرواية وحكايات بذيئة عن الشخصية التي يلعبها، لتكون النتيجة نوعاً من السخرية الفعالة من فن العمل الوثائقي، وفيما يواصل المراسل تفسير عمل الكاتب عن طريق سيرته الذاتية وإعجابه بشخصية “هكلبيري فن”، فإن الجمهور يسعى جاهداً لتحديد “فوجيوارا” الحقيقي، وللانغماس الكامل في هذه الدعابة، وعلى الرغم من أن المباشرة في العمل قد تجعله سطحياً، إلا أن ذلك أيضاً قد يكون جزءاً من لعبة “فوجيوارا”.
هكذا يفاجئنا معرض (الشرك) باختلاف مضامين أعماله على الرغم من وضوح موضوعه الرئيسي، ومع استمرار العولمة فإن العروض الجماعية لا يمكنها إلا أن تقدم شذرات حول موضوع معقد كالهوية الثقافية، في حين أن العرق والسلالة اللذان كان يوماً أساس تلك النقاشات أصبحا الآن وحدة ضمن عدة زوايا للتفكير فيه، وقد كان بعض الفنانين هنا أمثلة ساطعة على مشاعر الاغتراب المنتشرة بازدياد، فيما بدا الآخرون معلِّقين ثاقبين على هوس المجتمع بعواطف وهموم كهذه، وللمعرض أن يباهي باحتوائه على أعمال مثيرة مختارة بعناية، لكنه حتماً لم يكن في النهاية سوى لفتة عابرة في موضوع مترامي الأطراف كهذا.