إن المشروع الفني الحالم (ليس شبحاً، بل قوقعة)/ 2002-1999؛ الذي استهله الفنانان الفرنسيان “بيير هويغي” و"فيليب بارينو" نهاية القرن الماضي، تنبأ بجوانب كثيرة من صعوبات قانون التأليف والنشر المعاصر، ويحيل عنوان المشروع إلى مجلة “ماسامون شيرو” الكلاسيكية المصورة (شبح في قوقعة)/1991، وفي سنة 1999 اشترى الفنانان الفرنسيان حقوق ملكية “آن لي”، وهي شخصية كرتونية تمثل فتاة عادية صنعتها شركة “كوركس” التي تطرح شخصيات كهذه للاستعمال التجاري.
وإذا كان تعقيد الشخصية عاملًا في رفع سعرها، فإن “آن لي” الفتاة العادية بعينها الغزاليتين، وبأذنيها القادمتين من عوالم الجان، وبشعر ناصيتها الأرجواني، لم تكلف سوى 46 ألف ين ياباني، أي ما يزيد قليلًا عن 400 دولار آنذاك.
لكن “سندريلا” وجدت نفسها في أيدٍ أمينة، إذ حوّلها الفنانان الفرنسيان إلى شخصية ثلاثية الأبعاد، ذات قدرات صوتية وحركية، وعرضاها في فيلمين قصيرين، تحدثت فيهما بخفة عن هوياتها المتعددة كسلعة، وكقطعة فنية، وكشخصية أنثوية، وأتبعا ذلك كله بدعوة عدة فنانين وكتّاب لمقاربة “آن لي”، وخلق أعمال فنية بهدف ملء تلك “القوقعة” بحياة، بل ربما حيوات، وذلك على مدار 3 سنوات.
كما استجاب 16 نجماً لامعاً للدعوة، أمثال الممثلة “كاثرين دونوف”، والفنانون “ليام غيليك” و"ريركرت تيرافانيجا" و"دومينيك غونزالس-فورستر" و"ريتشارد فيليبس"، فأبدعوا لوحات وأداءات وأفلاماً وأعمالاً فنية أخرى حول تلك الشخصية التي كانت مجهولة يوماً، دافعين بها إلى عالم النجومية الفنية في معارض مثل “كونستهول زيوريخ”، و"متحف الفن الحديث" في سان فرانسيسكو، وغيرهما من الأماكن الكبيرة، وكان أحد أكثر الأعمال تنبؤاً فيلم “تيرافانيجا” البالغ طوله 8 ساعات و30 دقيقة، والذي يظهر “آن لي” وهي تقرأ النص الكامل لرواية “فيليب ك. ديك” الشهيرة “هل تحلم الروبوتات بخراف كهربائية؟”/1968، وهو الكتاب الذي ملأ حضوره في فيلم “ريدلي سكوت” الأسطوري “بليد رانر”/1982.
وفي سنة 2002 بُعيد إعلان متحف “فان آبي” في آيندهوفن عن نيته امتلاك جميع الأعمال الفنية التي قاربت “آن لي”؛ اختار “هويغي” و"بارينو" إعتاق دميتهما والقضاء عليها في الوقت ذاته، حيث أعلنا أنهما (سيحرران شخصية خيالية من عوالم التمثيل) من خلال وضع نهاية للمشروع الفني، ومنح حقوق ملكية “آن لي” للمشروع ذاته، ليمنعا بذلك أية محاولات قادمة لاستعمالها فنياً، وقد قال “بارينو”: (نحن نملك حقوق هذه العلامة، وقد قررنا أن نمنح الحقوق للعلامة ذاتها).
وبغرض الحصول على هذه الحقوق وحمايتها فقد تم تأسيس “شركة آن لي” (لضمان ألا تظهر صورة آن لي ثانية)، وتتكون الشركة من الفنانَين الفرنسيين كعضوين، فيما يحتل محاميهما “لوك سوسير” منصب الرئيس والممثل الإداري، وقد حرص الفنانان على اختفاء “آن لي” اختفاء مدوياً حقيقياً، إذ شهدت حفلة معرض “بازل” الفني التي أقيمت على شاطئ ميامي ألعاباً نارية أضاءت السماء بشكل وجه “آن لي”.
لقد أثار عمل (ليس شبحاً، بل قوقعة) تعليقات يفوق طولها طول حياة “آن لي” القصيرة والمثيرة، وذلك في موضوعات تراوحت بين التأليف والملكية والاستغلال، طارحة أسئلة مثل: هل رغبت “آن لي” حقاً في الاختفاء؟ أليس جائزاً أنها رغبت في امتلاك حقوقها وهي حية لا ميتة؟ وقد امتعض النقاد من الصور النمطية المتعددة الكامنة في قصة فتاة آسيوية شابة واهنة يقوم رجلان فرنسيان أبيضان بإحيائها أولًا، ثم بإسكاتها إلى الأبد.
لكن نقطة الضعف الحقيقية في المشروع تمثلت في الادعاء بأن (ليس شبحاً، بل قوقعة) لا يقوم حقيقة بتحرير شخصية “آن لي” بأي شكل جوهري، بل يعزز – بدلًا من ذلك – تحكم الفنانَين الفرنسيين بدميتهما الخيالية، وكما قالت العالمة “ريتشل وولف” مقرّعة: (إنهما يقدمان ذاتيهما باعتبارهما مبتكري “آن لي” ومحررَيها ووالديها، فهما منحاها الحياة، وهما يعرفان في النهاية ما هو الأفضل لها، وعلى الرغم من ادعاءاتهما عن أنهما يحميان “آن لي” كعمل، إلا أن ما يسعيان إليه في الحقيقة هو حماية “آن لي” باعتبارها إظهاراً لإنتاجهما الإبداعي الخاص، ومُظهراً لعبقريتهما الفنية).
لكن الذي تُرك دون نقاش مسهب كان الهيكل القانوني لـ “شركة آن لي” الذي يحمل خللًا في جوهره في ضوء سعي (ليس شبحاً، بل قوقعة) المزعوم لتحرير “آن لي”، والظاهر أن أهداف الشركة طوباوية تماماً وعرضة للطعن، فالغاية المزعومة مثلًا بعدم استخدام اسم وصورة “آن لي” إلا بإذن من الشركة غير قابلة للتنفيذ عملياً، إذ يملك الفنانون حرية مقاربة “آن لي” دون موافقة الشركة، ومن هنا فإن مقاربات محتملة مثل غرافيتي لـ “شيبارد فيري” أو لوحة “ريتشارد برنس” ستكون مشروعة تماماً، رغم أكثر اعتراضات “شركة آن لي” عنفاً، لأنها في الحقيقة قلبت صورة “آن لي” الأصلية بشكل كافٍ، وفي رد حقيقي حاسم ومشاكس على زوال “آن لي” أبدع الفنان البورتوريكي “بيدرو فيليز” والتعاونية الفنية “مكتب القانون” عملاً لفتاة تنظر إلى الكاميرا بسلبية عنوانه (تعيش آن لي)/2003، وهي مطبوعة ملونة بطريقة C-print ، كان قد خربش عليها بقلم أسود "فيليب وبيير، (لا تستطيعان قتل آن لي، إنها على قيد الحياة وبصحة جيدة في بورتو ريكو، اللعنة عليكما.. ف.و، ب. ف).
ومن أهداف الشركة كذلك منع التعدي على حقوق استخدام صورة “آن لي”، إذ ينص قانون الشركة الأساسي على (إذا ما رأته الشركة مبرراً، وفي الحدود التي سترسمها)، فإن للأشخاص المخولين من قبل “هويغي” و"بيرانو" الاحتفاظ بحقوقهم في أعمال كانوا قد أنهوها أصلاً)، و(أن يستخدموا هذه الحقوق بحرية تامة)، وتلمّح هذه المادة إلى الفنانين الـ 16 الذين صنعوا أعمالًا مستخدمين صورة “آن لي” بين 1999 و 2002، لكن الحقيقة أن هؤلاء الفنانين صنعوا تلك الأعمال كمنتجين مستقلين لا مأجورين خدمة لـ"هويغي" و"بيرانو"، مما يمنحهم الحق بملكية أعمالهم بغض النظر عن رأي الشركة في الموضوع، وعلى عكس ما هو متفق عليه ضمنياً؛ فإن سعي الشركة للحد من استخدام هؤلاء الفنانين الـ 16 القانوني لأعمالهم الفنية سيشكل انتهاكاً لا مبرراً ولا قانونياً لحقوقهم الأخلاقية والاقتصادية.
وختاماً فإن ما يبقى غامضاً هو حقيقة ما إذا كان اسم “آن لي” وصورتها قد اختفيا فعلاً، إذ أنه من الشائك تكوين دليل حقيقي على الوفاة، كما الحال بالنسبة لديكتاتور كوريا الشمالية، بعيداً عن المزاعم والأقنعة. وحسب نص الشركة الذي تفوح منه رائحة هروب مريب؛ فإنه ما من أحد يستخدم صورة “آن لي” أو اسمها (إلا وينتقص من قدر رئيسها)، يضاف إلى ذلك أنه وتحت رعاية “شركة آن لي” تواصل صورة “آن لي” حضورها في معارض عدة، آخرها في “تيت مودرن” في لندن 2009، ويمكننا القول: إذا أردنا فعلاً تحرير “آن لي” من عوالم التمثيل، فيجب منع جميع الأعمال الماضية من التداول، وأن يوقف المشروع تماماً، فكما يعرف الجميع، ليس من الطباع الحسنة إيقاظ الأشباح من مهجعها.
وعلى الرغم من كل هذه القضايا- أو ربما لأن كل شخص تحديداً شعر بضرورة التأمل في مصير تلك الفتاة الكئيبة ذات الشعر الأرجواني – فقد لقي مشروع (ليس شبحاً، بل قوقعة) ترحيباً واسعاً في الوسط الفني، ومن وجهة نظر قانونية فإن هذا المشروع الذي دعا إلى تعاون فني بدايةً قبل أن يسعى من دون جدوى لوأده؛ يسلط الضوء على إشكاليات قانون التأليف والنشر الموجودة اليوم، ويؤكّد “بارينو” بقوله: (نحن نحاول إعطاء حقوق لشيء ما.. وتاريخياً فإن حقوق المؤلف انتقلت من الملك إلى المطبعة إلى الناشر، ثم من الناشر إلى المؤلف، واليوم من المؤلف إلى الشخصية)، لكن المشكلة في ذلك التصريح تكمن في أن الشخصيات هي كائنات لا قانونية، على الرغم من ضرورة الإقرار بأن “هويغي” وبارينو" قاما بلفت النظر إلى قضية أساسية، وهي أنه على قانون التأليف والنشر في القرن الـ 21 معالجة قضايا مستجدة وسريعة التطور.
كان يمكن للفنانين الفرنسيين أن يستهلا مشروعاً مختلفاً تماماً لو أنهما استبدلا كلمة “الشخصية” بكلمة “الجمهور” حسب تصريح “بارينو” آنف الذكر، وبعد عَقد على نهاية “آن لي” الموجّهة فإن الإنترنت يزخر الآن بأرقام فلكية من المواقع التي تمنح المستخدمين ديمقراطية وحرية للتعبير والتبادل فيما بينهم، والدعوات إلى نظام حقوق تأليف ونشر مرن بما يكفي لخدمة تلك التكنولوجيات الجديدة نتج عنها تمجيد حركة ترخيص “الحقوق المتروكة” Copy Left لفضائل البرامج مفتوحة المصادر، ومنحها المستخدمين مدى أكثر اتساعاً لمقاربة وتوزيع الأعمال، وفي العوالم الحية للفن والترفيه فإن مشاركة الجمهور في كل أشكال الفن تقريباً قد ارتفعت كثيرا خلال العقد الماضي، وهو ما زاد من تحطيم أوهامنا حول الفنان الوحيد والسرد الخطي، إذ يمتلئ البث الآن ببرامج تلفزيون الواقع، وتزخر الروايات وألعاب الفيديو بنهايات متعددة، فالفن الذي يستدعي مشاركة الجمهور يحيط بنا من كل جانب.
لقد كان بإمكان “هويغي” و"بارينو" استغلال إشكاليات حقوق التأليف والنشر ليحررا “آن لي” في الحياة بدلاً من الموت، وذلك من خلال تسريح صورتها تحت رخصة المشاع الإبداعي أو بتحويلها إلى ملكية عامة إن كانا أكثر شجاعة، ومما لا شك فيه أن هذا سيكون تقديم “آن لي” هدية أمام عوالم التمثيل، بدلاً من تحريرها من ذاتها، لكن من الأفضل أن نتخيل أنه في مكان ما في الظلام الموجّه السبراني تقوم جنيّة ذات شعر أرجواني بتحديث صفحتها على الفيسبوك بارتياح، وهي تقايض خيوط هربها بحفنة من الروبوتات الرثة.