كان ذلك هو الطبق الخاص الذي شكل حجر الأساس في قائمة الطعام الموسمية في مطعم “بارك أفينيو أوتم” في نيويورك سنة 2011، وقد صاحب هذه التجربة الطعامية مفاجأة مدهشة، فالطبق الذي قُدِّم فيه اللحم كان قد أخذ من قصور الدكتاتور العراقي السابق صدام حسين.
هذا الطبق الرئيسي الاستفزازي (واللذيذ، كما قيل) نتج عن تعاون بين الفنان العراقي الأمريكي “مايكل راكويتز” و"كيفين لاسكو" رئيس طهاة مطعم "بارك أفينيو، وكان المطعم قد دعا ضمن برنامجه لسنة 2011 المنظمة النيويوركية غير الربحية “Creative Time” لتسهيل المشاريع المشتركة بين “لاسكو” و4 فنانين معاصرين صمم كل واحد منهم طبقاً رئيساً لكل فصل من الفصول، حيث يغير المطعم تصميمه وقائمة طعامه كل 4 شهور)، وكخاتمة لهذا البرنامج جاء مشروع “راكويتز” في قائمة طعام الخريف المعنونة بـ “Spoils” التي شكلت تحدياً أمام “لاسكو” لتحضير طبق مستلهم من المطبخ العراقي.
حملت بعض الأطباق المزخرفة التي ساهم بها “راكويتز” أختام الدولة العراقية التي كانت جزءاً من أختام صدام حسين الخاصة، بالإضافة إلى عدد من الأطقم التي تعود ملكيتها لفيصل الثاني آخر ملوك العراق الذي قتل أثناء انقلاب عسكري عام 1958، وقد اشترى “راكويتز” جميع هذه الأشياء من خلال موقع eBay، إذ وجد أطباق صدام التي كانت تستخدم في قصر السلام الرئاسي في بغداد بحوزة “أسامة الخزرجي”، وهو لاجئ ومقتنٍ للتحف العسكرية العراقية ويقيم الآن في ميتشيغن، في حين وجد آنية الملك فيصل الصينية من نوع Wedgewood مع “لورينزو لونا”، وهو جندي أمريكي خدم في اللواء الأول من فرقة المشاة الرابعة، وهي ذات الوحدة التي ساهمت في إلقاء القبض على الزعيم العراقي السابق في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2003، ومقتني فنون أيضاً يزعم أنه اشترى العديد من الأطباق من محلات الأثريات والبائعين العراقيين في البازارات التي كانت تنظمها وكالة تبادل الخدمات في الجيش والقوة الجوية.
أبدى زبائن مطعم “بارك أفينيو أوتم” ردود أفعال مختلطة تجاه ذاك الطبق العراقي الإلهام، ففي الأسبوعين الأولين من بداية المشروع تلقى المطعم أعداداً كبيرة من رسائل إلكترونية غاضبة مندّدة بالمشروع، وفي ذات الوقت ازداد الطلب على تلك الوجبة إلى درجة أن المطعم تدارس إمكانية شراء أعداد أخرى من الأطباق لتضاف إلى الأطباق الـ20 التي زودهم بها "راكويتز"، كي يستطيعوا خدمة عدد أكبر من الزبائن في ذات الوقت، لكن كثيراً من ضيوف المطعم وعلى الرغم من استمتاعهم بذلك الطبق إلا أنهم ظلوا لأسباب يمكن فهمها، مستائين مما يحمله من مدلولات ثقافية وتاريخية.
إن تناول ذاك الطبق بدا مهمة معقدة حتى للفنان نفسه الذي أخبر مجلتنا أنه ما كان باستطاعته إجبار نفسه على الأكل مباشرة من الأطباق، حيث وضع المستهلك في مكان الدكتاتور أو في مكان أحد أفراد عائلته أو ضيوفه، وحسب “راكويتز” فقد كانت (الفكرة الأساسية من المشروع وضع الطاعمين في حالة تتطلب منهم اتخاذ موقف أخلاقي ومهني)، ويضيف الفنان بفكاهته المميزة: (أحببت فكرة الشخص الذي يرغب كثيراً في طبق لا يمكنه أن يطلبه، إنها فكرة تشبه موسى الذي لم يستطع الذهاب إلى أرض الميعاد).
لم ينحصر الاهتمام بقائمة طعام “Spoils” على أهل الفن أو زبائن المطعم الأثرياء، إذ تلقى المطعم نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، بعد حوالي شهرين من إضافة طبق “راكويتز” إلى القائمة، رسالة إيقاف ومنع من وزارة الخارجية الأمريكية والبعثة العراقية في الأمم المتحدة، وأمرتهم بـ (تسليم) الأطباق التي عُدّت آثاراً عراقية قومية ، فيما يصرّ “راكويتز” على أن شراء الأطباق من كلا البائعين كان قانونياً، وعلى الرغم من أن الرسالة وصلت قبل يومين فقط من نهاية مشروع “راكويتز” إلا أن المطعم أزال “Spoils” من قائمة طعامه فوراً.
حين اطّلع “راكويتز” على رسالة المحامي التي كانت قد بُعثت إليه يوم عيد الشكر في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي؛ قرّر أن إرجاع الأطباق سيكون العمل الأمثل، ومع أن الخطة كانت تقضي بإرجاع الأطباق بعد عطلة عيد الميلاد، إلا أنها قُدّمت إلى منتصف ديسمبر/ كانون الأول لتتزامن مع زيارة رئيس الوزراء العراقي “نوري المالكي” إلى واشنطن، ولأن “راكويتز” صدف أن كان في نيويورك تلك الفترة، فقد أمكنه أن يشهد تسليم الأطباق للبعثة العراقية، وقام هو بتوثيق العملية من خلال تصويرها بالفيديو، معتبراً أن إعادة تلك القطع الأثرية إلى العراق خاتمة مثيرة لمشروعه الفني الطبخي.
وقد شكلت عودة الأطباق دلالة على الممكن، وهي أنّ العراق يكاد يضع نهاية لعمليات الإغفال المنهجية لمشاكله الاجتماعية، وما يأمله الفنان هو أن تبقي الأطباق على ذكرى الماضي متقدة، وأن تكون أداة للعراق كي يستقي العبر من مآسي تاريخه الحديث.
وبدافع من اهتمام “راكويتز” بالتفاعل بين الفنان والجمهور والعمل الفني، فقد أتبع تخرجه من جامعة ولاية نيويورك سنة 1995 بالتحاقه بمعهد ماساتشوستس للتقنية، مختاراً التخصص في برنامج الدراسات البصرية التابع للفنون العامة في قسم العمارة، وبعد إنهائه الفصل الدراسي الأول سنة 1997 حصل الفنان على منحة المشاركة في برنامج عماري لمدة 3 أسابيع، نظمته “جماعة العناية الخاصة بالتوطين الحضري” في الجامعة ذاتها، وهي الفرصة التي لعبت دوراً مهماً في إنتاج أول أعماله الفنية الكبرى.
وبرنامج المنحة الذي اتخذ من مدينة “الكرك” الأردنية مقراً له؛ أقام أغلب ورش عمله في الصحراء قرب البحر الميت، حيث درس “راكويتز” الخيام وتصميمات بيوت القبائل البدوية المحلية، حيث انبهر الفنان بتصميم البدو لخيامهم، ولا سيما الطرق المختلفة التي تركّب بها سواري الخيمة كل ليلة لتتلاءم والظروف المتغيرة دوماً لريح الصحراء، متبعين في ذلك نظاماً أشبه بدراسة حركة الهواء حال الإبحار.
وقد شكلت هذه التجربة مصدر إلهام لعمله (شبه موقع)/ 1998؛ الذي قام فيه الفنان بتطبيق مفهوم الخيمة البدوية في صنع ملاجئ للمشرّدين، حيث شاهد “راكويتز” بعد عودته إلى بوسطن أناساً ينامون قرب مراوح المؤسسات التجارية للحصول على الدفء، فقرّر استخدام فتحات البخار تلك لبناء ملاجئ بالونية دافئة بالتعاون مع مجموعة من الرجال المشردين الذين رآهم كثيراً في المدينة، وفي الاجتماعات التي عقدت بملجأ محلي تابع للبلدية في استديو “راكويتز” قدم أولئك الرجال مقترحات للفنان تتعلق ببناء الملاجئ بطرق عملية تناسب أسلوب حياتهم، فمثلاً اعترض المشردون على فكرة الفنان الأولية القاضية باستخدام حقائب بلاستيكية سوداء في بناء الملجأ بهدف تأكيد مبدأ الخصوصية، وذلك لأنها ستعيق قدرة سكان الملجأ على استشعار الأخطار الخارجية.
ويستذكر الفنان هنا كيف أن الرجال المشردين قد عبّروا في الحقيقة عن رغبتهم بأن يراهم الناس: (قالوا لي: لدينا أصلاً مقداراً كبير من الخصوصية، إذ لا يتحدث أحد إلينا في الشارع، وتلك هي المشكلة، فيمكنك إذن أن تحوّلنا من لامرئيين إلى مرئيين).
أطلق “راكويتز” مشروعه هذا للعيان في شوارع بوسطن سنة 1998 وهو لا يزال طالب دراسات عليا في المعهد، ومن أكياس قمامة شفافة ولاصق قوي ضد الطقس صُنعت الخيم البلاستيكية البالونية مزدوجة الطبقات، وصُممت بحيث تلصق بالمروحة الخارجية في البنايات، وقد صنعت كل خيمة حسب الطلب، لتلائم الاحتياجات والرغبة الفردية الخاصة، ولا يزال “راكويتز” ينتج ملاجئ جديدة بين فينة وأخرى، كما قام أيضاً بكتابة تعليمات مفصلّة وخطوة بخطوة حول كيفية صناعة تلك الخيم، ونشرها في “Spare Change News” وهي جريدة محلية يبيعها المشردون كجزء من مبادرة تهدف إلى تمكين مجتمعاتهم وتقويتها.
في يوليو/ أيلول سنة 2006، وبعد 60 عاماً من هجرة جده إلى الولايات المتحدة، أحيا “راكويتز” الشركة على شكل واجهة مخزن في "بروكلن"، وقد رأت الشركة الجديدة النور في “أتلانتيك أفينيو” الواقع في قلب الحي العربي من "بروكلن"، وقد زُيِّنت نوافذها الأمامية ببورتريهات مرسومة للفنان ولجده، فيما حملت نافذة المحل لافتة (شحن مجاني إلى العراق)، وقد دعا “راكويتز” أعضاء الجالية العراقية، وعائلات الجنود المتمركزين في العراق، وغيرهم من المهتمين بإرسال طرود إلى العراق، على الرغم من أن ذلك لم يكن كرماً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن كلفة إرسال طرد حجمه 8×10 إنشاً إلى العراق سنة 2006 بلغت 50 دولاراً، وقد استجاب كثير من الناس لعرض المحل، وأرسلوا هدايا ومساهمات خيرية للعراق، أما كلفة الشحن فقد دفعتها منظمات فنية منها “Creative Time”، وصندوق “Rockefeller Brothers”، و"مؤسسة نيويورك للفنون".
واجهة المحل التي أُعِيرت للفنان ولعدة أشهر أثناء انتظاره ترميم العمارة، حملت أيضاً سلعاً للبيع، مثل الكعك وشراب التمر، بالإضافة إلى 4 أنواع من التمر الطازج، وقد أحضرت جميعها من كاليفورنيا (مصدرها أشجار زرعت من بذور عراقية)، ووضحت لافتات مكتوبة على الجدار أن منتوجات التمر غالباً ما يتم تصديرها خارج العراق، مع وضع ملصقات عليها تزعم أنها صنعت في بلاد أخرى، مثل لبنان والإمارات العربية المتحدة أو حتى هولندا، وذلك بهدف التحايل على قوانين حظر الاستيراد والتعليمات الأمنية في الولايات المتحدة، وعلى جدار ثانٍ في المحل عُلّق شرح عن تاريخ التمر باللغتين العربية والإنجليزية، يوضح أنه منتج عراقي قومي مميز، كان في أغلب فترات القرن الـ20 ثاني أكبر صادرات العراق بعد النفط، وذلك قبل أن تحول الاضطرابات السياسية وما نتج عنها من عقوبات تجارية في الأعوام الأخيرة من دخول المنتوجات العراقية إلى الولايات المتحدة وغيرها من البلدان، وما صاحب ذلك من عواقب مدمرة على العراق وأهله، فبعد أن كان التمر يعد رمزاً للحظ السعيد في التراثين الإسلامي واليهودي، فقد وصل وضع تجارته حالياً إلى الحضيض، الأمر الذي زاد من حدة تأثير الإنشاءة على واجهة المحل.
تمثلت إحدى أهم غايات “راكويتز” من مشروعه (عودة) في استيراد التمور من العراق، وبيعها في “Davisons &Co” تحت مسمّى “منتجات عراقية”، وهو حسب أغلب التقارير ما لم تشهده أرض أمريكية لأكثر من 25 سنة، حيث تعاون الفنان مع شركة عراقية في بغداد اسمها “الفريز” لاستيراد 200 صندوق من التمر المزروع في مدينة “الحلَّة” في يوليو/ أيلول تلك السنة ـ أي ما يعادل طناً ـ، وبالتالي كان أمام الثمرة رحلة طويلة قبل الوصول، سُجِّلت وقائعها في مدونة على موقع “Creative Time”، ففي أعقاب مغادرة الثمرة بغداد على ظهر شاحنة كانت متوجهة إلى عمان، أًعيدت مراراً من الحدود الأردنية العراقية إلى جانب عدد من اللاجئين العراقيين الذين كانوا يسعون أيضاً إلى مغادرة العراق، مما أجبر المصدّر على إعادة توجيه البضاعة نحو سوريا، وفي مطار دمشق مكثت طويلاً إلى أن أصابها العفن، لكن ذلك كله لم يصب المصدّر باليأس، إذ اتفق مع الفنان ثانية على شحن 10 صناديق أخرى عبر شركة "DHL"، فتعرضت تلك الشحنة أيضاً للتفتيش مدة 3 أسابيع على يد جهات أمريكية عدة، من بينها وزارة الأمن الداخلي، والجمارك، وحرس الحدود، وإدارة الأغذية والأدوية، ووزارة الزراعة، قبل أن تصل أخيراً إلى “Davisons & Co” في “بروكلن” يوم 5 ديسبمر/ كانون الأول، أي بعد شهرين من تاريخ طلب “راكويتز” لها.
كان للقصة التي رافقت رحلة البضاعة إلى أمريكا أهمية كبيرة لمشروع (عودة)، إذ أصبحت التمور رمزاً للاجئين العراقيين الذين يحاولون الفرار من بلادهم، كما لامس المشروع المفارقة المحبطة الكامنة في الاحتلال الأمريكي للعراق، فإذا كان الهدف هو إعادة الإعمار، فلماذا تبقى المعوقات التي تمنع العلاقات التجارية الأمريكية العراقية؟ وقد وضع الفنان على طاولة المحل وفي مكان مرئي أوراقاً موجهة إلى جهات حكومية أمريكية تكشف جميعها عن شبه استحالة التجارة الدولية مع العراق حتى بعد رفع الحصار الاقتصادي عن العراق عام 2003.
وعلى الرغم من إغلاق المحل في “أتلانتيك أفينيو” في ديسمبر/ كانون الأول 2006 مع نهاية المشروع، فقد واصل “راكويتز” تجديد رخصة العمل في الشركة إحياءً لذكرى جده، ورداً على سؤال حول ما إذا كانت لديه نية بإعادة فتح المحل، فأكّد “راكويتز” أن المشروع حقق الغاية منه قائلاً: (أعتقد أن الأهم الآن هو أن تقوم الشركات الراغبة باستيراد التمور العراقية إلى الولايات المتحدة بالاتصال المباشر مع وزارة التجارة الأمريكية لتسجيل رغبتهم، ومع تزايد الطلب في الولايات المتحدة على التمور العراقية باعتبارها الأفضل عالمياً فإن الوضع سيبدأ بالتغير).
والحقيقة أن كثيراً من الجنود الأمريكيين في العراق كتبوا إلى “راكويتز” بعد قراءتهم مدونة (عودة) أثناء تمركزهم1 في العراق، مبدين رغبتهم بالمساعدة في إحياء صناعة التمور في البلاد، فأرسل أحد الجنود عرض “باور بوينت” لتعاون مقترح مع مزارعين محليين من أجل إعادة بناء حقول التمر في العراق، وهنا يعلق الفنان قائلاً: (لقد سعدت كثيراً حين رأيت المشروع يتجاوز كونه مشروعاً فنياً، وإذا كان له أن يعيش، فإنني آمل أن أراه مستمراً على يد من يملكون خبرة في المجال أكثر مني، بمن فيهم أولئك المنخرطين في تجارة الاستيراد والتصدير انخراطاً محترفاً).
رأى “راكويتز” أن صمتاً كهذا شكّل إشارة إلى أسلوب (خطر للغاية)، واعتقد أن (عدو المطبخ) وما فيه من عمليات طبخ وجبات عراقية مع المراهقين سيشكل منبراً طبيعياً للنقاش الذي يخلو من الحواجز التي تفرضها البيئة الصفية.
تحدث الفنان عن لحظة جديرة بالذكر في الأسبوع الثالث: (دخل أحد طلاب الصف وقال: “لماذا لا نزال نُعدُّ هذا الطعام المقرف؟ العراقيون يفجّرون جنودنا يومياً، وهم هدموا برجي التجارة العالمي”، وفي هذه اللحظة وقف طالب آخر وأجاب: “ليس العراقيون من هدم برجي التجارة، بل بن لادن”، ثم انضم ثالث للنقاش قائلاً: “لا، ليس بن لادن، بل حكومتنا”)، فكان ذلك لقطة بانورامية لآراء الأمريكيين البالغة الاختلاف حول الحرب على العراق، وهجمات الـ11 من سبتمبر، والتي تراوحت بين معلومات خاطئة وأنصاف حقائق ونظريات مؤامرة، وهو الخلاف الذي شعر الفنان بضرورة عرضه ومواجهته حتى يتمكن الشباب من فهم الزمن وثقافة الحرب التي يعيشون خلالها.
بدأ “راكويتز” وفريق من مساعديه سنة 2006 بعمل نسخ لعشرات القطع الأثرية المفقودة من المتحف القومي، وذلك من خلال لصق قصاصات من جرائد عربية مع أغطية ومغلفات أطعمة شرق أوسطية، وقد تم ذلك بإشراف معهد الدراسات الشرقية في جامعة شيكاغو الذي يملك تاريخاً طويلاً من الشراكة مع مؤسسات عراقية عدة، نتج عنه امتلاكه مجموعة ضخمة من الصور الدقيقة المفصلة الموثقة للقطع الأثرية التاريخية في العراق، وكان المعهد فور حصول عمليات نهب المتحف العراقي عام 2003 قد أقام موقعاً على الإنترنت لتعقب القطع المفقودة، فوضع صورة لكل قطعة مع وصف لها: “مفقودة” أو “مسروقة” أو"مجهولة المصير".
في يناير/ كانون الثاني من سنة 2007 أقام “راكويتز” معرضاً في “لومبارد فرايد بروجيكتس” في نيويورك، وعرض فيه 53 قطعة مقلّدة على طاولة خشبية طويلة، ويشمل العمل أطباقاً زاهية الألوان، وأباريق، وأشكالاً إنسانية وحيوانية، وهي متفاوتة الحجم من بضعة إنشات إلى عدة أقدام، وكانت بعض القطع بشكل رأس ثور كبير مصنوع من أوراق جرائد تمت قولبته على غرار قطعة من المرمر تعود إلى مرحلة السلالة الثانية المبكرة أي حوالي 2600 ق.م، وتماثيل ذات لحى وملابس مصنوعة من كعك التمر وورق المشمش المجفف تعود إلى فترة “تل أسمر” في الحقبة السامرية، بالإضافة إلى خنجر بغمد مزين بعناية صنع من مغلفات الجبن المطبوخ للغماس مستلهم من سلاح مصنوع من اللازورد المذهب من موقع “أور” ويعود إلى 2400 ق.م، وقد عرض العمل ثانية في بينالي الشارقة في مارس/ آذار من ذات السنة، وفاز بجائزة لجنة التحكيم.
(العدو الخفي يجب ألا يتواجد) هو ترجمة حرفية لـ “أج – إيبور- شابو”، وهو اسم طريقةٍ قديمةٍ في الطَّواف تقود إلى “بوابة عشتار” التي بناها الملك “نبوخذ نصر الثاني” سنة 575 ق.م، وهي إحدى مداخل مدينة بابل القديمة، والطاولة التي تحمل نسخ “راكويتز” فيها ميلان طفيف، استلهاماً من الزاوية التي يعتقد أن شارع الطواف التاريخي ذاك كان يتسم بها، وقد وضعت ملصقات أركيولوجية ذات طابع متحفي على القطع، مزودة بمعلومات مثل أرقام التسلسل والتواريخ وأصول المنشأ والمواد التي صنعت منها وحالتها الراهنة (“مفقودة” أو"مسروقة" أو"مستعادة")، وفي أسفل الملصقات وضعت اقتباسات من مؤرخين وأركيولوجيين قام كثير منهم برثاء المتحف ومئات المواقع الأركيولوجية العراقية الذي تعرضت للنهب، مثل الفنانة “لمياء الغيلاني” مديرة التعليم السابقة للمتحف، والتي كتبت: (تم تدمير حوالي 10 آلاف سنة من التاريخ الإنساني)، وإلى جوار تلك النسخ المقلّدة وضعت مجموعة رسومات، منها 4 أعمال مرسومة بقلم رصاص على الرق من سلسلة (العدو الخفي يجب ألا يتواجد: مستعاد، مفقود، مسروق)/ 2007؛ وتشمل جميعها نصوصاً تضع عملية نهب المتحف في سياق تاريخ العراق وعقود من الاعتداءات الأثرية التي لحقت بالبلاد، وقد أظهرت إحدى تلك الرسومات كشف النقاب عن “بوابة عشتار” سنة 1910 على يد فريق ألماني قبل أن تنقل إلى متحف “بيرغامون” في برلين في ثلاثينيات القرن الماضي، فيما يحكي رسمٌ آخر حكاية نسخة حجمها ثلاثة أرباع بوابة عشتار التي صنعتها الحكومة العراقية في الخمسينيات كمدخل لمتحف مقترح لم يتم إنجازه لتقف الآن إلى جوار موقع بابل القديمة، ورسم ثالث يكتشف من خلاله الجمهور أن صدام حسين كان قد بنى نصباً من قرميد فوق الأسس التاريخية لمدينة بابل، وحفر عليه كتابات تمجدّه باعتباره “ابن نبوخذ نصر” غير عابئ باحتجاجات الأركيولوجيين من منظمة اليونسكو، وقد تواصل العبث ببابل القديمة وإهمالها إلى أن وصلت الذروة مع تأسيس قاعدة عسكرية أمريكية إلى جوارها عام 2003، والتي قيل إنها ألحقت أضراراً بسطوح التربة بسبب الاهتزازات القوية التي أحدثتها طائرات الهليكوبتر التي حلقت فوقها.
يواصل “راكويتز” إعادة صنع القطع الأثرية، ليبلغ مجموع ما أنتجه 350 قطعة منذ بداية المشروع سنة 2006، ويقول: (نحن نتحدث عن حوالي 8 آلاف قطعة ما تزال مفقودة، لذلك من الواضح أنه لا أنا ولا المساعدين ولا الاستديو نفسه يكفي لإنهاء هذا المشروع)، وتؤكّد عبثية عملية النسخ وما تنتجه من مواد مصنوعة من صناديق مصيرها الرمي على عمق المأساة التي ألمّت بالعراق، والخسارة التي يستحيل تعويضها، وعن ذلك يقول الفنان: (تلك هي في الحقيقة أهم أفكار المشروع، وهو أنه لا يمكننا إعادة بناء التاريخ).
وكان محور المعرض إعادة خلق “قوس النصر” الذي يعرف أيضاً بـ “سيوف القادسية”، ويتكون النصب الأصلي من قبضتين نحاسيتين مرفوعتين، تتقاطعان من خلال سيفين يصل طولهما إلى 43 م، وقد صيغ شكل اليد التي تمسك بالقبضة من شكل ساعد صدام الأيمن، أما نسخة “راكويتز” التقليدية فجاءت أصغر حجماً حيث بلغ قطرها 6 أمتار، وغطيت اليدان بصفحات مكبرة من رواية خيال علمي فانتازية التي يقال إن صدام هو الذي كتبها، كما قام الفنان أيضاً باستبدال السيفين بآخرين ليزريين لونهما أحمر وأخضر، وهما السلاح الأيقوني من فيلم “حرب النجوم”، كما أحيطت قاعدتي اليدين بعدة خوذ بلاستيكية شفافة فيها أجزاء من مجسمات شخصية “GI Joe”.
أما القطعة اللافتة الأخرى في المعرض، فقد كانت عبارة عن خوذة عسكرية أصلية استخدمت من قبل فدائيي صدام، وهي تشبه إلى حد غريب خوذة “دارث فيدر” البطل الرئيس في “حرب النجوم”، وقد عرضت خوذة الفدائيين إلى جانب 3 خوذ أخرى، واحدة لمحارب ساموراي التي بدت أنها مصدر إلهام “جورج لوكاتش” مخرج “حرب النجوم” في تصميمه ملامح "فيدر"، وأخرى على شكل تصميم لقسم مكياج الفيلم وجمعت بين شكل خوذة الفولاذ التي استخدمها الألمان في الحرب العالمية الأولى وقناع غاز لينتج مخطط رأس "فيدر"، أما الثالثة فكانت خوذة “فيدر” الأصليه ذاتها، ويكشف الترتيب الزمني لتلك الخوذ عن سلسلة تأثيرات لا تخفى، ارتحلت من أرض المعركة إلى شاشة السينما ثم إلى أرض المعركة ثانية.
في إنشاءة (الإله، الوطن، القائد) من سلسلة: (اضرب الإمبراطورية ثانية)/2009؛ نرى رسومات بقلم الرصاص على الرق، وهي تحكي من ضمن ما تحكيه قصة عدي أكبر أبناء صدام الذي قتل أثناء تبادل إطلاق النار مع جنود أمريكيين عام 2003، وتكشف إحدى الصور عن أن عدي رافق والده وهو ابن 15 سنة إلى أحد عروض فيلم “حرب النجوم” في بغداد عام 1980 قبيل اندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية، فترك الفيلم انطباعاً كبيراً في نفس الشاب عدي، كذاك الذي تركه في نفس “راكويتز” أيضاً، والذي كان هو ذاته معجباً بملحمة الفضاء الفانتازية هذه وهو صغير.
وحين أُوكلت إلى عدي مهمة تشكيل فرقة “فدائيي صدام” قام شخصياً بتصميم خوذهم وبزّاتهم العسكرية على غرار ملابس “دارث فيدر”، وعلى الرغم من أن أولئك الفدائيين كانوا أشرس القوات العراقية، وأطولهم دفاعاً عن العراق بعد انهيار بقية الجيش العراقي عقب غزو عام 2003، فإن ما اكتشف مؤخراً يكشف عن أن ملابسهم المستوحاة من “حرب النجوم” ـ من قمصان وسراويل سوداء وأقنعة توضع تحت خوذة "فيدر"ـ صنعت أصلاً من البلاستيك، ولم تكن لباساً مثالياً للمعارك أبداً.
قادت سلسلة من المصادفات خطى الفنان في اكتشاف المكونات العجيبة والمترابطة لهذا المشروع، فقد صدف أن وجد خوذة الفدائيين على موقع “eBay” بحوزة جندي أمريكي أخبره حين باعه إياها أن سكان الموصل في العراق ـ حيث حصل على الخوذة ـ قد أكّدوا له حكاية استلهامها من "فيدر"، وقد دفع هذا الاكتشاف بالفنان إلى ربطه بكتاب لـ “كنعان مكية” الذي كان قد قرأه في الجامعة بعنوان (النصب: الفن، والسوقية، والمسؤولية في العراق)/1991؛ يحمل غلافه صورة قوس النصر، وحين شاهد “راكويتز” صورة هذا النصب لأول مرة فقد تذكر فوراً ملصق فيلم حرب النجوم بجزئه الخامس 1980 “الامبراطورية تضرب ثانية”، والذي كان قد علقه على جدار غرفته وهو صغير، ويظهر الملصق جميع أبطال الفيلم في المقدمة عدا “دارث فيدر” الذي يبدو غامضاً في المؤخرة، حاملاً سيفين بطريقة تشبه ما نراه في نصب قوس النصر.
بعدها بسنين عدة علم الفنان أنه عشية حرب الخليج الأولى عام 1991 كان صدام قد طلب من جيشه أن يزحف زحفاً متواصلاً تحت سيفي النصب على أنغام اللحن الأساسي في “حرب النجوم”، ويختم الفنان بالقول: (كل هذه الحكايات كانت تؤكد قصة غير معقولة)، ويضيف أن الناس يظنون غالباً أن تلك حكايات مفبركة، لكنه يرى شخصياً أنها حكايات غير متقنة، ولا يمكن أن تكون من صنع الخيال إلا إذا كان خيالاً سقيماً، وهنا يكمن جمال هذا المشروع، أي في مصداقيته اللامعقولة التي نتجت عن دورة عبثية من الافتتان الصبياني بالخيال العلمي والفانتازيا.
والفنان الذي يعمل الآن أستاذاً مشاركاً للنظرية والممارسة الفنية في “جامعة نورث ويسترن” في شيكاغو، يأمل بهذه النسخة من (عدو المطبخ) أن يصبح مشروعه مساحة يمكن للناس من خلالها الحصول على طعام صنعه اللاجئون العراقيون والمحاربون الأمريكيون في العراق ـ وهما مجموعتان لم يلتق بهما مباشرة كثير من الأمريكيين ـ، وإدراك كيف أن هاتين المجموعتين اللتين يفترض بهما أن تكونا "عدوتين"؛ يمكنهما التفاهم والتعايش، وتطبيقاً لرؤية الفنان بأن يبقى مشروعه مستمراً حتى بعد انتهاء المعرض، فقد قام بتسليم عمليات العربة لمالكي مطعم “بيتا بليس ميلو” الذي شكّل المطبخ التحضيري للمشروع.
وإلى جانب كونه افتتاحية المعرض، فقد كان لدى “راكويتز” خططاً كي يطلق عربة الطعام هذه في شوارع شيكاغو منتصف مارس/ آذار كي تتزامن تقريباً مع الذكرى السنوية الـ9 للغزو الأمريكي على العراق، لكن ضيق الوقت اضطره إلى إيقاف المشروع مرحلياً نظراً لقضايا تتعلق بالترخيص، على الرغم من أن الفنان بقي مصمماً على نقل عربة طعامه تلك خارج حدود المتحف، وقد كانت أماكن الغداء المشهورة في شيكاغو والمواقع التاريخية والأكاديميات العسكرية التي تحوي برامج “تدريب فيالق ضباط الاحتياط” لطلاب الجامعات من ضمن المواقع المحتملة التي رآها الفنان ممكنة لاحتضان عربته، قبل أن يعود ويقول: (سندير هذا المشروع إلى أطول فترة ممكنة، حتى لو اضطرنا ذلك إلى خرق القانون، إلى أن نتأكد من وصول العربة إلى تلك الأماكن).
ومؤخراً شرع “راكويتز” بوضع مشروع جديد في أفغانستان يهدف إلى تعليم نحت الحجارة لقرويي “وادي باميان”، وهو الموقع الحاضن لتمثالي بوذا العائدين إلى القرن الـ6 الميلادي اللذين دمرتهما جماعة “طالبان” عام 2001، وسيتوّج المشروع بمعرض من المقرر مشاركته في (دوكيومينتا 13) في يونيو/ حزيران المقبل، كما ستشهد هذه السنة معرض الفنان الفردي الرابع في “لومبارد فرايد بروجكتس”، والذي سيتضمن توثيق مشروعه (الانفصال)، حيث اشتغل “راكويتز” على المشروع في “مؤسسة المعمل للفن المعاصر” في القدس سنة 2010، وقد حصل الفنان الذي يطلق على نفسه “مجنون البيتلز” على منحة للعمل في (المعمل)، حيث سجّل سلسلة برامج لمحطة إذاعية في رام الله ترى جميعها في انفصال فرقة “البيتلز” كرمز لانهيار القومية العربية، قبل أن يعيد مسرحة آخر أداء علني للفرقة على ظهر سطح في “المدينة القديمة” في القدس، بالاشتراك مع موسيقيين عرب قدموا أغاني من ألبوم البيتلز الأخير “فليكن ما يكون Let It Be”/1970.
إن جميع مشاريع “راكويتز” المشاكسة وإنشاءاته المصنوعة لمواقع مخصوصة، سواء كانت على شكل الإشراف على عمليات عربة طعام عراقية يديرها لاجئون ومحاربون قدامى أو خلق نسخ تقليدية لقطع أثرية منهوبة، تقوم على فكرة جعل “غير المرئي” مرئياً، وهي مشروعات أركيولوجية بطبيعتها تكشف عن آثار التاريخ في عالمنا المعاصر (بفضل أولئك الباعة على eBay أو المصورين الهواة على Flickr)، وتعيد كتابة الماضي في الحاضر.
والمفارقة أنه ومن خلال حث الجمهور على التأمل في الجوانب الخفية أو غير المدروسة لمجتمعهم وبيئاتهم المحيطة، يرفض “راكويتز” ذاته أن يدع الأشياء “تكون ما تكون”، بل يتبع شيئاً قريباً من الأخلاقيات التي تجسّدها كلمات أغنية البيتلز “يوم في الحياة A Day in the Life”، والتي تقول: “انصرف كثير من الناس، لكن كان عليّ وحدي أن أنظر”.