امتدت حياة “باوشي” خلا عدة صدمات كبرى عصفت بتاريخ الصين والعالم من أوائل إلى منتصف القرن الـ 20، وتكشف أعماله عن حساسية مفرطة تجاه البيئة، وعن تواضع تأملي مدرسي يعرف به الأدباء الصينيون، إضافة لما توحي به من حياة مليئة باليأس، وقد كتب على أحد طوابعه الكبيرة التي ألصقت بلوحاته (ثمل كالعادة) أو (غالباً بعد الثمالة) كما في رواية نسخة الكاتالوج.
ولد “فو تشانغ شينغ” في مقاطعة جيانغشي نهاية حكم مملكة "تشينغ"، وبدأ تعليمه الفني غير الرسمي في محل للسيراميك وهو ابن الـ 12، وحين أتم سن الـ 18 اتخذ من “فو باوشي” أو “معانقة الحجارة” اسماً له، وهو ما يعكس نضجه كنحات طوابع محترف، وقد قضى “باوشي” السنوات بين 1932 و1935 في طوكيو، منكباً على دراسة تاريخ الرسم الصيني وممارسة ذلك الرسم على يد أساتذة محليين، ومترجماً دراسات يابانية علمية حول الفن الصيني إلى لغته الأم، وفي طوكيو أيضاً أقام معرض لوحاته المنفرد الأول، ويرجع الفضل في ذلك بشكل جزئي إلى علاقته بالعالم الصيني “غوو موريو” الذي كان زميله في الإقامة في اليابان، وذلك قبل أن يصبح شخصية ثقافية مؤثرة ذات ارتباط وثيق بماو.
وتبرهن أعمال “باوشي” خلال تلك المرحلة على تأثير الحداثة اليابانية التي هي في حدّ ذاتها استلهام لأنواع واسعة من التقاليد التصويرية الصينية واليابانية والغربية، وتظهر تلك الفترة المهمة من حياة الفنان بكل تفاصيلها في إحدى المقالات الأربع المصاحبة لكاتالوجات المعرض، وهي بعنوان “أرواح شقيقة: فو باوشي وعالم الفن الياباني”، وتختتم المقالة عرضها بتوجيه تحية لـ “نانجينغ” قائلة: (قدّمت اليابان للفنان فرصاً وإلهاماً، لكننا لا نحتاج للقول بأنه مثل غيره من الصينيين، فقد عانى بشكل هائل من الإمبريالية اليابانية، والمدهش أن “باوشي” حافظ على سلوكه المنفتح تجاه الفن والشعب الياباني بصرف النظر عن الصراعات بين الدولتين).
قضى “باوشي” أغلبية سنوات الحرب الصينية اليابانية 1945 – 1949 في تشونغ تشينغ مدرّساً وكاتباً ومنتجاً لبعض أجمل لوحاته المبهمة الكئيبة للمناظر الطبيعية، بالإضافة إلى بورتريهات لشخصيات شهيرة من التاريخ الصيني، وسنة 1943 أهدى “موريو” لوحتين من لوحات الفنان إلى “تسو إنلاي”، وقد ساهمت علاقات كهذه بالإضافة إلى التواصل مع عدد من كبار الفنانين الصينيين مثل “زانغ داكيان” و"اكسيو بيهونغ"؛ في منح الفنان رداء من الحصانة السياسية، كما مهّدت طريقه أمام عدد من النجاحات المهنية والمأموريات الفنية المرموقة في الخمسينيات والستينيات إلى أن توفي في 1965.
سنة 1950 واستجابة لدعوة الحزب الشيوعي المنتصر حديثاً للفنانين ليخدموا الجماهير، فقد بدأت لوحات بإظهار جنود “جيش التحرير الشعبي” وقصائد ماو، وفي ذلك الوقت كانت المظاهر المتعددة للثقافة الصينية التقليدية من الرسم والخط ونحت الطوابع وفن التاريخ والتي كان “باوشي” ممارساً بارعاً لها؛ تتعرّض للشجب من قبل موظفي القطاع الثقافي، والمواد التي تعرض لها تسقط من مناهج جامعة “نانجينغ” التي كان الفنان أستاذاً فيها، لكن أعماله تلقّت ثانية اعترافاً رسمياً سنة 1953، ما سمح له بقضاء السنوات الـ 5 التالية في الرسم وإقامة المعارض والكتابة والتدريس والسفر إلى عدّة بلدان في شرق أوروبا بصفته فناناً رسمياً، مضفياً على مشاهد مثل (عيد الأسطول الروماني) و(مطار إيركوتسك) نكهة خاصة، وفي الوقت ذاته مواصلاً في موطنه بمنح ألوان وزخارف براقة لظاهرة عبادة شخصية ماو والحزب الشيوعي.
إن وطنية "باوشي"، أو ربما مجاملته في سبيل الحفاظ على الذات، هي ما قاده لإنتاج أشهر مأمورياته الفنية (هذا هو جمال أنهارنا وجبالنا)/ 1959؛ وفي تلك السنة احتفلت الصين بالذكرى السنوية العاشرة لتأسيس جمهورية الصين الشعبية، حيث تم تشييد 10 بنايات كبرى في بكين، أشهرها قاعة الشعب العظمى، وهي مقر البرلمان الصيني والمكان الذي تقام فيه مآدب الدولة والاجتماعات رفيعة المستوى، وقد طُلِب من “باوشي” وزميله الفنان “غوان شانوي” التعاون على صنع جدارية لتعلّق قرب الدرج الرئيس، على أن تستند على قصيدة لماو عنوانها “ثلج”/ 1936؛ وهي التي يقول فيها عبارة (هذا هو جمال أنهارنا وجبالنا)، ويختمها نرجسياً بمقارنة ذاته بعدة أباطرة صينيين، وتعرض إحدى مسودّات “باوشي” الأولى التي قدّمت في هذا المعرض جبالاً مغطاة بالثلوج وهي تتلاشى في البعد، وجزءاً من السور العظيم، ومشهداً ربيعيا في المقدمة، وسماء محمرّة تدريجياً، كما كتب الفنان متأملاً في التحدّي الذي فرضته مأمورية كبرى كهذه: (لكن اليوم – مقارنة بعام 1936- أشرقت الشمس فعلاً، وأصبح الشرق أحمراً، وغطّى بريقها على أرض الوطن، ولذلك فعلى الفنان أن يصوّر الشمس حمراء في لوحاته)، ومن الواضح أن هذا نوع من التملّق عالي الدرجة، أنذر بظاهرة “عبادة الشمس” التي منحت لماو أثناء الثورة الثقافية.
وهكذا ظهرت شمس حمراء ساطعة في ربع الدائرة العلوي من النسخة الأولى للعمل، لكن “تسو إنلاي” وجدها صغيرة بما لا يتناسب مع الخلفية، إذ قال ساخراً: (إن الشمس تبدو مثل صفار بيضة بطة)، لينتج “باوشي” وزميله نسخة أكبر – لم تعرض في ميتروبوليتان – حجمها 5.5 ×9 أمتار، مع شمس حمراء أكثر سطوعاً، وعليه يمكن أن يطلق على هذا بداية “المرحلة الحمراء” في حياة الفنان، حيث واصل إلى آخر حياته إنتاج مناظر طبيعية أخاذة وبورتريهات لشخصيات بموضوعات سياسية لا تزال تحتفظ برونقها، مع ما يعتريها من هنّات وعثرات.
أقيم معرض ميتروبوليتان في صالات العرض الخانقة قليلاً، والمخصصة للوحات الصينية، وقد رافق أعمال “باوشي” عرض بضعة صخور علماء صينية من مجموعة "روزينبلوم"، فهل هدف ذلك إضفاء نوع من الوقار العلمي وترسيخ المعرض في تاريخ من التقاليد الصينية؟ ربما كان من الأحرى أن يرافق أعماله تذكار من حملة (القفزة العظمى إلى الأمام) أو نسخة من كتاب ماو الأحمر نظراً للمناخ السياسي الذي عاش الفنان في ظله.
ثمة كاتالوج مرافق مصور ومنتج ببراعة على يد قيّمة متحف كليفلاند “أنيتا تشنغ”، ومساهمات كل من “جوليا ف. أندروز” و"تاماكي ماييدا" و “آيدا يوين وونغ” و"كويوي شين"؛ تزوّد الجمهور بمعلومات غنية عن حياة “باوشي” ودوره الكبير في عوالم الفن في اليابان والصين، لكن تلك المقالات لم تنجح في التطرق إلى ما هو أبعد من السطح، أو تجاوز التاريخ الرسمي للفنان، تاركة بذلك أعماله لتفصح وحدها عن لغة جمالياته الخاصة.