يوظف “أوكامبو” في لوحاته الزيتية ترسانة ضخمة من الإحالات التاريخية الفنية والأدبية، بالإضافة إلى أيقونات دينية وشعبية، مثل الصلبان والأسنان ورموز الانفعالات والصلبان المعقوفة والبراز والورود، لتتصادم جميعها في نوع من العلاقات اللاذعة، منتجة صوراً معينة تحيل أكثر إلى عملية إبداعها.
تلك الرموز تبدو محصورة في إطار الصورة الذي يضمها، وما يشدّ العيون إليها تلك الخصائص الشكلية التي تبدو عليها، من اللون والخط والهيئة والتناسب، وهو ما يعالجه “أوكامبو” بمهارة تامة، متنقلاً بسلاسة من أسلوب الرسم بالزيت المحاكي لعمل المعلمين الكبار، إلى نوع من الفورية الإيمائية الخام والتسطيح البصري باستخدام ألوان الأكريليك.
في عمله (الفنان مختبِراً الحياة عن قرب)/ 1998؛ يقتبس “أوكامبو” كلمات الفنان المفاهيمي الكاليفورني “جون بالديساري” التي تقول: (نظفت هذه اللوحة من كل شيء إلا الفن، ولم يدخل على هذا العمل أية أفكار)، ليضعها فوق صورة مرحاض مقلوب، وأمعاء مندلقة، وأقدام، وفي عمل (العجز عن التعبير هو التعبير ذاته)/ 2002؛ نرى العنوان عائماً فوق صورة لرسام بنظرات شيطانية، وفي يده مسند لوحه، وبنطاله مسحوب للأسفل، أما مؤخراً فإن لوحة (ماذا تقصد)/ 2012؛ تحاكي عنوانها تماماً، من خلال موضعة شخصيات كوميدية متنوعة ونقاط “blobs” ملونة، وحمار يلبس وشاحاً كتب عليه (متزوج للتوّ).
تهدف أعمال “أوكامبو” إلى هدم التراتبية بين المقدس والدنيوي، ومضمون اللوحة وسطحها، مانحة المشاهد في الوقت ذاته عدة نقاط للتأويل، وعدة طرق مسدودة للفهم، وحين سئل عن ممارسة الرسم أجاب: (ثمة أشباح في اللوحات)؛ في إشارة إلى التاريخ والتقاليد الغنية التي يعمل من خلالها أي رسّام، قبل أن يضيف بأنه – وخلافاً لوسائط شعبية معاصرة (فإن اللوحات ليست عملاً مشهدياً، ولا نتاجاً مدفوعاً بخبرة ما، بل تتطلب نوعاً من القراءة المتمهّلة).
ومثل لوحاته تماماً يتحدّى “أوكامبو” التصنيف السهل، وإذا كان هو يصف ذاته بـ (المغترب الأبديّ) فإن تاريخه الشخصي إنما هو تجسيد للاختلاط الثقافي المتشظي الذي يسم الفلبّين، حيث الثقافة مزيج عنيف من تأثيرات السكان الأصليين والإسبان والأمريكيين.
ولد الفنان في مدينة كيزون سنة 1965، وانتقل للعيش في الولايات المتحدة وهو ابن الـ20، حيث التحق لفترة وجيزة بجامعة ولاية كاليفورنيا في بيكيرزفيلد قبل أن يقطع دراسته بعدها بسنة أي في 1985، ليعمل نهاراً في مطاعم ماكدونالدز، وليرسم ليلاً.
وفي لوس أنجلوس حقق الفنان أولى نجاحاته من خلال سلسلة عروض منفردة من جهة، واشتراكه في معارض كبرى مثل “هرج ومرج: فن لوس أنجلوس في التسعينيات” الذي شهدته أروقة متحف الفن المعاصر سنة 1992 من جهة أخرى.
وفي وسط فني مغرم بنظريات ما بعد الحداثة، تم تبني “أوكامبو” باعتباره رمزاً لسياسات الهوية والتعدّدية الثقافية التي كانت تسيطر على الأجندات السياسية والاجتماعية في ذلك الوقت، وعلى الرغم من ذلك فإن المفارقة تكمن في أن هذه السياسات هي ذاتها المواقف التي كان الفنان يسائلها في أعماله، ويذكر الجميع كيف أثار “أوكامبو” جدلاً واسعاً في “دوكيومينتا 9” في مدينة كاسل، حيث ضجّ الإعلام بسبب استخدامه الصلبان المعقوفة في لوحاته، ما أدى إلى إزالتها رقابياً، وذلك نظراً للطريقة التي قد تفسّر بها في ألمانيا.
في أواخر التسعينيات – وبعد مشاركة واسعة النطاق في عدة معارض عالمية وبيناليهات على مدار العقد – قرّر “أوكامبو” أن يستقرّ في إشبيلية بإسبانيا خلال هذه الفترة، كما يخبرنا الفيلم الوثائقي (مانويل أوكامبو: الإله هو مساعدي في الطيران)/ 1999؛ حيث انزاحت لوحاته من الاستخدام الثقيل للموتيفات الأيقونية إلى رمزية أقل كثافة، في محاولة لتحاشي التعليق المباشر على الدين والسياسة والعرق.
ومنذ عودة الفنان إلى مانيلا في 2003 لأسباب عائلية فقد ترك بصمة على المشهد الفني المحلي لا يمكن إنكارها، فإلى جانب إقامة معارض منتظمة لأعماله كان آخرها المعرض الذي أقيم في آذار"Cryptic Slaughter Crossover Catholic Remix and Breakdown Trash" وذلك في صالة “Finale Art File”؛ فإنه أضاف أيضاً إلى قائمة نشاطاته أعمال مالك صالة عرض ومنظم معارض.
التقيت بالفنان في نيسان/ أبريل، حين كان في قسم “الكليشيهات الطليعية”، وهي صالة عرض مخصصة للمطبوعات شارك بتأسيسها سنة 2011، حيث أقام فيها الاستديو الخاص به أيضاً، وتقع الصالة في محيط باسونغ تامو إكستينشن، وهي قطاع صالات العرض التجارية المزدهرة في مانيلا، لكنه يسعى إلى توفير بديل عن النموذج التجاري الذي يسيطر على المشهد الفني الفلبيني في غياب أي دعم حكومي مهم للفنون.
وعن الصالة يخبرنا الفنان قائلاً: (بعد إقامتي عدة عروض خارج الفلبين، وتلقي أعمالي استجابات نقدية ثقافية أكثر منها ربحية لغايات السوق، أردت توسعة نطاق العالم الفنّي في الفلبين)، ويصف “أوكامبو” حول الدافع وراء الصالة: (هو طريقة لإنشاء نوع جديد من مقتني الفنون)، ذلك الذي لا يخضع لمتطلبات السوق، بل يملك القدرة المادية لدعم الفنانين الذين يحبّهم من خلال شراء نسخ فنية متوفرة لمحدودي الدّخل، بالإضافة إلى ذلك فإنه ومن خلال صالة العرض استطاع الفنان تسهيل إقامة معارض لفنانين محليين وعالميين، وورش عمل ومنشورات، فضلاً عن آخر مشاريعه المتمثلة في إقامة مكتب إعادة التأهيل الفني، وهو البديل غير الرسمي لدراسة الفنون بشكل منتظم في الجامعة.
إحساس مماثل يقف وراء دور “أوكامبو” كمنظم للمعرض الجماعي “أوغاد سوء التمثيل: فعل الوقت على وقت الفلبين” الذي احتضنه متحف “فريس” في برلين سنة 2010، وقد سعى المعرض الذي ضمّ أعمالاً لفنانين بارزين من داخل الفلبين وخارجها ذوي صلة بالمكان إلى تقديم لقطة مصغرة لما كان يحدث في الفلبين آنذاك، وعلى الرغم من ذلك فقد حرص “أوكامبو” على التأكيد في المقدمة التي صاحبت الكاتالوغ بأن المعرض لا يهدف إلى تقديم صورة نهائية أو تامة عن الفن المعاصر في الفلبين، إذ أن العنوان ذاته (يجسّد تعقيدات التراث الفلبيني وتاريخه الكولونيالي، في حين تعكس هوية البلد التاريخية مدى سوء التمثيل المتفشي لسكّانه). وقد قاد نجاح هذا المعرض إلى تبني لقب “الأوغاد” لـ 3 معارض أخرى، في صالة “H” في بانكوك أيار/ يونيو هذه السنة، وقريباً في نيويورك في تشرين الأول/ أكتوبر، وستقدم هذه المعارض لائحة جديدة من الفنانين، كما ستتطرق إلى اهتمامات مفهومية مختلفة تلعب دوراً في الفلبين.
في آخر معارضه المقامة في “Finale Art File” يقف عمل (4 مهور لنهاية العالم)/ 2012؛ كتحذير واضح حول ما قد يكونه مستقبل المشهد الفني في مانيلا، ويتألف العمل من 4 لوحات زيتية يهيمن عليها رأس مجنون للعبة “My Little Pony”، وأسماء بعض مشاهير المزادات في الفلبين الآن مثل “جيرالدين خافيير”، ويبدو كأنه إعلان جلي عن ريبة “أوكامبو” المتواصلة من سوق الفن، حيث رسم العمل استجابة لازدهار التكهنات في مشهد المزادات عبر جنوب شرق آسيا، أراد الفنان من خلاله شجب هذه التطورات لما تقوم به من (تحويل الفن إلى سلعة).
ربما يكون هناك أشباح كثيرة في الرسم، لكن الأكيد أنه في فن “أوكامبو” وفي عمله المتعلق بتنظيم المعارض أيضاً ليس ثمة إشارة واحدة إلى موت الرسم، أو إلى موت الفنان، بل تشكّل لوحاته الزيتية بياناً حول أهمية وحضور كل من هذه العناصر، وكل ذلك تختصره عبارة “مارتن كيبنبيرغر” أحد فناني “أوكامبو” المفضلين الذين طالما اقتبس كلماتهم، إذ يقول: (لا تيأس أبداً قبل فوات الأوان).