أشهر عدّة مرّت ولم يجب أحد على مكالماتي، وفي النهاية تلقيت إيميلاً غريباً من المديرة تقول فيه: (قرّر مجلس الإدارة أن مشروعك ليس جاداً بما يكفي).
إن العبث يبعث على العصبية في المتاحف، وفي حين نرى أغلبية المحظورات الاجتماعية قد تم اختراقها، فإن المؤسسة الفنية لا تزال متلكئة في منح قبول مؤسسي للدعابة، حيث تصمم المتاحف على ألا تبدو تافهة أبداً، وتعتمد على سمعتها كحكم على الذوق، ولذلك تشعر بالتهديد لدى أي محاولة لإجراء تلاعب في مصدر الإبداع الفني.
فالدعابة شيء مختلف عن النزوة، أو لنقل إن النزوة نسل مدجّن من الدعابة، وهي بعيدة عن أصولها الوحشية تلك بُعْد مكتشفي الذهب عن أسلافهم المتوحشّين، وإذا أردنا التوسّل بمصطلحات من تاريخ الفن فإننا نقول: إن النزوة من الدعابة هي بمنزلة السريالية من الدادائية، أي أسلوب مشتق من دون مضمون، ما عدا مرحه المتعجرف.
حين كان “تريستان تسارا” يقرأ هراءً شعرياً من خلال سحب كلمات من قبعة، فإنه كان يقصد تقويض العقل ذاته، وحين كان “سلفادور دالي” يجعل الدنيا تمطر داخل سيارة، فإنه كان يسعى وراء ضحكات سهلة.
لقد استطاعت النزوة وبسبب تدجينها أن تجد دوماً مكاناً ملائماً لها في المتاحف، إذ بنيت مهناً كاملة عليها، كما هي الحال مع “ديفيد غيلهولي” الذي تعتمد سمعته اعتماداً كلياً على نحت ضفادع هزلية، ومن جهة أخرى فقد لقي الهجاء المباشر – من نوع الكرتون السياسي – ترحاباً، لا سيّما حين تكون موضوعاته قديمة بما يكفي، كما نرى في كاريكاتيرات “أونوريه دوميير” من القرن الـ 19 لسياسيين فرنسيين كانوا قد شبعوا موتاً.
ظل من الصعب دوماً التعبير عن هذا الهامش الهجائي الموجّه نحو المؤسسة الفنية بطريقة تغييرية حقّة، إذ ثمة تسامح موجود مسبقاً لمخادعين من أمثال “موريزيو كاتيلان” الذي شملت مقالبه تأجير المساحة المعطاة له في بينالي البندقية 1993 لوكالة إعلانات، والهرب عبر نافذة صالة العرض الممنوحة له في Castello di Rivara قرب تورينو سنة 1992 باستخدام حبل مصنوع من أغطية سرير (إن عرقلة مثل هذه الافعال كانت ستظهر المؤسسة بصورة حمقاء أكثر مما لو تسامحت معها، فالمفارقة هي أساس الفن)، غير أن حيل “كاتيلان” – بما فيها “تقاعده” عالي الشهرة – عرضة للريبة حتماً، إذ تظهر كما لو كان “دوميير” يسخر بكاريكاتيره من الحكومة على صفحات جرائد الحكومة، لذلك توصّلتُ شخصياً إلى قناعة مفادها أننا إذا أردنا حقّا أن نتلاعب بمؤسسة السلطة، فإنه علينا قطع صلاتنا بمركب المتحف- صالة العرض.
تقدم قضية “بانكسي” حالة نموذجية، ففي سنة 2005 بدأ فنان الغرافيتي الشهير هذا بتهريب قطع فنية إلى متاحف العالم الكبرى، وقام بطلاء علبة من حساء الطماطم مخفضة السعر – في لفتة تذكرنا بـ “وارهول” – قبل أن يقوم بتعليقها سراً في متحف الفنون الحديثة، ثم جاء عمله في فن الصخور ما قبل التاريخي الزائف، حين صوّر رجل كهف وهو يدفع بعربة تسوّق، وعرضها خفية في المتحف البريطاني من دون أن يلاحظها منظمو المعرض لأيام عدة.
إن هذه الأعمال صبيانية بحدّ ذاتها، وما يمنحها الصدى المحيط بها هو سياقها، إذ نضحك على المتحف الذي لا يعرف مقتنياته، ونضحك أكثر من استهتار “بانكسي” الكامن في أعماله، فهذه الخدع البهلوانية المفاجئة تماماً تنقض الحالة الجادّة التي تعلمنا أن نتمثّلها ونحن نواجه أنواع الثقافة الراقية، كما تقوّض ذاك الخنوع التافه الذي يبديه الجمهور أمام الأشياء الفنية، فالضحك ملكة أساسية، ولغة مشتركة بين البشر المتساويين، وما يفعله “بانكسي” هو أنه يوقظ فينا إحساسنا بالدعابة، محيياً بذلك إحساسنا بالذات.
ومع ذلك، وعلى الرغم من تمرد “بانكسي” فإن أعماله المتحفية تظل معتمدة على مؤسسة الفن، فربما تكون دعابته مثمرة أكثر من دعابة "كاتيلان"، لكنها ليست أقل منها ارتكاسية، فهي دعابة مشتقة معتمدة على ردّ الفعل، ولا يجدر بمرح الفن كما لا يجب عليه أن يظل محصوراً بالسخرية على حساب المتاحف، لأن الفن يظل مجرد جزء من التجربة الإنسانية، ولأن الفن عن الفن يبقى سطحياً بلا غور؛ لذلك تظل أكثر أعمال “بانكسي” نجاحاً تلك التي أقامها بعيداً عن أية مؤسسة فنية، وفي مواقع مشحونة ومتوترة، مثل الجدار العازل بين إسرائيل وفلسطين، ولذلك يمكننا القول بأن أثره على الناس تجاوز أثر “بيكاسو” أو “رامبرانت”.
لقد شجّعني “بانكسي” حقاً، وإذا كانت إباحية نباتاتي قد دعيت أخيراً للمشاركة في أماكن فنية مرموقة، مثل متحف “أرماند هامر”، فإن طموحاتي تضاعفت كثيراً منذ ذلك الوقت، وحلمي الآن هو أن أصور ضوئياً البذاءات التي تمور بها الأحياء الحمراء حول العالم – من “سوي كاوبوي” في بانكوك إلى “لا كوهوليا” في تيخوانا- وهي الأدغال القاسية التي يمكن بشيء من التركيب الضوئي تحويلها إلى غابات ثملة فاتنة.