والعمل المعروض في المتحف الجديد في نيويورك ضمن سلسلة (اللامحكومون) في الفترة من فبراير/شباط إلى أبريل/ نيسان يقدّم أعمالاً فنية نتجت من علاقات ماكوتيلا مع 365 نزيلاً في سجن سانتا مارثا أكاتيتلا في مدينة مكسيكو على مدار 4 سنوات، ومن هذه الأعمال ما قام به سجين من ترتيب مدهش لشبكات من أعقاب سجائر، ورسم بياني لخطوات سجين آخر، تلك التي خطاها خلال يوم كامل، إضافة إلى نسخة من “الكونت دي مونت كريستو” التي قام سجين بثقبها وصنع تجويف فيها.
وقد وصف ماكوتيلا مشروعه في مقابلة أجراها معه موقع “vice.com” سنة 2010 قائلاً: (بعد أن أصبحت صديقاً لبعض السجناء، تقدمت بعرض لهم، قلت لهم إنني سأستخدم جزءاً متفقاً عليه من وقتي كي أؤدي مهمات لهم هناك في العالم الخارجي، في يوم وساعة معيّنين، وفي المقابل سيقومون هم بكل ما أطلب منهم القيام به كفنان، وما كانوا يطلبون مني عادة القيام به هو أن أحتلّ مكانهم حرفياً في العالم الخارجي، فقمت بزيارة أضرحة إخوتهم، وسألت الغفران من آبائهم، ورقصت مع أمهاتهم، وقابلت أولادهم ومثّلت دور الأب ليوم، وقرأت رسالة بصوت مرتفع أمام قريب محتضر في مستشفى.. أحد السجناء سألني حتّى أن أذهب إلى بيت حبيبته وأراقبها وهي تستمني كي يمكنني أن أصف المشهد له لحظة لحظة، وبما أننا نفّذنا مهماتنا في ذات الوقت فإن نوعاً من الارتباط القوي والغريب قد نشأ بيننا).
معتقداً أن حياتنا اليومية قد تحوّلت إلى دورات مخدّرة للعقل من العمل والاستهلاك، فقد قرّر ماكوتيلا أن الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها اختبار الوقت ذاته هو أن (نقضي أوقات الآخرين).
والجاذبية التي يمتكلها عمل (شارة الوقت) لا تنبع من تجسيدها المؤسساتي بقدر ما تمثل تلك الشبكة من العلاقات الحقيقية التي أقامها الفنان مع السجناء، وقد اعتبر الكاتب والناقد الثقافي الأمريكي لويس هايد في أطروحته (الموهبة)/ 1983 الفنّ موهبة نفيسة وسلعة في الوقت ذاته، لكنه يؤكّد – وخلافاً للسلع – أننا لا نحصل على الموهبة من خلال مجهوداتنا الخاصة، وأن من المفترض أن نقوم بإعادة إهداء الموهبة للآخرين، وبذلك نضمن أن تظل روح الموهبة منتشرة بيننا، والمقايضة بين الوقت والعمل المتجسّدة في أعمال (شارة الوقت) تبدو تصويراً مثالياً لمفهوم هايد، حين يقوم الفنان بمنح أو بتحويل موهبة التعبير الإبداعي التي يمتلكها.
قد يكون مفيداً إجراء مقارنة بين عمل الفنان هنا وإستراتيجيات فنانين آخرين مثل أليغييرو بويتي وفيك مونيز اللذين قام كل منهما بالتعاون مع مقاولين مستأجرين من الدول النامية غالباً بغية تنفيذ أعمالهم.
أحياناً يتم عرض سلسلة قماش بويتي الأيقونية (مابا)/؛ 1971- 1994 إلى جانب صور الحرفيين الأفغان والباكستانيين الذين نفّذوا العمل، أما الفيلم الوثائقي (الأرض اليباب)/ 2010، عن عمل مونيز (صور النفايات)/ 2008 فيحكي قصة دافئة عن عمال إعادة التدوير البرازيليين الذين ساعدوا في إعادة خلق لوحات شهيرة باستخدام القمامة، وعلى الرغم من أن أمثلة كهذه تبدو مثيرة للاهتمام إلا أن نفحة من الاستغلال تبقى عالقة في كلا العملين، وسيكون المشاهد لهما واعياً بشعور عدم الارتياح الذي تبعثه هرمية السلطة في السياسة العالمية التي جعلت المشروعين وسواهما ممكنين.
يأخد ماكوتيلا هذه العلاقة التي تجمعه بمعاونيه إلى أبعد مدى من خلال التعامل معهم على قدم المساواة التامة، فأسماء السجناء تظهر إلى جانب الأعمال باعتبارهم مؤلفين مشاركين لها، وبالإضافة إلى ذلك فإن صاحب صالة عرض ستيف تيرنر المعاصر يصرّح بأن تلك الأعمال ليست معروضة للبيع، لأن (ملكيتها لا تعود تماماً لماكوتيلا كي يتصرّف بها بحرية)، لكن الأهم هو أن عرض ماكوتيلا البسيط المتقشف للأعمال؛ تضفي على السجناء نوعاً من الكرامة، ما كانت لتكون لو أن العرض احتوى بذخاً من التفاصيل، ولا يملك المرء بعد مشاهدته (شارة الوقت) إلا أن يغلي فضولاً حول كيف كان شكل أولئك السجناء المتعاونين؟ وما هي الجرائم التي ارتكبوها؟ وما هي المهام الأخرى التي طلبها أو وافق عليها أو رفضها الفنان؟ وما هي أكثر المقايضات خطراً؟ وأيها وضعته في مأزق أخلاقي؟ وهل خان الناس؟ وهل كان الفنان عرضة للخطر؟
يختار الفنان ألا ينغمس في أسئلة وإثارات رخيصة على حساب السجناء، بل يسعى بدلاً من ذلك لتركيز اهتمامنا على العملين اللذين نفذا في الإطار الزمني ذاته، ذاك الذي في السجن والآخر الذي خارجه.
والمفارقة أن ماكوتيلا يبدو في منهجيته أكثر قرباً من سانتياغو سييرا الذي يعرف باستئجاره عمالاً يؤدّون أعمالاً وضيعة ومهينة في سياق معرض ما، وللوهلة الأولى يبدو المشروعان على طرفي نقيض، فعمل (شارة الوقت) في جوهره مشروع إنساني في مقابل انتقادات سييرا الوحشية للرأسمالية الاستغلالية، لكن الحقيقة هو أن هذين الفنانين يضيئان وجهين من العملة ذاتها، ففي حين يمنح ماكوتيلا موهبة مؤقتة من الإبداع الحر لمساجين فيما يشبه لعبة تبادل، فإن سييرا يبرهن أن الأحرار اسماً يظلون مستعبدين استعباداً بشعاً وهم يخضعون لبنية السلطة والثروة المعاصرتين.
ولندع هايد يعبّر لنا أحسن تعبير عن الهديّة العظيمة التي يمنحنا إياها هذان الفنانان حيث يقول: (حين يثيرنا عمل فني؛ فإن شيئاً ما لا علاقة له بالسعر يشرع بالاقتراب منا)، ومع هذا الإحساس يقترب منا أيضاً شعور خاص بالمسؤولية، شعور يتجاوز الملكية ومن يمتلكها.