علينا من البداية التفكير في الصورة الكبيرة لما نبنيه، بدلاً من مجرد اتباع القواعد القائمة المضلّلة تماماً، كالتي تنص على أن ما نحتاجه ينحصر في معارض فنية وصالات عرض ومتاحف، وكثيراً ما ناقش المجتمع الفني دور ما يسمّى الفضاءات البديلة، والمنظمات غير الرسمية، والفضاءات التي يديرها فنانون، والتي أصبحت جميعها ذات صلة بواقعنا المعاصر. وعلينا أن ننظر إلى النمو في الفضاءات المستقلة في السياق ذاته الذي ننظر فيه إلى حركة “احتلوا” والاحتجاجات العالمية، بل وحتى الثورات الاجتماعية في البلاد العربية التي بدأت أواخر 2010، باعتبارها تعبيراً عن الحاجة إلى نماذج أخرى في التنمية، وإحدى التحديات الكبرى في ذلك هو أننا إذا لم نمتلك سوى المظاهرات والثورات، من غير أجندة تحركها، فإننا سنخلق واقعاً خطيراً للغاية قد يتحول إلى فوضى بمجرد انتهاء فورة الحماس، وهو ما رأيناه يحصل في الشرق الأوسط.
وفي حالة المجتمع الفني فقد سعينا إلى التأكيد على تنوع وأصالة مواقف ثقافية محدّدة، فعلى سبيل المثال، ومع تزايد أعداد البيناليهات والفضاءات المستقلة غير الربحية، بل وحتى صالات العرض التجارية، فإن السؤال ليس بالضرورة فيما إذا كانت تلك غير ربحية تماماً أو تجارية جزئياً، لأنه وفي آسيا تحديداً على تلك المنظمات التعامل مع واقع اقتصادي وقانوني معين، يدور حول طبيعة ما ينجز فيها، وللسبب ذاته فإن ما يحدث في متحف الفن المعاصر في لوس أنجلوس من استقالة العديد من أعضاء مجلس الإدارة وطرد كبير القيمين “بول سكيمل” لا يطرح ببساطة مسألة أي نموذج تمويلي يجب على متحفٍ ما السعي وراءه، وإنما عن نوع البرامج التي تقدّم فيه.
ثمة واقع مشابه في آسيا، فكما أن معظم المؤسسات الفنية الجديدة تحظى بالدعم وبالتشجيع (وبالتسامح) الحكومي الرسمي، فإنها كذلك تتلقى دعماً مادياً من جهات ورعاة خاصّين، تلك رؤية جديدة لمؤسسات الدولة التي تعضد طموحات ثقافية قومية، لاجئة في معظم الأحيان إما إلى (المال الساخن) الذي يرد من السوق العقاري في بلدان شرق آسيا أو إلى ثروة الطاقة في وسط وغرب آسيا.
إن ما نشهده من نمو الاتجاه الشعبوي في معارض المتاحف لينبع من ديكتاتورية نخبة اجتماعية وليدة تشكل حكم الأقلية الجديدة “الأوليغاركية” التي يزداد أثرها أهمية مع مرور السنين، ولأن كثيراً من هذا المال مصدره الأجيال الجديدة من الممولين ونجوم الترفيه الذين لا يملكون خلفية ثقافية صلبة، ولهذا فإننا نرى قيمهم الجديدة منعكسة في رؤى معينة للمؤسسات الجديدة.
قد يميل أحدنا إلى افتراض أن ما حدث في متحف مقاطعة لوس أنجيلوس للفنون هو مجرد حالة شاذة ، حين وعد “إيلي برود” بوهب مجموعته ثم تراجع وأشرف على بناء متحفه الخاص تحت رعاية متحف المقاطعة، وهو ما ظنناه بداية: فضيحة، أو حدثاً عارضاً، لكن الحقيقة خلاف ذلك، ومع حدوث حالات مشابهة حول العالم، فإننا نغدو لا مبالين وخالين من الإحساس نحوها، بل إن كثيراً من الناس بدأوا يتبنّونها باعتبارها النموذج أو المبدأ، نظراً لأنها تخدم مصالح مجموعة متنفذة من الأفراد.
يتضح دور قيم المعارض هنا في قدرته على إنتاج نقد ثقافي فكري، فليست وظيفة القيم أن ينظم فعاليات مبهرة، بل أن يوقد الذهن ويشجعه على خوض نقاشات في بيئة ديناميكية خلاقة، فيها من السياسة ما قد يصل بها إلى الفوضوية أحياناً.
إنه العمل الذي يجسد على أرض الواقع أجندة ما، ويحدث الخلاف والقطيعة في النظام، وهو كذلك العمل القريب من الفنانين ذواتهم، وتقديم التشجيع اللازم لهم، هذه الواجبات جميعها تبدو صعبة التحقيق أمام القيمين الشباب الذين عليهم تحمّل الأعباء المادية لدراستهم، والمؤسف أن النظام ساهم في خلق ثقافة من الخوف التي تنبع من أن أولئك الشباب يجدون ذواتهم واقعين تحت ضغوط هائلة كي ينجحوا مهنياً النجاح الذي يمكّنهم من سداد قروضهم الجامعية، وهذه الحقيقة تدفع إلى القول بأن نقد هؤلاء المجتمع أو الثقافة السائدة إنما هو نوع من المفارقة والنفاق الزائفين، فثقافة الخوف هي النقيض تماماً لما كنا نسعى إليه أو نحلم به منذ سنوات.
وصفوة القول هي أن ما نحتاج إليه في عالم الفن هو نوع من طريق وسط بين القرن الماضي ونماذجه التابعة للدولة، والقرن الحالي ونماذجه الخاضعة لرأس المال، والسؤال المهم الذي لابد من وضعه على بساط البحث: كيف يمكن بناء نموذج جديد كهذا، وكيف سيكون شكله؟ لا شك أن بإمكان المؤسسات الخاصة لعب دور بارز هنا، ونحن بحاجة إلى إستراتيجية جديدة، ليس فقط لأن النماذج القديمة لم تعد مجدية، بل لأن الشكل التقليدي من الثورة لم يعد هو الآخر مجدياً، وتلك هي المسألة: البحث عن الكيفية التي يمكن عبرها توليد أفكار مستقلة وتطوير فضاءات متوسطة في مجتمعنا الذي يزيد تعقيداً يوما بعد يوم.