مع إقامة معرض دوكيومينتا 13 تكون ممارسة إدارة المعارض الكبرى قد بلغت أوجها في التنميق والبهرجة، فدوكيومينتا 13 – وبإدارة من “كارولين كريستوف-باكارغييف”- فاق قدرة أي مشاهد على الإلمام بكل تفاصيله، وذلك بسبب احتوائه على 300 مشارك، و200 مشروع فني، و100 يوم من الفعاليات في "كاسل"، فضلاً عن ورش العمل المتعددة والندوات والنزهات والمنشورات، مصاحباً ذلك كله برامج في كابل، والقاهرة/ الإسكندرية، وبانف، وسواها من المدن، ومن الطبيعي أن يشعر الواحد منا أن المديرة الفنية، بالإضافة إلى بضعة قيميين مقربين منها ربما هم وحدهم من أتيح لهم الاطلاع “شبه” الكامل على المعرض بأكمله.
والسؤال هو إذن: كيف يمكن للمرء أن يحلّل وينقد حدثاً بتلك الضخامة والتشتت الزمني والجغرافي، إن لم يكن قد دعي إلى حضوره، وإن لم يكن باستطاعته أن يحضر أصلاً؟
بدل الإحساس بالرهبة أو بالإقصاء، فإن بمقدور المرء متابعة اقتراح “كريستوف- باغاركييف” ذاتها كي يرى في دوكيومينتا “حالة ذهنية”، شيئاً أقرب إلى “مهرجان الرجل المحترق” في صحراء نيفادا منه إلى بينالي دولي فني، لكن الواقع هو أن دوكيومينتا 13 ليس علاقة شعبوية من نوع “افعلها بنفسك”، على الرغم من المقاربة التنظيمية القائمة على حشد المصادر وتسمية 20 عميل مستشار، بل الصحيح أنه انعكاس لوعي خصب عالي النشاط امتدت قدراته التواصلية من المستوى الهيكلي وحتى أعمال فنية بعينها، وقد انصرف هذا الوعي عن فكرة موضوع واحد شامل للمعرض، مستبدلاً إياه بـ (أربعة مواقع أساسية)، (تحت الحصار)، (في النزهة)، (في حالة أمل أو تفاؤل)، (على المسرح)، كما أنه وتأثراً بنشأة معرض دوكيومينتا في أعقاب الحرب العالمية الثانية وفي خضم سياسات الحرب الباردة فقد صب ذاك الوعي اهتمامه على “لحظات من التروما/الصدمة، في نقاط تحوّل، حوادث، كوارث، أزمات: الأحداث واللحظات التي تغيّر عندها العالم”.
كان بهو Fridericianum الذي يطلق عليه اسم “الدماغ” حافلاً بأعمال فنية تعكس مثل تلك الهموم، ومنها (الأميرة البخترية)، وهي منحوتات صخرية من وسط آسيا تعود إلى عام 2000 قبل الميلاد، ولوحات زيتية لمناظر طبيعية للفنان محمد يوسف آصفي الذي أنقذ في تسعينيات وأوائل الألفية الجديدة ما يزيد على 80 لوحة تصويرية كانت في المتحف الوطني في كابل، وذلك بتغطيته أجزاء منها بألوان مائية، وفيديو للفنان والناشط المصري أحمد بسيوني الذي راح ضحية اغتيال، وقطعاً فنية من المتحف الوطني في بيروت تعرضت للتدمير أثناء الحرب الأهلية التي شهدها البلد من 1975 إلى 1990.
وبعيداً عن ذلك “الدماغ” المزدحم بكثافة؛ فقد حافظ دوكيومينتا 13 على أكثر ميزات المعرض أهمية، وهي الاختيارات واسعة النطاق للأعمال والممارسات الفنية بدلاً من الانتقاء الضيق المحصور في المشهد الفني العالمي المعاصر، ومن ضمن المرئيات المدهشة كانت الرسومات الـ 900 للتفاح والإجاص للقس القروي “كوربينيان إيغنر”/ 1966-1885، الذي كان يزرع أشجار الفاكهة أثناء سجنه في معسكر اعتقال “داتشاو” بسبب رفضه الاعتراف بالنازية، وإلى جانب هذا فقد ملأت لوحات تجريدية مدهشة للمجموعة الفنية “بابونيا تولا” صالة عرض كاملة، إذ وضعت لوحات “وارليمبيرنغا تجابالتجاري Warlimpirrnga Tjapaltjarri” الزيتية المشغولة على الجدران، فيما عرضت أعمال "دورين ريد ناكاماراDoreen Reid Nakamarra "/2009- 1950؛ بشكل أفقي على منصة خشبية، وفي الطابق العلوي نرى على الجدران شبكات “سوفيب بيش Sopheap Pich” المكوّنة من الراتان والخيش، تعلوها آثار من تربة كمبوديا، لتبدو ببراعة خارجة من الزمان والمكان، مثل قطع أثرية حداثية تم انتشالها من بحيرة بعد- صناعية ملوثة.
إحدى نقاط القوة الحاضرة بانتظام في دوكيومينا هو ذاك الاهتمام الدقيق بتاريخ فضاءات العرض، فعلى سبيل المثال في برج “Zwehrenturm” الذي نجا من الدمار أثناء قصف “كاسل” في الحرب العالمية الثانية، عرضت عدة أعمال عن أشياء نجت أو لم تنج من الدمار، وقد اشتمل عمل (من الكتب)/ 2010- 2012؛ للفنانة الفلسطينية إملي جاسر على صور التقطت بواسطة الهاتف الخليوي لحوالي ستة آلاف كتاب فلسطيني نهبتها إسرائيل عام 1948، وهي تقبع الآن في مكتبة إسرائيل الوطنية في القدس الغربية، في قسم “الملكية المهجورة”، وفي الطابق السفلي عرض “مايكل راكويتز” كتباً صخرية صنعها مع المرمّم “بيرت براكسنثالر” وطلاب يدرسون نحت الصخور من منطقة “باميان” في أفغانستان ليعيد إنتاج مجلدات من مكتبة “Fridericianum” كانت قد فقدت أثناء الحرب.
تمت مقاربة روح الحداثة الكامنة في إنتاح الآلة الصناعية وعلاقتها بالأنماط التجريدية (التكرار، الدقة، الأتمتة) في قاعة دوكيومينتا، لا سيما في آلات “توماس بايرل” المصنوعة من محركات السيارات، وصوره المركبة الضخمة لطائرة، وفي الجزء الأخير من القاعة رأينا (بحثاً عن الدماء المتلاشية)/2012؛ وهو مسرح “ناليني مالاني” الميكانيكي المصنوع من عروض أفلام عبر “البروجكشن” وطبول دوّارة مع لوحات معكوسة، مما خلق ظلال مسرحية هائلة رهيبة ربطت بين أفعال العنف السياسي والميثولوجيا والمسرح الطليعي الحداثي، وفي السياق ذاته تجيء 38 لوحة زيتية صغيرة للشاعرة والرسامة اللبنانية “إتيل عدنان” تعود إلى الفترة ما بين 1959 و2010، فتصوّر جبل “تامالباييس” في كاليفورنيا، مقترحة نوعاً من التوازي بين الإيجاز التاريخي في فن الرسم، والتبسيط في الإنتاج الصناعي.
تناثرت في مواقع عدة في “كاسل” أعمال صوتية مثيرة وغير معقدة، فقد احتل مثلاً عمل “سيفدت إريك” (غرفة الإيقاعات)/2010 الطابق العلوي لأحد المتاجر، مع مكبّرات صوت تموضعت في المساحة الخالية، وذلك بهدف خلق مجالات متداخلة لنقرات إيقاعية حوّلت، مجازاً الزمن الخطي إلى إيقاع في الطريقة ذاتها التي يتم فيها تجريد فضاء بصري وتحويله إلى شبكة، وفي محطة “Hauptbahnhof” التي كانت ذات يوم نقطة مغادرة للقطارات المتجهة نحو معسكرات الاعتقال نصبت “سوزان فيليبسز” مكبّرات صوت أذاعت مقتطفات من قطعة (دراسة لأوركسترا الوتر)/1943؛ لـ “بافل هاس” الذي كتب القطعة في سجن “Theresienstadt” قبيل وفاته في “أوشفتز” سنة 1944.
وإذا كان ثمة ميل في دوكيومينتا نحو الإنتاجات الضخمة غير المسوّغة وتحقيق مشاريع لم يبد أنها تستحقّ ما نالته من تمويل كبير (في السنة ذاتها التي كانت فيها ألمانيا تعظ أوروبا حول فضائل التقشف)، فإن ذلك يبدو أوضح ما يكون في حديقة “Karlsaue” مترامية الأطراف، فمن المشاريع المعتدلة الهادئة (ألا تعمل حديقة)/ 2010 – 2012؛ والعمل عبارة عن محاكاة طولها 6 أمتار لجبل "بونساي"، وقد حملت توقيع “سونغ دونغ” الذي صنع العمل من الحصى وغطّاه بالعشب، لكن العمل لم يبد أكثر مما تفعله بلديّات عدّة من تحويل مكبّات النفايات إلى أماكن ترويحية، ومن جهة أخرى فقد وجدت أنماط تنظيم المعارض الأساسية مثل (المعرض داخل المعرض) و(الفنان كقيّم معارض) مكاناً لها في جناح “دين ك. ليز” المصغّر (الضوء والإيمان: أصوات ورسومات تخطيطية للحياة من حرب فيتنام)/2012؛ الذي عرض رسومات خاصة لفناني بروباغاندا من الفيت كونغ (الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام)، وكما يكشف هذا المشروع وكثير سواه فإن “Karlsaue” حرمت للأسف أعمالاً كثيرة من أن تكون لها علاقة بالمكان أو بالتاريخ أو حتى ببعضها، أما فيديو (أنساق القارب)/ 2009- 2012؛ للمبادرة الفنية “كامب” الذي يحكي عن التجارة في المحيط الهندي بين شبه القارة الهندية وشبه الجزيرة العربية وشرق إفريقيا، وقد صنع من لقطات فيلمية التقطها بحارة حقيقيون، فالغريب أنه تم وضعه في كوخ في وسط الحديقة، والحق أن الحديقة بدت نقطة ضعف دوكيومينتا الأساسية، أو مكان النفي فيها لأي مشروع لم يجد له سياقاً مناسباً في مكان آخر موضوعاتياً أو مادياً.
لم تستطع هذه المراجعة الإحاطة بأعمال بارزة كثيرة، ومنها مشاريع لكل من جانيت كارديف وجورج بوريس ميلر، كليمينز فون ويديمير، خافيير تيليز، خضر عطية، للين فولكس، فوسون أونور، جفري فارمر، بيير هيوغي، عمر فاست، ويليام كينترج، أمار كنوار، باني عبيدي، تيجال شاه، بول شان، تينو سيهغال، جيرومي بيل، رابح مروي، أكرم زعتري، وليد رعد، بالإضافة إلى كثير من الفنانين الأفغان، ممن تستحق أعمالهم أمكنة وأوقاتاً مناسبة للمشاهدة وللنقد، وهو ما لم تسمح به لا الضخامة الفجة لدوكيومينتا، ولا المساحة الضئيلة هنا على الورقة.
مشاريع أكثر يعني إذن وقتاً وطاقة واهتماماً أقل، وهو في النهاية ما جعل دوكيومينتا يبدو منغمساً في ذاته بجنون، وغير متفاعل مع حالات الإبداع والأصالة والروعة الكثيرة التي ضمها، فقد ظهر دوكيوميتنا 13 بصورة أرشيف عملاق لمشاريع يتجاوز عددها ومدتها وتعقيدها قدرة الزائر اليومي على التفاعل الخلاق، وللمفارقة فقد كان بذلك لحظة متحدية للزمن وحاسمة له في الآن معاً.
ففي هذا المعنى كان حقاً مشروعاً جاداً وطازجاً، خلافاً للمحاكاة الزائفة الساذجة التي نراها تمارس وتنتج بسرعة قصوى في أغلب المعارض الكبرى اليوم، ويبقى الأكيد هو أن كل ما يمنح دوكيومينتا 13 تميزه يجلب معه مجازفاته وعثراته، وهو ما أوحت به الدورات السابقة، إذ أن دورة دوكيومينتا 12 أعادت النظرة إلى الحقبة الحديثة لتسأل بأسلوب حاذق كلاسيكي فيما إذا غدت تلك الحقبة “عصرنا القديم”، ودوكيومينتا 13 كانت مهرجاناً باذخاً لمجرد الضخامة بعينها لا المفهومية، وما يخشاه المرء أن تصبح الدورات القادمة عصراً من التبهرج الأنيق المستهلك، وهو الطابع الذي كان حاضراً أصلا في حديقة “Karlsaue”.