ويعدّ الفنان اليوم على رأس اتجاه وليد بين الفنانين الكمبوديين يعالج تاريخ بلادهم عبر تأملات شعرية وشخصية حادة في أثر ذاكرة الماضي على حاضر الحياة، وفي حزيران قدّم “ساريث” أعماله في معرضين: (كرتي) الذي استضافه المعهد الفرنسي في كمبوديا، و(دائرة الازدحام) الذي شهدته أروقة صالة “سا سا باساك”، عرض خلالهما أعمالاً تستكشف التقاطعات بين ماضي كمبوديا المؤلم وحاضرها المتزعزع.
يرى “ساريث” أن عمله (كرتي)/2011 – المعروض في المعهد الفرنسي على شكل فيديو يوثّق أداءه مع الجسم الكروي الفضي سابق الذكر- ما هو إلا صورة ثانوية لعملية إبداع العمل ذاته. وعلى الرغم من أن الفيديو بدقائقه الـ20 كان قد صوّر ببطء واهن، إلا أنه بالكاد ينقل عذاب مشي مدة ثمانية 8 كاملة، حيث يلوح الجسم الكروي أكبر من حجمه؛ على الرغم من أن أناقة سطحه الألمنيومي خافت الإشعاع ونيره الخشبي المبتور لا يكادان يشيران إلى وزنه الثقيل. ويبدو أن عدم القدرة على التوصيل الكامل للمشاق التي تحملها الفنان في أدائه تبدو انعكاساً لاستحالة نقل معنى أن تكون ناجياً من واحدة من أبشع الصراعات في التاريخ المعاصر.
تتوسّط ممارسات “ساريث” الأدائية مساحة بين التوتر والصمت الذي ينطق مجلّدات، وتبقى “كرتي” أكثر أعماله الخافتة تعبيراً حتى الآن.
مع (دائرة الازدحام)/2012 تنزاح اهتمامات الفنان من ماضيه القاسي إلى حاضر بلاده الملتبس نوعاً ما، والعمل المعروض في المساحة البيضاء المكعبة من “سا سا باساك” جاء بشكل بناء هرمي طوله 3 أمتار، يزينه ركام من أنابيب بلاستيكية زرقاء، ويتحدث العمل عن الصدامات الفوضوية بين الماضي والحاضر، السلطة والفقر، الحقيقي والمتخيّل، فيما تبدو فكرة السلطة متضمّنة بعناية في الشكل الهرمي الذي يشبه جداول بيانية، تستخدم غالباً لتفسير تراتبيّات معيّنة للحكومات وغيرها من المنظمات، ومن خلال دعوة الجمهور إلى التأمل في هذا الشيء الشاهق الغريب؛ فإن الفنان – وعلى ما يبدو- يقدّم هجاء للتبجيل الذي تفرضه السلطة القسرية على أتباعها، فيعلو الهرم 4 درجات متداعية من خشب عتيق أبلته لمسات أجيال منسية مجهولة، كما يجد “ساريث” بقايا من طفولته المؤلمة حاضرة في حياته المعاصرة، ويرى كثيراً من معالم تاريخ كمبوديا المتنازع عليه تحت سطح ديناميكيات البلاد الاقتصادية والسياسية والثقافية الحاليّة.
وإلى جانب هذا الهرم عُلّقت كاميرا رقمية ركّب عليها الفنان صورة بنائه هذا وهو يعلو نصب استقلال “بنوم بنه”؛ المعلم الذي شيّد عام 1958 احتفالاً بانتهاء حكومة الوصاية الفرنسية، لا ينافسه الآن في قامته سوى المسكن المسرف في ضخامته لرئيس الوزراء العصي على التبديل “هون سن” الذي يطلّ على النصب، وقد صمّم النصب “فان موليفان” على هيئة ستوبا stupa زهرة اللوتس، مزينة بأجسام تشبه أفاعي “ناغاس” الأسطورية المعبودة في الهندوسية والبوذية، كتلك التي نراها في معبد “أنغكور وات”.
وفي بناء “ساريث” حلّت محلّ تلك الأفاعي المقدّسة – التي تنسب إليها التقاليد قدرة على الحماية – أنابيب نجسة تستخدم غالباً لتصريف مياه المجاري، وحين ننظر إلى هذه الإنشاءة فإن تعبيراً محلياً شائعاً يخطر في الذهن، وهو ما يقوله الخمير الحمر في لغتهم (هل عندك أنبوب؟) في إشارة ماكرة إلى السعي لإيجاد واسطة مع السلطة، وكما هو الحال في كثير من المجتمعات النامية وتلك الخارجة من صراعات، فإن امتلاك علاقات مع السلطة قد يكون غاية في الأهمية لمن يريد تسهيل حياته في كمبوديا. وتحت هذا الوضع يرى “ساريث” أساسا هشا سبّبه تاريخ البلاد، غير أنه لا يزال يلقي بظلاله في الحياة المعاصرة.
من خلال إقامة عرض متزامن لكل من (كرتي) و(دائرة الازدحام) فإن “ساريث” يؤكّد انزياحاً ظاهراً في ممارسته، وبدءاً من سلسلة أداءات تعالج ذكريات ماضي الفنان، وحتى مزاج جديد من الممارسة الإنشائية التي تركّز بشدّة على واقع الحياة المعاصرة؛ يؤكّد الفنان على مكانته بين فناني كمبوديا الكبار من خلال أعمال تكشف ببراعة عن الصلات غير المنهجية بين ما حدث وما بقي في المجتمع الكمبودي.