أواخر شهر آب/ أغسطس استضافت مؤسسة شيرمان للفن المعاصر في سيدني ألفريدو أكويليزان الذي كان يقف وسط صالة عرض محاطاً بما بدا منمنمة لمدينة جرفها الإعصار.
من صناديق ورق مقوى؛ تناثرت على الأرضية مجسّمات بيوت صغيرة مصنوعة عشوائياً، بعضها تحطّم ورُمي جانباً، والبعض الآخر تكدّس في أكوام متشابكة، فيما تبعثرت في كل مكان أسوارها الضيئلة الوتدية المصنوعة من أسياخ الكباب، إذ إن عدد البيوت التي بقيت سالمة بعد العاصفة قليل، وبأسى لا يخفى استطلع أكويليزان ذاك الدمار ووثّقه من خلال كاميرا Lecia.
لكن المأساة التي تغلّف ذلك المشهد سرعان ما تتكشف عن شيء آخر، فقد كان ذلك نهاية مشروع ناجح عنوانه ( In-Habit: Project Another Country)/2012؛ للفنان وزوجته إيزابيل، حيث بدأ المشروع منذ أسابيع، ثم زاد اتّساعاً بفعل المساهمة التدريجية للمجتمع المحلي الذي أضاف بيوتاً ورقية مؤقتة على الإنشاءة الأصلية، وما بدأ قرية ضئيلة تحوّل إلى بلدة، قبل أن ينتهي به الحال إلى مدينة صفيح مترامية الأطراف ترتكز على شبكة سقالات أعمدة فولاذية تصل الأرض بالسقف، والجدار بالجدار، وبعد عدّة أسابيع أخذت الإنشاءة شكل مدينة صفيح برازيلية (فافيلا) مصغّرة.
كان ألفريدو يراقب المساعدين وهم يصلون إلى ما تحت الأنقاض ليبدأوا إعادة تدوير القطع التي لا يمكن استخدامها، في الوقت الذي يقومون بإلصاق البيوت الباقية السليمة في الإطارات الخشبية المتداعية، وهو ما سيمنح الإنشاءة القدرة على التنقل عبر الولايات الشرقية في أستراليا في عامي 2014 و2015، فيما يصف الفنان مشروعه هذا بــ: (المثال المؤثر للوقتية، ولسعي البشر إلى خلق الأبدية).
ألفريدو وإيزابيل أكويليزان هما شريكان في الحياة وفي الفن، حققا في الفترة منذ أن عاشا معاً نوعاً من التكامل السلس لما كان يمكن أن يشكّل تنافراً بسهولة، في الحياة والفن، الأبوة والأمومة، وحتى في كونهما شخصين غير قادرين مطلقاً على فهم الآخر.
إحدى العوامل التي ساهمت في التقريب الشديد بينهما طوال تلك الفترة كانت المسؤولية التي يشعران بها تجاه أولادهما الخمسة الذين تتراوح أعمارهم بين الـ 13 والـ 25، وقد امتدّت المسؤوليات الأسرية لتشمل كذلك المجتمع الذي يعيشان فيه.
يزعم ألفريدو أن هذا شيئاً فلبينياً، قبل أن يقصّ علينا أمطرتهم الجالية الفلبينية في مدينة بريزبين بالهدايا لحظة وصولهم مهاجرين شبه معدمين من الفلبين، قائلاً: (أصبح لدينا مباشرة 3 أجهزة تلفاز، وحواسيباً، وألعاباً، وملابس كثيرة جداً لا أزال ألبس بعضها حتى اللحظة).
وعلى الرغم من أن مشروع (In-Habit) يحيل إلى حياة الثنائي الفني الحقيقية، إلا أنه استوحي من البيوت الهشة والحياة غير المستقرة للبادجاو، ذلك الشعب المهمّش الذي يعيش مشتّتاً في جزر عديدة من أرخبيل سولو جنوب غرب الفلبين، وفي الشواطئ الشمالية من بورنيو.
يعيش مجتمع البادجاو في أكوام مساكن هشة (stilt houses) على أطراف المحيط، وهي توفّر لهم أقوات يومهم، وتسهم في تشكيل هويتهم الثقافية، إذ هم لا يتماشون مع ما تتوقعه الدولة الحديثة من مواطنيها، ولا مع متطلبات الاقتصاد الليبرالي، إذ يتناقض أسلوب الحياة البدوية والبحرية لأكثر هم مع أفكار الدولة ذات السيادة وجوازات السفر ونقاط الحدود، وفي خطوة مثيرة للجدل حاولت الحكومة الفلبينية ترحيل البادجاو الذين يعانون أيضاً من تمييز الدولة ضدهم لأنهم مسلمون في بلد أغلبيته كاثوليكية، وذلك إلى مجتمعات مستقرة بعيدة عن البحر.
بدأت أصداء حياة البادجاو وهمومهم الاجتماعية وذاكرتهم الجمعية وخبرتهم في الترحال وهم يقطعون أرخبيل سولو؛ تتردّد مؤخراً بشكل عميق في أعمال ألفريدو وإيزابيل، فمأساتهم تنعكس في المبادئ الأساسية غير العقائدية لممارسة الفنانين الفنية، واهتمامهما في كيفية تشكيل الرحلات والاستقرار لمفهوم الانتماء، حيث تصبح الحياة سلسلة من الواجبات والتوقعات المشتركة، وقد قام الفنانان باستطلاع تلك التجمعات السكانية على مدى أعوام عدة، منذ اكتشافهما أنها – وهي المحرومة والمهمّشة- في أقل الأماكن توقعاً لوجودهم.
فعلى سبيل المثال عمل الزوجان في مشروعهما (أجنحة)/2009؛ على تجميع مئات الأحذية المطاطية “الشباشب” من مركز تأهيل سنغافوري، بهدف صنع 3 أزواج أجنحة ملاك بحجم الإنسان، كناية عن مجتمع سجين لا يستطيع أي مقدار من العمل الجيد أو التدخل الإلهي إطلاق سراح سكانه منه، والقطعة تزهو ببساطتها، واضعة المساجين في رأس المجتمعات المحرومة، فيما تضفي الحرية التي يرمز لها الجناحان نوعاً من المفارقة المريرة على العمل.
انضم ذات الفنانين إلى سلك المهاجرين عام 2006 حين غادرا الفلبين متجهين إلى مدينة بريزبين بحثاً عن حياة أفضل لأولادهما، ويخبرنا ألفريدو: (لم يكن الوضع في الفلبين جيداً، فالانتخابات مزورة، وأصبح من المعتاد سماع الأطفال يقولون إنه من المقبول الغش في المدارس)، حيث كان الفساد رائجاً في بلد يعيش أغلبية سكانه تحت خط الفقر.
غدت قصة هجرة الفنانَين إلى أستراليا معروفة جيداً في دوائر فنية معينة، لكنها جديرة بالإعادة لأنها من صميم مظاهر تطوّر حياتهما وفنهما في الوقت ذاته، فقد شرع الزوجان بالتفكير فعلياً في الانتقال إلى أستراليا حين وصلتهما دعوة مفاجئة من قيّم المعارض تشارلز ميريويذر للمشاركة في بينالي مناطق الاتصال في سيدني عام 2006، وهو ما دفعهما إلى التأمل الجاد في إمكانية استثمار الاضطراب الشخصي الذي سينتج عن هجرتهما مجازاً للتشرّد، وفي حالتهما تشرّد إرادي، وقد أُعطي كل طفل من أطفالهما صندوقاً، وطُلب منه وضع الممتلكات التي يرغب بإحضارها معه إلى أستراليا، ولأنه ليس بالإمكان حمل جميع الأغراض إلى البلد الجديد، فقد تم حزم ألعاب وملابس وكتب وقطع ثمينة ورتّبت بعناية ووضعت في صناديق “باليك بايان” الكرتونية التي اعتاد الفلبينيون على مدى السنين ملئها بممتلكاتهم الثمينة وشحنها حول العالم.
تحولت الصناديق ذاتها إلى العمل الفني (Project Be-Longing: In Transit)/2006؛ عرضه الفنانان في ذاك البينالي، ويعكس العمل تلك الرحلة العائلية الخاصة، وهو يصف الهجرة والتشرّد والصدمات الشخصية التي يقاسيها الأطفال وهم يقرّرون ما سيأخذون وما سيتركون خلفهم، لكن ما لا يعرفه الكثيرون هو أن الأغراض التي تركتها العائلة وراءها قد وُضعت هي الأخرى في صناديق وعُرضت في مركز الفلبين الثقافي في مانيلا، وكانت تذكيراً مأساوياً بالتشظي الذي يختبره المهاجرون في ترحالهم، قبل أن يشتريها مقتني فنون محليّ.
يقول ألفريدو: (إنها طبيعة البشر.. يرغبون دوماً في البحث والانتقال إلى مكان آخر أحسن حالاً)، وخلال أعوام أخذ هذا العمل الفني شكلاً آخر ليصبح مشروع (Another Country: Address)/2008؛ الذي يتكون من محتويات 140 صندوق “باليك بايان”، وقد وُضّبت في كل منها أغراض شخصية تبرّعت بها الجالية الفلبينية في بريزبين للعائلة عند الوصول إليها عام 2006، وعرضت الأغراض في رفوف مكعبة الشكل، تماثل في حجمها حجم الصناديق، وقد رتبت بحيث تشكل سياجاً له 4 جوانب، يتقدمه مدخلٌ وكأنه مسكن بلا سقف، والطريف أن العمل ذاته غدا طوّافاً، إذ شارك في بينالي أديليد وسنغافورة عام 2008، واليابان عام 2010، واكتسب مع مرور الأعوام قيمة زمنية وسيرية ذاتية، وأصبح خليطاً من الفضول والمفاجأة اللذين يَنتُجان حين تُجمع أشياء لا رابط بينها في المكان ذاته.
تعدّ الحساسية تجاه القضايا الاجتماعية والهموم الأسرية مكوّناً جوهرياً في ممارسة الزوجين الفنية التي تطوّرت على مدى الأعوام لتشمل عدة مشاريع جارية تأخذ أشكالاً عدّة، فعلى سبيل المثال بدأ العمل في (Project Be-Longing) عام 1997، وحتى اللحظة تجاوز 10 أعوام من دون أن ينتهي، وهو تأمّل متعدّد الأجزاء في الانخلاع من المكان والضياع والمقاومة الثقافية التي تُرى عبر تراكم مقتنيات شخصية، وهي الثيمات التي قدّمت مادة خام غنية لعمل الفنانين.
وقد قُدّم العمل في نسخ عديدة خلال عدة أعوام، من ترينالي آسيا والمحيط الهادئ في صالة عرض كوينزلاند للفنون عام 1999، مروراً بعرضه في سيدني عام 2006، ويرى الفنانان أن دور الفنان يكمن في (تقريب الناس من بعضهم وتهدئتهم، وخلق علاقات في المجتمعات بين الناس والأشياء).
وعلى الرغم من انشغال الفنانَين وسفرهما وعملهما المتواصل، فإن ما يتحقق جسدياً في فنهما يرتبط بالهموم العملية الناتجة عن رعاية وتربية أطفالهما، والقيام بتلك المسؤوليات يشكّل ويحدّد المنتج النهائي لممارستهما، ويصبغه في ذات الوقت بصبغة "التدبير"، وهي الفلسفة التي غدت امتداداً طبيعياً لحياتهما المنزلية، وتتضح هذه المقاربة في عمل مثل (Passing-Through: Project Another Country)/2011 -2012؛ الذي أنتج أولاً العام الماضي في الاستوديو الخاص بهما في مدينة بريزبين، قبل أن يعرض ثانياً في شباط/ فبراير من هذا العام في صالة الطلاب في كلية كوينزلاند للفنون، حيث كان ألفريدو يدرس الدكتوراه، ويتكون العمل من سفينة ذات حوض مصنوعة من المخلفات وبقايا المواد التي تتجمع عادة في مكان كهذا، وتتكرّر صورة القارب كثيراً في أعمال الزوجين، في رمزية عن الأمل وتجاوز المأساة، وقد جُمّعت أعواد خيزرانية قديمة وعجلات دراجة والكثير من الأشياء الأخرى غير المترابطة، ورُبطت معاً لتنتج ذلك المركب الموحش الغريب والإيحائي.
حصل الفنانان على منحة إقامة في مركز مونتالفو للفنون في ساكرامينتو- كاليفورنيا، ستكون بين شهري آذار/ مارس وتموز/ يوليو عام 2013، كما ستكون أطول فترة يقضيانها بعيداً عن الأسرة في الأعوام الأخيرة، على الرغم من أن إيزابيل ستعود بالتأكيد إلى بريزبين بعد أسبوعين من بدء المنحة للاطمئنان على الأولاد، وستمنح تلك المنحة الزوجين الفرصة للعيش مع فنانين آخرين، ولتبادل الآراء معهم حول الإطار المفاهيمي لمشاريعهم القادمة.
ألفريدو يحب بطبيعته الثرثرة، ويرى في الكلام إحدى أمتع جوانب عملهما: (أكثر الأجزاء إثارة عند العمل على مشروع هو أن تناقشه مع قيّمي المعارض، وأولئك المنخرطين في العملية الإبداعية، تلك اللحظات الأولى في المناقشة، والتي – في عملنا نحن – لا تعرف النهاية مطلقاً.. هذا هو عملنا.. ليس الأشياء، بل كيفية تأثيرها على الناس، وإننا نستجيب من خلال أعمالنا لما نحسّه ونراه.. لا نبحث عن حل، بل قُل إننا نادراً ما نجد الحل في فننا.. دورنا محصور في طرح الأسئلة وإثارة المشكلات).
عملهما يشبه رحلة أو حواراً مع الجمهور، وهو ما يجعلهما يجدان في ورش العمل المجتمعية التي يعقدانها بانتظام في المدارس غاية في المتعة، وكما يقول ألفريدو: (الفن مخبوء وراء الإنشاءة، ولا يرى البتة)، فيما تمنحهما ورش العمل الفرصة للانخراط مع المجتمع في مستويات أساسية، شاقّين بذلك تربة غنية تزهر طوال ممارستهما، والإنشاءات التي تنتج من ورش العمل أو تلك النشاطات التي يدعى الزوار عادة للمشاركة فيها؛ تصبح وثيقة مع ما جرى، مجسّدة الأطر المفاهيمية للأعمال.
وفي الأسابيع التي سبقت مشروعهما الأخير في سيدني عمل الفنانان مع أطفال في مدارس محلية، وحثّوهم على صنع بيوت من ورق مقوى، وعلى المشاركة في الإنشاءة النهائية وزيارتها.
يتجنب الفنانان بوعي قضية الجماليات الشائكة التي تشوّش أذهان كثير من الفنانين، لأنهما لا يرغبان بصنع شيء بصري بحت أو ذي أسلوب محدّد، وكما لاحظ ألفريدو فإن (الإنشاءة ليست عن الجماليات، على الرغم من أن الأخيرة قد تكون أحياناً نتيجة ثانوية لها).
فيعترف ألفريدو مثلاً أن العمل الذي جُمعت من أجله آلاف فراشي الأسنان المستعملة من الجاليات اليابانية والفلبينية (Presences and Absences: Project Be-Longing)/1999؛ يمتلك ميزة جذابة سطحية بما فيه من إحساس كامن فاتن باللون والشكل، لكن هدف المشروع الأساسي تمثل في إيجاد رابط بين القصص التي ظهرت خلال تجميع فراشي الأسنان.
وقد أخبرنا ألفريدو كيف أن (بعض الناس كتبوا أسماءهم على الفراشي، وكأنهم كانوا ينوون تحقيق فردانية ما ضمن سياق المجموع، فيما أبرزت الكثير من الفراشي الفروقات الاقتصادية، وكان واضحاً أن بعضها استخدم أيضاً لتنظيف الأحذية).
يعدّ ذلك العمل مثالاً نموذجياً لمفهوم الزوجين عن الفن، وكيف أنه يكمن في القصص المخفية وراء العمل، وليس فيه، فالأهم هو العملية لا ناتجها، وفي النهاية عرضت آلاف فراشي الأسنان باعتبارها توصيفات أعراق بشرية “إثنوغرافيا” على الأرض أولاً، وفي نوافذ زجاجية ثانياً.
ويمكن أن يقال الشيء ذاته عن النسخ الـ4 التي عرضت من مشروع (Dream Blanket) في مانيلا وبوسان/2002، وفي إيتشيغو/2006، وأخيراً في كوينزلاند/2007، وهو العمل الذي نقلت من خلاله عملية تجميع مئات البطانيات من الجاليات المحلية؛ شكلاً في غاية الحساسية الجمالية، وقد بُني العمل على فرضية بسيطة، حيث جُمعت البطانيات التي يحلم تحتها الناس، وطُويت بدقة ووُضعت في خزائن مفتوحة الواجهة، ومن نظام صوتي مخفي يمكن لبرنامج “دريم ويفر” معرفة أحلام الناس الشخصية، وحول العمل علّق ألفريدو قائلاً: (صنعت البطانيات الكورية من منسوجات جميلة، فيما امتلكت تلك اليابانية أنماطاً أكثر رسمية انعكست كذلك في أحلامهم التي بدت رسمية أيضاً).
وبمناسبة الحديث عن الأحلام؛ يمكن القول إن ألفريدو هو الحالم، فيما تبدو إيزابيل عملية منغمسة في العالم الحقيقي، وهما اللذان مضى على زواجهما 26 عاماً، وبطريقة واقعية تعلّق إيزابيل على الأعوام الأولى في الفلبين – أي في العام 1996- قائلة: (لم يكن والداي سعيدين بهذا الزواج، ولم يحبّا ألفريدو، بل كانا دائماً وقحين معه، كنت شابة كاثوليكية لطيفة أعيش حياة محافظة، وهو ما أراده والدي، وكنت دائماً في خلفية الأحداث، فيما كان ألفريدو فنانا مستهتراً ودائم الظهور في أي حشد)، ثم تزوج الاثنان على الرغم من الاختلافات، وأسّسا حياة أسرية سعيدة مع 5 أطفال، علماً أنهما كانا يعانيان من ضيق ذات اليد، ولم يدرِ والداها بداية كيف يمكن لزواج شخصين متناقضين أن يستمر، أما الآن فإن والد إيزابيل (يقبّل قدمي ألفريدو) كما تقول.
تبدو حياة الزوجين هانئة حين تُرى من بعيد، وهي هانئة حقاً إلى حد كبير، فهما يُطلبان كثيراً في معارض الفن والبيناليهات حول العالم، لكن طبيعية التوكيلات الفنية في العالم تقود إلى الابتعاد عن الشكل النهائي للعرض، وهو ما يجده الفنانان إشكالياً.. (نحن نفضل قضاء وقت أكثر في العرض، لكن ما يحدث هو أننا نسافر إلى هناك لنجهّز العرض ثم نغادر، ونادراً ما نرى الجمهور أو نتحدث إليه، وهو الجزء الذي نحبه كثيراً في العملية الفنية)، وعلى الرغم مما قد يفترضه المرء من اكتفاء مادي لفنانين سمعتهما العالمية كبيرة، فإن شهرتهما وثروتهما تنحنيان أمام تواضعهما وزهدهما، وهما يقدّمان دوماً أوليات مرتبطة رباطاً وثيقاً بالمسؤوليات العائلية.
إن الزيارات الأخيرة للفلبين جعلت الزوجين يفكران ملياً في الجانب المالي لسوق الفن، وكيف أن الفن يتخذ قيمة مختلفة وفق السياق الذي يعرض فيه، وسلسلتهما (Mabini Art Project)/2009 هي مثال حول تغيُّر مادة فنية لتصبح عرضةً لنظامِ قيمةٍ مختلفٍ، وذلك حين تخضع لتدخّل ومقاربة فنية أخرى.
تعتبر لوحات (مابيني Mabini) التقليدية فناً فلبينياً “شعبياً” لمناظر طبيعية يصنعها حرفيون محليون، حيث تنتج آلاف من تلك اللوحات التي تعلوها انفعالية لا تخفى، وتباع في “شارع مابيني” في مانيلا، وقد قام وكيل أعمال ألفريدو وإيزابيلا بتفويض رسام (Mabini) محليّ لإنتاج مئات الأعمال، قبل أن يعيد الزوجان تكوينها صياغةً أو قطعاً أو سدّاً، بحيث تعاد صياغة شظايا اللوحات، أو تجمّع بما يشبه منحوتات أو جداريات مفكّكة.
إن عملية التحويل هذه تنتج أعمالاً توسم بأنها فن معاصر، وكما يقول ألفريدو: (ما هذا إلا لأننا فنانان معاصران)، ولهذا التحويل طبيعة اقتصادية وجسدية ومفاهيمية، من دون استغلال أي كان.
فالحرفي المحلي سعيد بالتفويض، وخاصة في وقت ضعفت فيه السياحة، واختفت فيه القدرة على بيع اللوحات لرسامين آخرين، كما أن المشروع فرصة للتأمل في مفهوم المؤلف والإبداع المشترك.. (تتلاعب السلسلة بفكرة القيمة في الفن، فنحن نأخذ ما يوصف بأنه لوحات هابطة فنية تستقصد السياح وتباع بسعر ضئيل في شوارع مانيلا، لنحوّلها إلى فن عالي القيمة يباع في صالات الفن المعاصر الراقية.. يا له من عبث).
ظهر المشروع في نسخ كثيرة منذ أن ولدت فكرته الأولى عام 2009، ومؤخراً دعا يوكو هاسيغاوا قيّم بينالي الشارقة 2013 الزوجين لعرض عملهما (Mabini Art Project: 100 Paintings)/2011؛ في معرض العام القادم، وفي هذا العمل قطعا لوحة “مابيني” زيتية كبيرة إلى 100 مستطيل متفاوتي الأحجام، ليأخذ كل مستطيل منها شكل قطعة فنية مؤطرة بعناية.
وفيما ستوفر لهما منحة ساكريمينتو فرصة التأمل في الفن والحياة، ومتعة العيش في مجتمع من الفنانين، فإن المرء يشعر أن حياتهما وصلت الآن إلى منعطف مهم.
ثمة استديو مساحته ألف م2 يبعد ساعتين عن مانيلا، يأمل الزوجان بتأسيس مركز فني اجتماعي فيه يقدم منحاً وفرصة للأطفال المعوزين للانخراط في الفن والإبداع، لكن لا تزال تلك الفكرة في مراحلها الأولى، غير أن ابتسامة ألفريدو المتفائلة تؤشر بوضوح إلى أنها ستتحقق، وهو ما شعرتُ به أثناء حديثي معهما، إذ كانا على وشك السفر إلى مانيلا لتوقيع عقد الاستديو.
يبدو أن الحياة في طريقها لإرجاع الفنانين إلى وطنهما في فرصة للشفاء الروحي، بل وحتى التكفير.. يقول ألفريدو: (أرغب بمنح الأطفال هناك فرصة للتطور والنمو.. أريد مساعدة أولئك الذين يعيقهم الفقر عن تحقيق مستقبلهم)، وعلى الرغم من أن هذه قد تبدو مُثلاً عليا، إلا أن الفنانَين يشعرانها تماماً، لكن رجوعهما الدائم إلى الفلبين يعتمد على إنهاء ابنتهما الصغرى دراستها في أستراليا في غضون 5 سنوات، وبعدها سيفكران في استديو مانيلا، ويقرران كيفية إكمال ذلك المشروع، فأمامهما الآن الفحص العاجل لموقع متحف “Gem” في لاهاي، حيث سينشئان – كما يقول ألفريدو – (متحفاً داخل متحف باستخدام مواد أُعيد تدويرها)، فيما سيشغلهما قليلاً بينالي الشارقة العام القادم، إلى جانب مشروع تعليمي ضخم في صالة الفن الوطني في سنغافورة، ولم يسبق أن انشغلا بهذا الحجم من قبل، وإن كانت العائلة تتطلب بالطبع جزءاً كبيراً من الوقت – كما تشير إيزابيلا – (إلا أن الحياة تسير بطريقتها الفريدة الخاصة).
على الرغم من الطبيعة الاجتماعية لأعمالهما، غير أن الجماليات لديها قدرة غريبة على الإطلال برأسها في أقل اللحظات توقعاً، ففي معرض هونغ كونغ للفنون الذي انعقد مؤخراً في أيار/مايو 2012 باع الفنانان لأول مرة أعمالاً فنية كبيرة لمقتني فنون أسترالي، علماً أنهما يعيشان في أستراليا منذ عام 2006.
كان العملان عبارة عن بورتريهات شخصية ضخمة استوحيت من صورهما في جواز سفرهما الأسترالي، وقد صنعت البورتريهات من أحاجي الصور المقطعة لمناظر طبيعية أوروبية، وعلى الرغم من جمال العملين المدهش إلا أنهما يبقيان مخلصين لطريقتهما الفنية، بما في ذلك من المكان والسفر والموقع وهشاشة الحياة التي قد تتحطم من دون سابق إنذار لتصبح أشلاء لا حصر لها.
ومن خلال ذلك كله، تتواصل رحلة الزوجين بطريقة دائرية لا خطية، إذ استعادا الشهر الماضي جنسيتهما الفلبينية، وهنا يعلّق ألفريدو بالقول: (بدا إلقاء القسَم غريباَ.. حين تغادر بلدك تصبح شخصاً آخر فعلاً، وكلما عدنا إلى الفلبين شعرنا بأننا سياح، ضيوف على البلد الذي كان لنا).