P
R
E
V
N
E
X
T

Installation view of “Theatre of the World” at Museum of Old and New Art, Tasmania, 2012. From left to right: a 20th-century Yaruba beaded tunic and bag from Nigeria, PABLO PICASSO’s Weeping Woman, 1937, a Sulka shield from Papua New Guinea and a 2006 print by Australian Aboriginal artist ALLAN MANSELL. Photo by Remi Chauvin. Courtesy Museum of Old and New Art, Hobart.

Installation view of “Theatre of the World” at Museum of Old and New Art, Tasmania, 2012. SIDNEY NOLAN’s Colonial Head—Kelly Gang (left), 1943–46, hangs alongside WIM DELVOYE’s Untitled (Osama) (right), 2002–03. On the floor is an Afghan war rug. Photo by Remi Chauvin. Courtesy Museum of Old and New Art, Hobart.

صدمة القديم: جان- هوبيرت مارتن والعرض غير الخطي

Australia
Also available in:  Chinese  English
لا يزال قيّم المعارض الفرنسي جان- هوبيرت مارتن يُعرف بمعرضه (سحرة الأرض Magiciens de la Terre) الذي أقيم في مركز جورج بومبيدو عام 1989، وذلك كردّ فعل على المعرض الشهير (البدائية في فن القرن العشرين: الصلة بين القبلي والحداثي) الذي احتضنه متحف الفن الحديث (موما) في نيويورك عام 1984، حيث قدّم معرض (السحرة) 50 فناناً ممن يسمون المراكز الفنية إلى جانب 50 آخرين من "الأطراف"، من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.

وبدل وسم الفن القبلي والديني غير الغربي بسمة الغرائبي الآسر المغلق عن العالم المعاصر، أراد مارتن عرض أعمال لفنانين أحياء ينتمون إلى مناطق مجهولة في العالم – بما فيها أعمال رجال طب من الهنود الحمر ورهبان تبتيين وعجائز من سكان البلاد الأصليين وشيوخ قبائل أفريقيين – على أنها  فن معاصر.

قامت الدنيا ولم تقعد، واتهم المعرض بالكولونيالية الجديدة، ووصم مارتن ذاته بأنه مجرد ذكر أبيض محظوظ متذوق للجمال، يقبع في مركز سلطة متعال، ويختار أعمالاً فنية من جميع أنحاء العالم بهدف التستير على العلاقات السياسية والاقتصادية غير المتوازنة بين الغرب وبقية العالم.

ففي أولى أعداد المجلة الفنية ما بعد الكولونيالية (النص الثالث Third Text)/ ربيع 1989؛ كتب مؤسسها رشيد أراعين أن ما يُزعم من لفتات “كريمة” – مثل تلك التي فعلها مارتن – بدل أن تتحدّى السيطرة الغربية، فإنها في الحقيقة تشرعنها، حارمة الثقافات المقصاة من قدرتها على مساءلة بنية السلطة والسعي نحو الانعتاق التام منها.

وفي مقابلة مع بينيامين بوتشلو نُشرت في عدد أيار/ مايو 1989 من مجلة الفن في أمريكا؛ ردّ مارتن على بعض تلك الانتقادات، وفي معرض تفنيده لفرضية أن الإنسان لا ينظر إلى ثقافة أخرى إلا كي يستغلها قال مارتن إنه لم يكن يطرح أن باستطاعة أي كان تنظيم معرض عالمي من موقع الحياد الموضوعي، وما سعى إليه هو مقاربة إنتاجات فنية من أنظمة ثقافية واسعة الاختلاف على أسس متساوية، باعتبارها أعمال تجارب بصرية وحسية، لا أعمالاً أنثولوجية عرقية أو أدوات تعليمية.

وعلى الرغم من اتهامه بالإمبريالية الثقافية؛ إلا أن معرض (السحرة) أصبح اليوم مرجعاً دائماً في دراسات المتاحف وتنظيمها، مع شبه إجماع بأنه أول معرض عالمي حقيقي واسع النطاق للفن المعاصر، بدعوته إلى شمولية أعظم في ممارسات تنظيم المعارض، وفتحه آفاقاً جديدة للمؤسسات الثقافية المهتمة بالعمل الإبداعي القادم من خارج أنماط الحداثة الغربية.

وفي العقود التالية غدا موقف مارتن الرافض للتصنيفات الجامدة والتقسيمات والتراتبية؛ العلامة المميزة لمسيرته، وهو ما قاده نهاية إلى متحف الفن القديم والحديث (مونا)  في هوبارت، حيث افتتح معرضه (مسرح العالم) أواخر حزيران/ يونيو.

التقى مقتني الفنون والمقامر المحترف ديفيد والش مؤسس متحف (مونا) مع مارتن أول مرة في بينالي البندقية عام 2007، حين كان الأخير قد اشتغل على معرض مغرق في مفارقته التاريخية، لقي من المديح ما لقيه من الإدانة، وظهر باسم (وقت الفن: حين يصبح الزمن فناً).

وقدّم المعرض الذي احتضنه قصر فينيسي العائد إلى القرن الـ 15؛ فناً حديثاً إلى جانب آثار قديمة ومقتنيات معثور عليها، من دون أي تمييز تاريخي أو ثقافي بينهما.

وعلى الفور قام والش الذي كان في خضم تخطيطه لمتحف يضم مخبوءاته الانتقائية من الفن والتحف العائدة إلى آلاف السنين؛ بتعقّب مارتن ودعوته للانضمام إلى مشروعه.

(مسرح العالم) هو أول مشروع كبير يقدمّه مارتن في متحف (مونا)، جمع فيه أعمالاً من مقتنيات والش، وأخرى منتقاة من متحف وصالة تاسمانيا للفنون المجاور ذي الـ170 عاماً.

هكذا جاورت زخارف خرزية إفريقية وهياكل عظمية حيوانية ومرجان وساعات وأباريق شاي أعمال سول ليويت وجان ميشيل باسكويات وفرانسيس بيكابيا وفيرناند ليغار، وشهد المعرض وجود أكثر من 100 لوحة نادرة مصنوعة من لحاء “تابا” من جنوب المحيط الهادئ، ولوحة اختبار زجاجية ضد الرصاص أُخذت من سجن حكومي في تاسمانيا، ومومياءات مصرية.

وفي فضاء واحد اشترك خندق الفن من الحرب العالمية الأولى، ومنحوتات الكفن الغانية المعاصرة للغاني  با جو، ولوحات لحاء بدائية مع مارينا أبراموفيتش، وقرون الغزلان، وخرائط من القرن الـ 17 مع أعمال فاسيلي كاندنسكي، وأقنعة ميلانيزية، مع لفافة إيروتيكية يابانية تعود للقرن الـ 18، وقد احتل فنانون محليون من هوبارت – مثل بات براسينغتون وروبن ماكينون – الغرفة ذاتها التي احتلها جياكوميتي وبيكاسو، فيما نالت رسوم التاريخ الطبيعي وعينات طبيعية وأدوات علمية؛ الاهتمام ذاته الذي ناله كل من سيدني نولان والخزفيات الصينية العتيقة.

وفي دفاع مارتن عن مقارباته يشير إلى الموسيقى العالمية، مركّزاً على القبول الذي تزايد عند الناس تجاه التجميعات الصوتية منزوعة السياق، لا سيما بعد ظهور الإنترنت، كما يذكّرنا بأن الشعوب على مدى التاريخ استمتعت بالآداب والمسارح الأجنبية، متقبلّة الترجمة وخيانتها الجزئية، من دون أن يصاحب ذلك شعور بالضيق من إخراج هذه الأعمال من أصولها، وفي مقالة كتبها لكاتالوغ مصاحب للمعرض يعيد مارتن ذكر فرضية كتبها في مكان آخر، جاء فيها: يتحدث المرء دوماً عن مشكلة “السياق” حين يكون الموضوع هو الثقافات الأخرى، وكأن هذه المشكلة لم تواجهنا في تعاملنا مع منمنمة من العصور الوسطى، أو حتى مع لوحة للرسام رامبرانت نراها عند زيارة المتحف، عدد ضئيل فقط من يعرف أي شيء عن سياقات هذه الأعمال، على الرغم من أننا لا نكف عن تكرار أنا جزء من تاريخنا الثقافي الخاص.

حين قابلته في باريس في أوائل هذا العام؛ عبّر مارتن بجدية عن أمله بأن تفسح اليقينيات النظرية المجال لارتباطات شعرية أكثر بين الأشياء المتغايرة، وفي معارضته للاتجاه التعليمي المفرط للمتاحف يلاحظ أن (لا أحد يذهب إلى حفلة موسيقية كي يتعلّم تاريخ الموسيقى).

وقد أبدى مارتن تحفظه أيضاً تجاه الممارسات التنظيمية التي تؤمن باختيار الأعمال الفنية بناء على تحديد صارم مسبق للموضوع أو للرواية التاريخية أو لقائمة أسماء المشاركين.

ويقوم نموذج مارتن على ضرورة الابتعاد عن معاملة الأعمال الفنية باعتبارها وسائل لغاية أخرى، بل يجب أن تكون الاستجابة والتلقي للأعمال ذاتها مباشرة، ووفق شروطها، ومن هنا وفيما ينتقد كثيرون اتساع نطاق البيناليهات والتريناليهات؛ يرى مارتن أن المعارض الكبيرة ضرورية ومفيدة، لأنها تتطلب نوعاً من التعقيد والتعارض الداخلي بين الأعمال، وهو ما يعني استحالة أن يضعها قيّم المعرض تحت مفهوم واحد محدّد مسبقاً.

بدأت نوازع مارتن تظهر بسبب ملله من الترتيبات المتحفية الخطية، قبل أن يتطور موقفه لاحقاً جرّاء محادثاته مع فنانين، وفيما يميل قيّمو المعارض والمؤرخون المحافظون إلى التمسّك بشدّة بالتسلسل الزمني والتصنيفات التي طبّقت بأثر رجعي على الفن، فإن مارتن يصرّ على أن الفنانين لم يتعاملوا البتّة مع الفن باعتباره ناتجاً أو ملائماً لنموذج تعاقبي مسطّح للزمن، بحيث يكون الشيء متأثراً بما سبقه ومتطوراً إلى ما سيأتي بعده.

والأكثر تحدّياً وجدوى في مقاربة الفن يقع في التساؤلات الأعمق حول الإنسانية والإبداع، تلك التي لا تحصر ذاتها في تصنيفات مكانية أو زمانية أو أسلوبية، ولنقتبس ثانية من مقالة مارتن المنشورة في كاتالوغه: (الشيء الجوهري هو أن تشكّل وتعبّر عن نوع التفكير البصري الذي يؤسّس للإبداع الفني، وليس الهدف انغماساً حنينياً في الماضي، بل نظرة ثاقبة في رغبات ومخاوف وآمال الإنسانية كما دوّنت في ثقافتنا المادّية).

مارتن.. وبعد تعيينه عام 2000 مدير متحف كونستبالاست في مدينة دوسيلدورف؛ طلب من فنانين محليين هما توماس هوبر وبوغومير إيكير العمل معه لإعادة ترتيب المقتنيات الفنية بالكامل، من العصور القديمة إلى الحديثة، بطريقة تتجاهل تماماً التسلسل الزمني، وأية تصنيفات تاريخية فنية معتدّ بها، بما في ذلك التمييز بين الفنون الجميلة والتطبيقية، وقد تسبّبت العروض الجديدة في احتجاجات ضخمة في ألمانيا، تلاها انعقاد سلسلة نقاشات وندوات عامة لمعالجة مسألة بناء الزمن التاريخي وتصنيف الفن، ليصبح الموضوع إشكالية مثيرة شكّلت للمعرض – وكما هو متوقع – حملة علاقات عامة ناجحة للغاية.

يذكر مارتن من دون مبالاة رسالة غاضبة بعثها رئيس منظمة قيّمي المعارض الألمان إلى محافظ دوسيلدورف متّهماً فيها مارتن بالنكوص بالفن إلى مراحل ما قبل تاريخية وعقلانية، ومعلناً أنه كان يجب على المتحف ألا يوظّفه مطلقاً.

مثل تلك الهجمات الشرسة لم نرها في أستراليا أعقاب عروض متحف (مونا) القائمة على المفارقة التاريخية وإلغاء التجزئة decompartmentalization، وقد لا يكون ذلك مفاجئاً بالنظر إلى حق مقتني فنون ثريٍ بامتلاك ما يشاء من الأعمال، وعرضها كما يشاء، من دون أن يعني ذلك غياب أي أرضية صالحة لنقد جاد هنا.

يبدو لي أن أكثر الأفكار تحدّياً في متحف (مونا) ليست العلاقة مع التفضيلات الصريحة لمواضيع محرّمة مثل الإيروتيك والثاناتوس، كما ليست بالتأكيد آلات الفنانة البلجيكية ويم ديلفوي المنتجة للبراز، إنما تكمن في النموذج غير الخطي للتاريخ الذي يتم اعتناقه.

الكل يرغب في الحديث والكتابة عن والش ذاته، وهو مضحك بقدر ما هو غني، لكن انتباهاً أكثر حذراً يجب أن يعطى إلى الفرضية الأساسية القائمة على عرض الفن القديم والحديث معاً بتلك الطريقة.

قدّم مؤرّخ الأعراق الأسترالي الراحل غريغ دينينغ بعض ألمع حجج التعامل مع التاريخ باعتباره كائناً حياً، ويحاجج دينينع الذي يرى ذاته أولاً وقبل كل شيء حكواتياً، أنّه على المؤرّخين مسؤولية أن يكونوا أوسع خيالاً و"تمسرحاً" كي يفكّكوا النزعات الأساسية لتخصصهم، وقد بنى دينينغ محاضراته في جامعة ملبورن على الفكرة الجدلية التي ترى التاريخ أداء.

وبما أن البحث التاريخي القويم يشمل في ذات الوقت (أن نصنع حاضراً من الماضي)، و(أن نعيد إلى الماضي حاضره)، فإنه فيه بالضرورة – كما يرى دينينغ – مفارقة تاريخية.

عبر الإيميل سألتُ مارتن عن العبارة التالية التي وردت في إحدى إعلانات (مونا) عن معرض (مسرح العالم) والتي يقول فيها: (نحن لا نعرف الحقيقة مطلقاً من خلال إخبارنا عنها، بل يجب أن نختبرها بطريقة ما، تلك هي نعمة التاريخ الدائمة: إنه المسرح الذي نختبر به الحقائق).

اقتبست تلك العبارة من مختارات (أداءات)/1996 للمؤرخ دينينغ، وبدت لي مستفزة ومناسبة معاً، لكن مارتن أعلن تفاجؤه من ورودها في إعلانات معرضه، لأنه لا يعرف من يكون دينينغ أصلاً، وما تبيّن هو أن شخصاً ما من طاقم (مونا) يقف وراء هذا التضمين غير المبرّر للعبارة، وخلافاً لي لم يكن مارتن سعيداً بذلك.

وعلى أي حال، وإن كان الأمر لي لاستخدمت المفارقة التاريخية ذاتها بوضع الميت الغريب غريغ دينينغ ضمن معروضات الأعمال في (مسرح العالم)، ولرأيته راضياً عن الطريقة التي سمح بها المعرض للماضي أن يحيا.

قد لا يثير المعرض عقوداً من النقاش والخلاف الذي أثاره (سحرة الأرض)، إلا أن (مسرح العالم)، بتلاعبه بالتسلسل التاريخي المتفق عليه قطعياً، يذكّرنا بأن التاريخ ما هوإلا في الظاهر تاريخ.