طهران

صرّحت بلدية طهران يوم الـ 14 من حزيران/ يونيو 2009 أن 3 ملايين محتجاً نزلوا إلى الشوارع.

يشكّل هذا الرقم سابقة في الأعوام الأخيرة، حيث تظاهر المحتجّون ضد إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد المتنازع عليها، وضد برامجه الاقتصادية الفاشلة وتمسكّه الصارم بالقيود على حرية التعبير، ففي ولايته الرئاسية الأولى استمر مخلصاً في البرنامج الثقافي القمعي للجمهورية الإسلامية.

والحق أن موقف الجمهورية الإسلامية الإيرانية من الفن والثقافة كان قطعياً منذ البدايات، فتعريف الفنون في مناهج المدارس الإعدادية والثانوية كان ولا يزال محصوراً بالخط ورسم الجمادات وأساسيّات التصميم الغرافيكي، وفيما كانت كلمة “الموسيقى” غائبة تماماً عن النصوص المدرسية، إذ تحتفظ وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي بسيطرة محكمة على كل المعارض والفعاليات والعروض، مظهرة حساسية فائقة تجاه العري، والملاحظات السياسية، وكل ما يجذب الرأي العام.

بعد مرحلة من “الرسم الواقعي الاجتماعي” في الثمانينيات؛ ظهر اتجاه تدريجي نحو التجريد في الممارسة والتربية الفنية، ربما نتج عن الإمكانية التي يتيحها هذا الشكل من أجل الهروب من الرقابة الرسمية، أو أنه نتج عن مسعى للبقاء على اتصال مع النزعات الغربية التي يعدّ التجريد أحد أبرز إنجازاتها.

وفي مطلع الألفية خضعت إستراتيجيات التمثيل البصري إلى تغيّرات جذرية، فقد اجتاح المشهد الفني في طهران حركات تتبنى الميديا الفنية الجديدة، وتعمل على سبر الموضوعات الاجتماعية السياسية والشؤون اليومية.

وقد حصلت تلك النزعات على دعم متحف طهران للفن المعاصر الذي شهد ذروته بين عامي 1998 و2005، تحت إدارة علي رضا سامي آزار، حين استضاف عدة معارض للفن الجديد، وأقام احتفاليات لحداثيين إيرانيين، ووصل ذلك البرنامج الطموح إلى قمته عام 2005 حين تجسد في معرض مستمدّ من مقتنيات المتحف الهائلة من الفن الغربي في القرنين الـ 19 والـ20.

لكن مبادرات كتلك لم يكتب لها الاستمرار، فمع عودة المحافظين إلى السلطة عام 2004، وانتخاب أحمدي نجاد رئيساً في العام التالي؛ قلّص المتحف أجندته التقدّمية، وقرّر العديد من الفنانين مقاطعة البرامج الثقافية الحكومية، وقد غدت تلك المقاطعة أكثر وضوحاً بعد انتخابات عام 2009، فاتخذت شكل اتفاقية موقعة منشورة في الصحف المحلية، وبعدها لم يعد ثمة تواصل بين الفنانين والمؤسسات الرسمية لتسهيل تخطيط وتنظيم ودعم الفعاليات.

شرع مشهد طهران الفني في الاعتماد على صالات العرض المستقلة، وثقافة صالة العرض في إيران الآن متطورة كثيراً، في ظل وجود صالات مثل “آزاد” و"أون" و"آران" و"اعتماد" و"خاك" و"محسن" جعلت من أمسيات يوم الجمعة شاهدة على افتتاحيات عديدة لمعارض مجموعات الملتيميديا والأداءات جنباً إلى جنب مع فعاليات الميديا التقليدية، لكن هذه الوفرة لا تعني بالضرورة الجودة دوماً، إذ إن إحساساً ما بالعجلة والانهماك في الذات، يصاحبه انعدام الدعم النظري؛ يبدو سائداً في هذه النشاطات.

شكّل ظهور سوق فني مفعم بالحيوية في دبي أواخر العقد الأول من الألفية الجديدة قوة دافعة كبرى وراء العدد المتزايد من صالات العرض في طهران، إذ حقّقت أعمال الفنانين الإيرانين أسعاراً غير مسبوقة إقليمياً في المزادات في دبي، الأمر الذي جعلها – في ظل غياب بنية تحتية قوية أو دعم مؤسساتي – تحتل عناوين الأخبار الرئيسة، لتصبح العلامة الفارقة في الفن الإيراني المعاصر، لكن ما بدا واضحاً هو أن التوق نحو المواد الغرائبية والخط والزخرفة أكّد أن الفنانين المنخرطين في النقد الاجتماعي والتعليقات السياسية لن يجدوا لهم مكاناً في هذا السوق.

مصطلح “الغرائبية” الذي يُسمع كثيراً في النقاشات بدأ يشمل ليس فقط الخيالات الاستشراقية بل أيضاً كل إعادة إنتاج للخصوصيات المحلية، وبعض الفنانين المحرومين من الاهتمام في الداخل اندفعوا نحو لعب دور الضحية كي يبيعوا قضاياهم “الغرائبية” المحلية بصورة أفضل، ومع ذلك فإن الأغلبية ترى أن الرغبة في سبر الخبرة المعيشة، والتعليق على قضايا مثل الارتداء الإجباري للحجاب بتأثيره الهائل في الحياة اليومية وأثره الحاسم على أية فعالية محلية؛ لا يمكن بأي حال تجاهلها.

وعلى الرغم من ديناميكية ووفرة المشهد الفني في طهران إلا أنه لم يحظ باهتمام نظري واسع داخل البلاد وخارجها، فكثير من الفنانين والعلماء يهاجرون بحثاً عن مكان أكثر حرية وجمهور كوني، أو ليطوّروا أطرهم النظرية، غير أن هذا الشتات الموزع في أوروبا وأمريكا الشمالية يعاني من غياب التواصل والإحساس الأكمل بالوعي المجتمعي، وقد قال أرخميدس يوماً: (أعطني رافعة ومكاناً أقف عليه، وسأحرّك لك الأرض)، وقد يملك الشتات الفني والثقافي الإيراني الرافعة، إلا أنه يحتاج إلى أرض يقف عليها، حيث إن فناني الداخل في إيران يملكون الأرض من دون الرافعة، لذلك لا يبدو أن شيئاً ما سيتغير قريباً في طهران.