ومن خلال تحويل الفن إلى عملية شفاء تُخمِد الحزن والمعاناة؛ فقد صنع بونما إنشاءات تطلّبت من الجمهور التركيز بشدّة على حواسّه، من اللمس والشم والنظر والسمع.
أدّت السمعة الدولية التي حظي بها بونما إلى تجوال دائم، وإلى إنتاج أعمال بمساعدة مساعدين مهرة، فقد قرر الفنان عام 1998 قبول التحدّي والقيام بمشروع ضخم لمعرضه الفردي في صالة عرض مارسي في بانكوك، مستلهماً فيه الجدران الداخلية للمعبد الشهير وات فرا سينغ في شيانغ ماي.
كانت الخطة أن يشتمل العمل على جدران مغطاة بطبقات سميكة عطرة من خضاب مصنوع من الزنجفر والأعشاب الطبية، وعلى قوالب جصّ هائلة الحجم لرأس بوذا وجذعه، وفي سعي نحو التقاط رهبة الدخول إلى فناء معبدٍ؛ أراد بونما محاكاة طقوس الصلاة والتأمل أمام صور بوذا.
في عالم التنوير تصبح كل خطوة وحركة وعياً رمزياً باليقظة، ومن خلال تحويل فضاء صالة العرض إلى جوّ ممزوج برائحة الأعشاب ومشبع بطبقات متغلغلة من الأحمر؛ فإنّ بونما أمِلَ إغواء الجمهور، ودفعه إلى علاقة تبادلية مع أعماله ضمن نطاق إنشاءة “مقدسة”.
لكن العجز عن التنبّؤ بما هو جزء من التعامل مع العمل الفني؛ كان إحدى العلامات المميزة للفنان بونما، وفي حالة هذا المشروع وقع ما لم يكن في الحسبان حين أبلغت صالة العرض بونما أن القوالب المتعلقة بصورة بوذا غير ملائمة، وأنها قد تنذر بشرٍّ لا تحتمل الصالة عواقبه، ونتيجة ذلك كان على الفنان البحث عن صالة بديلة يعرض فيها عمله.
في كل من صالة مارسي وصالة نومثونغ؛ افتتح معرضا (الفراغ الذائب) و(الفراغ الذائب/ قوالب للعقول) على الترتيب، وذلك يوم 15 آب/ أغسطس عام 1998، وقد اشتمل الأخير على رسوم تخطيطية تحضيرية، و3 قوالب جص كبيرة مغطاة بشبكة معدنية، وأدوات سباكة تأرجحت فوق قضبان معدنية طويلة وحادّة، وعلى الرغم من اضطرار الفنان إجراء تعديل على خطّته الأصلية؛ فإن نيته التوسّل بعملية السباكة التقليدية لصور بوذا كجزء من إنشاءته بقيت من دون تغيير.
شكّلت سلسلة الأعمال تلك تحولاً محورياً في كل من مسيرة الفنان وفلسفته عن الفن، بما هو عملية ووسيلة لغاية ما، فقد كانت الغاية من استخدام رموز بوذية تتمثل في قوالب الجص بطبقتها الخارجية القاسية استدعاء تجربة تشاركية مع الجمهور، حيث كل قالب كان مناظراً لمسيرة الوضعيات التأملية من الوقوف والجلوس والاستلقاء، أي حركات نحو اليقظة.
وقد رأى بونما أن بإمكان الجمهور التفاعل، وذلك طبقاً لرغباتهم وحب استطلاعهم الخاص، إذا أرادوا الوصول إلى تقدير كامل لمعرض (الفراغ الذائب/ قوالب للعقول)، وقد عكس كل تصرف وعي العقل، فالانحناء الموجود في الدواخل المجوّفة للمنحوتات يمكّن الجمهور من اكتشاف الصور السلبية لوجه بوذا وجذعه، والفتحات الضئيلة كشفت عن أنماط فلكية ذات علاقة بالتقويم القمري البوذي والأيام المقدسة في “فيشاخا” و"ماخا" و"أسانها"، وبرأي بونما فإن قوالب الجصّ هذه كانت بمثابة مركبات للعقل كي ينزاح نحو فراغات الخلاء.
كان الفنان قد اختبر ما يعنيه الدخول في تمثال برونزي لبوذا الجالس في كاماكورا اليابانية، وأراد محاكاة ذاك الإحساس بالسلام والطمأنينة الذي اعتراه هناك، كما أشار بونما إلى تعاليم الراهب المبجل بوذاداسا بهيكو الناصّة على أن (كل إنسان بوذا)، وما يعنيه من أنّ رفض الأنا الدائمة قد يتوصل إليه عبر المثابرة.
ومن خلال خلق هذه النطاقات “المقدّسة” على شكل بوذا مفتوحة أمام الجمهور للدخول؛ فإن المراء ذاته سيصبح جزءاً من بوذا، وقد كتب الفنان في دليل المعرض: (أنا مهتم بخلق أعمال تستغلّ الموقع والمكان المحدود، فهذه العناصر تترك أثراً في الشروط المادية والمعاني المفاهيمية لأمكنة خاصة كهذه).
كان الفنان المفتون بالنطاقات والفضاءات المظلمة قد صنع في السابق سلسلة هياكل مستوحاة من أكواخ خشبية ومواقع قديمة للاستشفاء، مع أكوام من معدن مسبوك على شكل رئة ألصقت عليها أعشاب طبية، وفي (الفراغ الذائب/ قوالب للعقول) كان قصد بونما إعادة تعريف عملية سباكة البرونز المستخدمة في الفن البوذي التقليدي.
يعتقد البوذيون أن صناعة أو تفويض عمل صورة لبوذا هو نوع من العبادة، ووسيلة لكسب الأجر، وقد شرع بونما بالعمل مع حرفيين في بانكوك وناخون باثوم؛ ممن يسبكون صور بوذا، وأصبح مفتوناً بمعدات السباكة والأدوات المستخدمة في عملية الشمع الضائع التي اشتملت أيضاً على طقوس واحتفالات هندوسية – بوذية.
ومن خلال المزج بين الفن المعاصر وعمليات السباكة التقليدية والطقوس؛ فقد غامر بونما بالدخول في ممالك متداخلة التخصصات من الفن والخيمياء والعقيدة، وكتب مرة: (أريد أن يكون المكان داخل صورة بوذا ملجأً لليقظة، يسعى إليه الجمهور الراغب في الوصول إلى مرتبة من الطمأنينة والرضا).
تمّ تلقي كلا العرضين اللذين صودف أن كانا آخر إنجازات الفنان في وطنه قبل وفاته ردوداً متفاوتة، مع مزيج من الإشادة والحيرة والهواجس، فيما حظي بونما بإعجاب وتقدير زملائه وطلابه، وفتحت معارضه عام 1998 أبواباً جديدة لفنانين صاعدين بمن فيهم كامين ليرتشايبراسيرت، وتاواتشاي بنتوساواسدي، لكن أولئك المؤمنين بالخرافات شعروا أن صور بونما المقدسة كانت نذير شؤم ونحس.
نمت شهرة بونما نمواً متسارعاً، وما لبث أن ازداد الطلب على أعماله في ساو باولو وأوساكا وجنيف وأثيننا ونيويورك، لكنه انهار أواخر عام 1998 جرّاء تدهور صحته، ليوافيه الأجل يوم 17 آب/ أغسطس عام 2000، مخلّفاً وراءه تركة وفراغاً في المشهد الفني الآسيوي.