على سبيل المثال عمله (ضجيج)/2001؛ هو تسجيل لمنحوتة مشعة لـ دان فلافين، أزال فيها العنصر البصري، وأبرز الإزعاج المحيط، وهو ما كشف عن أمر لم يتطرّق إليه أحد من قبل، يتعلّق بتلك القامات المديدة الشهيرة في الفن الغربي خلال النصف الثاني من القرن الـ20، وعلى الرغم من إحساسنا بأن (ضجيج) قد يصلح طرفة قصيرة، إلا أن العمل يرفض أن يكون مضحكاً، وصوت الكهرباء بدائيّ وحقيقي، وهي حقيقة تنطبق على أعمال فلافين انطباقها على مكانتها وقيمتها بالنسبة لمتاحف الفن الحديث عبر العالم.
ريكي سوالو نحّات أسترالي يعيش في لوس أنجلوس، اكتسب شهرة عالمية بعد عرض عمله (قتل الوقت)/2004-2003؛ في بينالي البندقية 2005، والعمل عبارة عن نقش خشبي بارع وغرائبي لطاولة كبيرة مغطاة بمخلوقات بحرية ميتة، ويشبه العمل لوحة جمادات هولندية وافرة ومنقطة تعود إلى القرن الـ17، وعلى مدى العامين الماضيين أنتج سوالو أعمالاً صغيرة مصبوبة في برونز لامع مشقّق من أشكال مصنوعة من أنابيب كرتونية ملصقة معاً، تشبه إلى درجات متفاوتة في الدقة غيتارات وسفناً ومصابيح وقبّعات وكؤوس، لكن أغلبيتها تشبه نماذج عفوية وشخصية وغير منمّقة، رسمها النحات من وحي الحياة وعوالم البشر وغيرها من أشياء ثلاثية الأبعاد، والمرعب أنها أشياء لا يمكن تمييزها عن أعمال صنعت قبل 60 أو 70 سنة، وإذا كان الحال كذلك فلمَ صنعها سوالو إذن؟
وبالمثل عاد داشبر أثناء مسيرته إلى غشاء الطبلة، تلك القطعة المستديرة الممتدة الجلدية أو البلاستيكية التي يمكنك أن تغطي بها الطبلة، حيث علّقها الفنان على الجدار، ورسم عليها شعارات فرقة متخيلة، وفتح فيها خروقاً، ورسم عليها غالباً دوائر إصابة هدفٍ، ملونة متحدة المركز، وذلك باستخدام الطلاء أو الفاينيل، وكانت دوائر الأهداف هذه أكثر من مألوفة، وإن اعتبرناها أعمالاً فنية؛ فإنها تبدو أكثر من تكرارية.
وإذا كان هوس الفنان الأمريكي كينيث نولاند بدوائر إصابة الهدف الممتد إلى 40 عاماً قد غرس تلك التصاميم الدائرية جزءاً من مفهومنا حول ماهو الرسم المجرد وما موضوعه، وهو قريب كذلك من مشروع جاسبر جونز، فلماذا اشتغل عليها داشبر إذن؟
إن فكرة “الأشكال الشعبية”، وهو مصطلح عامي يدل على المشترك والمتوارث ويرتبط غالباً بالموسيقى؛ يشكّل قلقاً بالغاً للطريقة التي نفكّر بها طبيعياً حول الملكية، وخاصة في المجتمعات الرأسمالية.
إن اقتباس فكرةٍ ما غدت طريقة عالمية معترفاً بها كعمل إبداعي، وكلمة “مؤلف” لم يعد لها تلك السلطة الإلهية التي كانت يوماً، فكل ما نعمله مثقل بأثر، أو ربما تعاون مع أشياء تم إنجازها في الماضي.
إن الشكل الشعبي قوي ونظيف إلى درجة لا ينفع معها احتكاره أو تغييره، بل يجب ببساطة نشره ومنحه الفرصة كي يتردّد صداه لأجيال المستقبل، فالأغنية الشعبية يسهل غناؤها لأنها غنّيت لقرون خلت، يتغير ترتيبها كما تتغير مستحضرات التجميل في عالم الأزياء، فيما يبقى اللحن الأصلي على حاله، ومع أن الفن الحديث والمعاصر لا يعترف بتلك الطريقة مطلقاً، ويطالب بدلاً عنها بالاكتشاف والإبداع المتواصلين، فإن داشبر وأغشية طبوله المكررة المعادة، وبرونزيات سوالو الأخيرة؛ ما هي إلا أشكال شعبية، فهي أشياء تملك نفوذاً بصرياً من دون امتلاك لمعان الطزاجة أو الفرادة، أو الحاجة إلى أن تكون ممتعة بالقوة في عالم اليوم، بل يكفيها أن تكون أشياء جيدة، فهي أشياء بإمكانها العيش حيثما اتفق ولمدة طويلة إن لم نقل إلى الأبد، من دون فقدان جمالها، لأنها ببساطة بدائية وحقيقية.