P
R
E
V
N
E
X
T

Aerial view of Singapore. Photo by Heman Chong for ArtAsiaPacific.

رسالة العدد

Singapore
Also available in:  Chinese  English
أكثر من 4 آلاف شخص تجمّعوا في الـ16 من شباط/فبراير الماضي في زاوية المتحدثين في سنغافورة، وهي مساحة خضراء صغيرة تختبئ وسط المدينة، غدت منذ عام 2008 المكان الوحيد في البلد الذي يُسمح فيه بالتظاهر قانونياً.

جاء هذا الاستعراض النادر للمعارضة العلنية ردّ فعل على ورقة الحكومة، والتي تشير إلى خطة للنمو السكاني، بحيث يرتفع العدد مع حلول عام 2030؛ من 5.3 إلى 6.9 مليون نسمة.

ونظراً للانخفاض المطرد في معدّل المواليد في البلاد؛ فإنه من المؤكّد أن تحقيق ذلك الهدف سيتم من خلال استقدام موجات هائلة من العمالة الوافدة.

تزامنت تلك التطورات مع تأكيدات غير مسبوقة برغبة سنغافورة أن تصبح اللاعب الثقافي الأساسي في آسيا، والحق أنه بإمكاننا تحديد السياسة الثقافية للبلاد خلال العقد الماضي في ذات المنطق الاقتصادي الذي يتحكّم بسياسات الهجرة فيها، وهو القائم على إدامة تدفّق رأس المال في المقام الأول، فالثقافة باختصار تنمّق صورة البلاد باعتبارها بوابة آسيا.

وإذا كانت سنغافورة تمثل لرجال الأعمال المكان الآمن الذي يمكن من خلاله استغلال موارد آسيا المزدهرة لكن غير المستقرة سياسياً، فإنها بالنسبة لمقتني الفنون مثل طبق بتري (وعاء زجاجي شفاف مسطح يستخدم لزراعة الخلايا)، فهي تقدّم عينة منتقاة ومصفاة من ثقافات القارة.

قد يكون مسرح سنغافورة الفني أبرز مثال على ما سبق، فهذا المعرض الفني العالمي الذي ظهر إلى النور عام 2011 اختار لآخر دوراته الشعار الصريح (نحن آسيا)، ومن بين العناصر الجديدة في المعرض الجناح الأندونيسي الذي جلب أعمال فنانين أندونيسيين كباراً وصاعدين، طارحاً ذاته بما يشبه العرض المرآوي "dioramic"، حيث يمكن للمرء أن يمرّ مرتاحاً عبره بتجربة أندونيسية من دون الحاجة إلى وضع قدم في البلد ذاتها.

وبالمثل قام بينالي سنغافورة بتعديل اهتماماته، وهو الذي يشهد حالياً دورته الـ4 تحت الإدارة الجديدة لمتحف الفن السنغافوري، لتنحصر تلك الاهتمامات تحديداً في الفن الجنوب شرق آسيوي، مختلفاً بذلك عن دوراته السابقة التي شهدت حضوراً أكثر عالمية، وبما أنه علينا الانتظار لنرى كيف سيتعامل البينالي مع المآزق المصاحبة لتنظيم معرض معاصر من خلال مقاربة إقليمية، فإن الخوف هو أن ينتهي به الحال إلى مجرد اجترار لتصورات مكررة حول هوية آسيوية نابعة من نموذج آسيا والباسيفيك البائد، والذي كنا قد رأيناه في ترينالي آسيا والباسيفيك عام 1993، وترينالي فوكوكا للفن الآسيوي عام 1999.

مما لا شك فيه أن التوسل بسياسة ثقافية من أجل الترويج لأجندة رأسمالية ليبرالية جديدة ليست ظاهرة جديدة، سواء في سنغافورة أو خارجها، والحقيقة أن “خطة مدينة النهضة” – وهي مشروع سنغافورة الأساسي للفنون الذي ظهر عام 2000 – توضح تلك العلاقة، من خلال تركيز المشروع على أن بناء “صخب ثقافي وإبداعي” في البلاد سوف يسهم في جذب طبقة ثرية ومبدعة من المهنيين، وقد لا يكون من قبيل الصدفة أن يظهر هذا المشروع الأساسي في العقد ذاته الذي اكتسبت فيه نظريات ريتشارد فلوريدا حول الطبقة المبدعة زخماً وحضوراً.

إن الجديد اليوم هو تلك الدرجة من الثقة والتصميم التي تتحلّى بها سنغافورة لمقارعة المدن الأخرى التي تنافسها كي تكون عاصمة آسيا الثقافية، وإذا كانت النسخة الأولى من الخطة قد قارنت سنغافورة بهونغ كونغ وميلبورن وغلازغو، فإن النسخة الأخيرة التي نُشرت عام 2008 أشارت بشكل شبه حصري إلى مدن آسيوية، مثل هونغ كونغ وسيؤول وبكين وأبوظبي.

لكن الوسط الفني مسكون بقلق متزايد من أن هذا الاندفاع العنيف نحو جعل سنغافورة مركزاً لاستهلاك الفني الآسيوي قد ينتج مشهداً ثقافياً مغرقاً في تفاوته، فمن غير المعقول مثلاً أن تصل جرأة بلد إلى حد وصف ذاته بـ “مدينة النهضة” وهو لا يوفر برنامج بكالوريوس واحد في تاريخ الفن، فيما ينحصر برنامج الدراسات العليا الوحيد بدراسة تواريخ الفن الآسيوي في كلية لاسال للفنون، وفي مقابل هذا ثمة العديد من الشهادات والتخصصات المهتمة بإدارة الفن في الجامعات ومؤسسات التعليم العالي، فهل نتعجّب بعد ذلك من فقر الخطاب النقدي حول الفنون في البلاد؟

في جميع الأحوال تبقى مساحة ضئيلة للأمل، فصندوق الإبداع الفني الذي افتتح عام 2009 على سبيل المثال مكرّس بالكامل لتمويل العملية الإبداعية، وهي إشارة مشجعة على أن صناع السياسات يقدّرون أهمية الاستثمار في العملية الفنية، وليس فقط الترويج لصور مشيّأة تستهدف السوق العالمي، أضف إلى ذلك مركز الفن المعاصر الذي افتتح ضمن منطقة غيلمان باراكس للفنون، وهو مخصص لدعم الأبحاث والتعليم والحوار حول الفن المعاصر، في خطوة تملأ فراغاً واضحاً في المشهد الفني.

على الرغم من كل ذلك؛ فإن آسيا لا تزال المركز الذي تدور حوله الأعمال المصنوعة والخطابات المنتجة، وعلى الرغم من اعترافنا بالحاجة الماسة لإثارة المزيد من التفكير النقدي حول الفن الآسيوي؛ إلا أننا قلقون من استخدام موضوع آسيا وسيلة للتدليل على حدود هذا الخطاب النقدي في ظل المناخ المحكوم بامتيازات الاقتصاد الليبرالي الجديد، بحيث يكون الهدف شرعنة أنماط الإنتاج والاستهلاك السائدة، لا مساءلتها.

قد يكمن الحل المنطقي الوحيد في الفصل الدائم بين الخطاب وموضوعه، بحيث تتم مساءلة أي مفهوم مستقر عن آسيا، وهي مهمة أصعب وأخطر من أن تُترك للمؤسسات.