كان محمد كاظم في الـ 18 من عمره حين سقط من قارب في مياه الخليج، حيث كان صوت المحرك يبتلع صرخاته، فيما قامته تلاطم الأمواج الصاخبة، ليشاهد مؤخرة القارب وهي تختفي في الافق، فأنصت إلى اندفاعات الموج الإيقاعية. كان ثمة هدوء إلى أن تصاعد صوت محرك قادم بعد نصف ساعة، ليعثر عليه فريق البحث وهو يلفظ آخر أنفاسه.

نجا كاظم، لكنه سقط في البحر ثانية وهو في العشرينيات أثناء رحلة صيد. يصف شعوره بالتوهان، وبتلك الرغبة اليائسة في خريطة ما، في إحداثيات، أو في أية وسيلة يمكن من خلالها تحديد مكانه عبر تلك الأمواج اللانهائية، ويقول: (لا أريد أن أضيع ثانية).

الفنان ذو الـ44 عاماً عمِل منذ أواخر التسعينيات سجلات مهووسة ومؤثرة بتحركاته في الأماكن. يرخي كاظم ذقنه، ويبتسم قائلاً: (أتمنّى ألا تكون هناك مرّة ثالثة).

وسط شبكة من أسلاك الكمبيوتر والكهرباء يجلس كاظم في الاستديو خاصته ومعرضه (خالي 10) الواقع في القوز، وهي منطقة صناعية تحتضن أبرز صنّاع المشهد الفني في دبي، وتبعد عن وسط المدينة البراق الضخم الذي كان ينمو على مدار حياة كاظم، قد يضيع ركاب التاكسي هنا، فالعلامات على الطرق السريعة لا تزال حديثة العهد، وسائقو التاكسي أغلبتهم من الجاليات حديثة الوجود في المدينة.

لكن أن تكون ضائعاً – كما يشير كاظم – لا يأتي من دون اهتمام مفاهيمي أو قيمة شعرية، هي في الحقيقة موضوع سلسلته (اتجاهات)/1999؛ حيث تتخفف الذات من حِملها لتذوب في المحيط، وفي المفهوم الذي يقود مساهماته في بينالي البندقية القادم، فهو سيمثل الإمارات العربية المتحدة.

من خلال الجمع بين الفن والتكنولوجيا الرقمية؛ يستخدم كل من (اتجاهات) ومشروع بينالي البندقية نظام GPS، وذلك من أجل تسجيل المواقع الجغرافية وتحديدها على الخرائط.

وعمل (اتجاهات)/2001-2000؛ يقدّم 4 قوالب معدنية من الإحداثيات المكونة من قطع أراضٍ غير مطورة في الإمارات، مُلئ كل واحد منها برمال حمراء وبيضاء، وفي نسخة 2002 – 2005 فقد رمى الفنان لوحات خشبية محفورة عليها الإحداثيات المحلية في مياه المحيط المتحركة، أما في التجديد الذي أُدخِل عام 2006 فنرى أرقام ألمنيوم حادّة تناثرت على جدار، وقد تراكبت فوق بعضها وكأنها أوراق شجر متساقطة، فيما يتوهج ضوء أزرق ناعم توهجاً آسراً خلف الأرقام العشرية والدرجات الصارمة.

في صالة عرضه الخاصة يحدّق الفنان ذو العينين السوداوين الجادتين واللحية الخفيفة في شاشة كمبيوتره المحمول، ليشاهد تجمعاً مجزّأً للسماء والمياه الكدرة، ويثير الفيديو – الذي سيُعرض كجزء من إنشاءته في البندقية – إحساسَ الانجراف بعيداً، وإلى جانب كاظم يجلس مونتيرَين من كيب تاون، وهما شابين وشما جسديهما، وبدت قَصة شعريهما متوترة، كانا يتلاعبان باللقطات، ويضبطان الأفق، ويركّبان غيوماً على السماء.

بعد أن يسعد كاظم بنتائج المونتاج، يهب واقفاً، ويربت على كتفي المونتيرَين مقدّراً جهدهما، ومقترحاً عليهما تجنيب إصابة الجمهور بدوار.

من غرفة خلفية ذات خزائن بيضاء؛ يسحب كاظم لوحات قديمة مغطاة بمناديل ورقية، وملفات فيها قصاصات صحف صفراء تحكي عن معارض سابقة لأصدقائه، يتصفح بحنين صفحاتها ذات الحبر الباهت، وكأنه ينظر في ألبوم صور عائلية.

يذكر كاظم أنه حين كان في سن الـ14 فقط التقى بأبي الفن المعاصر في الإمارات حسن شريف الذي عاد من بريطانيا إلى وطنه ليؤسس جمعية الفنون التشكيلية الإماراتية في الشارقة، وذلك بعد دراسته فن ما بعد الحرب، ومن الصعب الإحاطة تماماً بمدى الأثر الذي أحدثه شريف، ليس في كاظم وحسب، بل في جيل كامل من الفنانين الإماراتيين، وقبل أن يترجم شريف نصوصاً تاريخية فنية أساسية إلى العربية، وبرأي كاظم (كانت هناك فجوة ليس فقط بين الجمهور وعالم الفن في الإمارات، ولكن أيضاً بين الفنانين)، لا يزال كاظم يلتقي أستاذه بشكل شبه يومي، وكثيراً ما يقتبس من كلماته أثناء حديثه.

في جمعية الفنون التشكيلية التحق كاظم الشاب آنذاك بمجتمع مزدهر من النظراء، أمثال ابتسام عبد العزيز، والشاعرين أحمد راشد ثاني وعادل خزام، ويقول: (أنت لست فناناً بالولادة).

أواسط الثمانينيات اختص كاظم بالرسم أثناء دراسته، واهتم بالإجابة على أسئلة جمالية من خلال محاكاة سيزان أولاً ثم ديغا، وبعد التخرج؛ انتسب الفنان إلى الجيش، وأدرك وهو يرتب مستودعاً وينقل مؤن وإمدادات الجيش حقيقة مفادها (لديّ الإمكانية كي أصنع الفن حيثما كنت).

الرفوف والمشاجب وأحواض الحمامات وكل المواد أصبحت في متناول يدي الفنان، طالما أن المادة تمثل شيئاً (عن المكان الذي تكون فيه، فأناً دائماً أستجيب للبيئة التي تحيط بي).

بدأت بلاده تخطيط الأراضي ومسحها، وأقامت فيها شبكة ضخمة من المواصلات والبنية التحتية الحضرية، كما بدأ كاظم بمسح تجاربه الشخصية الذاتية، ففي عمل مبكّر عنوانه (سيرة ذاتية1)/ 1997؛ قاس الفنان طول وعرض أجهزة المنزل، وخلق مسودّات معمارية مشوّهة مبنية على ذكريات طفولته، وقد كتب مرة: (أردت الوصول إلى بعدٍ آخر من خلال اللا دقّة، وهو ما مكنني من التعايش مع أشيائي)، وقد جاءت سلسلته التصويرية (لسان)/1996؛ تمثيلاً لهذا المسعى، فمن خلال إلصاق لسانه بأغراض منزلية مثل أباريق الماء والأنابيب حقّق كاظم اتحاداً جسدياً مذهلاً مع العالم الخارجي، وبعد عام شرع الفنان بالعمل على سلسلة (صور مع الأعلام)/1997 – 2003؛ وفيها نراه وحيداً في صحراء الممزر وقد أدار ظهره للكاميرا، وإلى جانبه أعلام مغروسة في الأرض، في إشارة إلى مواقع محتملة للتنمية الحضرية مستقبلاً.

بلا مواربة يصرّح الفنان (محيطي هام جداً لأعمالي)، ولا يعني ذلك أن فنّه يصب في الأنا، أو أنه مجرد انعكاس لذاته، بل إن توثيق الفنان لجسده وانشغاله بالإحداثيات يتجاوز القيود المادية أو الحقائقية، وهو ما يمكّنه من جعل العالم وطناً، سواء كان بين اليومي الشعبي، أو في مدن الإمارات الصحراوية المستقبلية، أو كان تائهاً في بحر الخليج الأزرق.

يعود كاظم إلى العمل على مونتاج الفيلم، منيراً السماء لتبدو كما هي في الطبيعة، وبينما يعيده مشروعه الأخير إلى البحر، فإنه – وهو الفنان الناضج – لن يضيع فيه مرة أخرى، (أرغب بقياس الأمواج الصغيرة التي أراها على الشاطئ.. أرغب بقياس تجربتي الخاصة باستخدام أمواج البحر).