من الممكن أن تنتج الصور عن تراكمات عدّة بدلاً من أن تكون نتيجة وحي منعزل، فالخرائط مثلاً مُنقّحة ومُعاد رسمها بحسب الاستعمال، في حين أن الأيقونات الدينية قد تتطور وتتغير هي أيضاً مع الزمن. من هذا المنطلق؛ لعلّ الرسام الهندي غلام محمد شيخ يعتبر الصور مزيجاً بين المادي والباطني. التقينا هذا الفنان في هونغ كونغ في ردهة للفن التشكيلي وسط المنطقة المركزية التي شاء القدر أن تكون الزاوية الهادئة الأقرب إلى معرض الصور الذي يستضيف أول عرض فردي له في المنطقة. فوصف لي شيخ ممارسته الاقتباس، وإعادة استخدام صور مستقاة من تواريخ عديدة للفن، كذلك من أرشيفه الخاص، بالإضافة إلى عمليات التقليب التي تخضع لها الصور عند تحويلها عبر الإعلام.
ولد شيخ عام 1937 في كنف عائلة غوجراتية مسلمة في الهند قبل التقسيم، ونال ماجستير آداب في الرسم من جامعة بارودا، ثم في ادودارا في مهاراجا ساياجيراو في الستينيات قبل أن يواصل دراساته في الكلية الملكية للفنون في لندن، وقد كان أستاذاً في الرسم في مدرسته الأم، وألقى محاضراتٍ حول العالم، كما اشتهر في غوجرات بشعره ونثره، لذا تساءلت عما إذا كان عليه تبرير فنه متعدد الوجوه في عالم غالباً ما يتعطش إلى الدقة، فأجابني مبتسماً: (لم أحتج قط لتوضيح فني لأن هذه هي تركيبته. ليست مسألة تفضيل عنصر على آخر أو مقارنة أمر بآخر. بل إنها متشابكة ببعضها لتشكل وحدةً متكاملةً. وهكذا هي حياتي).
تحدّث شيخ بولع حقيقي حول مسائل كونية كبرى سواء الفن أو الحياة، ولتطوير فنه؛ غالباً ما شدّد على تعددية البيئة التي نشأ وترعرع فيها، حيث “معنى (الواقع” يفوق من بعيد العالم الدنيوي)، حسبما صرح في أكاديمية شانديغار لاليت كالا عام 2001.
وتشهد لوحاته على صحة التوفيق بين الدين والفلسفة، وتجمع مراجع من تقاليد متنوعة في فن الرسم، لا سيما الفن السييني والموغالي، كذلك صور ورسومات شخصية من وسائل الإعلام دائمة الانتشار. فبالرغم من تنوع المصادر، ولجوء شيخ مؤخراً إلى صور ممسوحة رقمياً، ومطبوعة وملصقة، ثمة إغفال متواصل للزمان والمكان الخطي في عمله، ولعلّ هناك ميل إلى تشابك الأحداث الخارقة أو الميزات الأسطورية مع الأحداث ذات المعنى الاجتماعي والشخصي، مثل أعمال شغب غوجرات للعام 2002.
وبدأ شيخ يقتبس من أولى أعماله، وكما سبق وقلنا؛ اتضح أن نقله الصور عبر الإعلام قد أفسح مجالاً لتحويل الصور المفردة بشكل محتوم، مولِّداً سرديات جديدة.
بالحديث عن لوحته الإبداعية ("العودة إلى الديار بعد غياب طويل)/1969-1973؛ بعد عودته من لندن إلى الهند عام 1969، أوضح شيخ: (ليس أننا لا نرجع إلى الأشياء… فالعملية ليست واعيةً تماماً، ولا حتى لا واعية إطلاقاً. بل ثمة مراحل للعمل، فاللوحة لا تُنجز في وقت واحد، بل تستغرق فترةً من الزمن، وبذلك؛ لا نرسم نوعاً واحداً من اللوحات، بما أن الزمان يتغير، نحن نتغير، والعالم يتغير، ومن ثمّ نقرّر). يتضمن العمل النهائي مواضيع من الرسم الموغالي، وصورةً للنبي محمد على حصان من لوحة فارسية في المكتبة البريطانية، وصوراً ملائكية ًوصفوفاً ذات زوايا من المنازل، تذكرنا بالرسم السييني في القرن الـ14، وصورةً لوالدة الفنان مُعاد رسمها من صورة بالأسود والأبيض.
بالعودة إلى العام 2008؛ أوضح شيخ كيف أن الاقتباس قد يشخّص القصص، موسعاً في الوقت عينه القصة الشخصية حتى تبلغ مزيداً من المواضيع الكونية. (قلب الواقع والخيال رأساً على عقب… فالعالم الدنيوي للسيرة الذاتية يتحول إلى سيرة أوسع متوفرة للآخرين).
فيما يعرّف عن ذاته كرسّام منذ منتصف التسعينات تحديداً؛ شرع شيخ يستكشف صيغاً تقدّم صوراً وقصصاً متعددةً، بما فيها سلسلةً من كتب كونسرتينا المرسومة، فقد عمل على أول كتاب من هذه المجموعة،(كتاب الرحلات)/ 1996-2007؛ في فترات متقطعة على مدى 10 أعوام، وجاء ليدمج التصوير المأخوذ من وسائل الإعلام، مثل رسومات الاختبار النووي في الهند في بوخران المعزّزة بمناظر من العمارة الإيطالية، ومشاهد يومية من منزله في بارودا. وقد وصف العمل كتاريخ شخصي يعكس الأزمنة التي عاش فيها، لا بل أيضاً كعملية (إعادة هيكلة الذاكرة). من هنا يمكن القول إن الاقتباس والتخصيص أشبه بتملك على الحاضر، أو عمليات (تعريف عن الذات).
وفي سياق بحثه عن صيغ عمل جديدة؛ وقع أمام ناظريه "kaavad " في متحف الأشغال اليدوية في نيودلهي، وهي عبارة عن أضرحة خشبية متحركة يستخدمها روائيون متجولون في راجستان. أبوابها المنزلقة المفصلية مرسومة بسلسلة النسب والأساطير التي تسجل وتعيد إحياء حسّ الهوية. في بادئ الأمر؛ عمل شيخ في هذه الصيغة التقليدية الصغيرة المصصمة ليس بهدف العرض فحسب، بل لتكون سهلة التناول. يبلغ ارتفاع (kaavad الرحلات/2002-2004؛ 40 سم، وهو يعكس الهجرة والتنقل، بارزاً خرائط ميركاتور المحاطة بسفن شراعية متعددة الألوان على لوحات يمكن فتحها لتكشف عن أراضٍ مبهمة، لا بل أيضاً عن حيوانات وأشكال من الحكايات الإسلامية.
في تصريح يذكِّر بكبير الشاعر الصوفي في القرن الـ15 (وأحد مواضيع شيخ المفضلة) الذي أثار الجدل حين زعم أن السماوي موجود في الحياة اليومية وليس في الطقوس التزهدية، قال شيخ: (في الحقيقة تبحث صيغة kaavad عن معانٍ بديلة لتستقي حسّ الروحانية من الممارسات الدينية المنظمة وتنقلها إلى العالم الدنيوي).
بالنسبة لـ (Kaavad الضريح المسافر إلى الديار)/ 2008؛ الذي يُعتبَر أحد أعمال شيخ الأكثر طموحاً حتى الآن؛ عمل شيخ مع فريقٍ لبناء ورسم kaavad على طول مترين، يستطيع المتفرج التنزه فيها، وعلى كافة جوانب أبوابها المثنية وكذلك سقوفها؛ رسمت صور حجمها قريب من الواقع لشخصيات دينية، وشخصيات شعبية، فضلاً عن كبير وغاندي جالسين معاً متحديين الانقسامات الزمانية والمكانية والثقافية. ولاختيار صور متنوعة، صقّل شيخ كتباً في مكتبته، مكبّراً أحياناً صور أشخاص كانوا صغار الحجم في الأصل، عبر مادية الرسوم الزيتية والمكان الهندسي.
وعندما سئل كيف يعمل برأيه هذا الأسلوب الحديث، وممارسته الأوسع في مجال الفن المعاصر، أجاب: (أرى ترابطي مع ذلك نوعاً من الانخراط في التاريخ. لا أستخدم الفن التقليدي… بل أستخدم جزءاً من التاريخ. ثمة اليوم الكثير من الفنانين الذين يستخدمون التاريخ، تاريخهم الخاص كذلك ماضيهم. من هذا المنطلق، نحن لسنا بعيدين عما يحصل. الآن؛ كيف أتعاطى مع ذلك التاريخ؟ يجب النظر إلى ذلك في زمننا. إنني مهتم بإنشاء صلة بين kaavad وزماننا الحالي). إن هذه الرؤية المشكالية التي تشمل العالم المحلي والعالمي والشخصي؛ لا تتحدث عن حاضر معقد فحسب بل عن تعقيد الثقافات البشرية التي شهدها التاريخ أيضاً.