طوابق أربع هي بيت – استوديو الفنان دينه كيو لي، وهو يبعد 25 دقيقة عن قلب مدينة هو تشي منّه الفيتنامية، وعلى بعد 5 دقائق سيراً على الأقدام من بيت عمته التي علمته تقنية نسج الحصير التي لا يزال يستخدمها حتى اليوم في الصور التي ينسجها.
قبل نهاية الحرب الأمريكية على فيتنام في 1975؛ كانت هذه المنطقة تحت سيطرة الشيوعيين، وكانت خطرة للسكن، لكنها منذ 15 عاماً كانت منطقة للأراضي الرطبة وحقول الأرز، لكن بعد حمّى البناء تحولت إلى مناطق سكنية تدرجت من المناطق الأكثر ثراء، وقد اشترى دينه كيو لي قطعتي أرض فيها منذ 9 سنوات، وعمل مع مهندس معماري على تصميم بيت، وبينما كل الأبنية في شارعه زاهية الألوان ولها شرفات، إلا واجهة بيته فهي بسيطة إلى أقصى حد ممكن، ولها نوافذ بسيطة المظهر ذات قرميد أخضر.
في الليلة التي سبقت وصولي أمطرت السماء بغزارة، وتسببت الأمطار بفيضان المدخل الرئيسي، وجعلت الصباح حاراً ورطباً، كما هو الطقس عادة في فصل الأمطار في شهر تموز/ يوليو. عندما دخلت المبنى استقبلتني تماثيل آلهة قديمة على طرفي المدخل الضيق، والتي تبدو وكأنها تلاحقنا ونحن ندخل المرآب، تماثيل بوذا بالتحديد موجودة في كل زاوية، وإلى يميني يوجد تمثالان حجريان راكعان ومغطيان بعناية بالزخرفة الصينية، لكن في بقية مساحة المرآب مزيجاً من الصناديق المتراكمة فوق بعضها واللوازم المبعثرة، وتحت ذلك الركام توجد طاولات عتيقة، وجرار مزخرفة، وكنوز أخرى لا يتوقعها المرء.
يقع مرسم لي بين غرفة لا يمكن رؤية بابها بسبب كثرة الأشياء المتراكمة، لكن قبل أن نتمعن في مكان عمل لي بشكل أعمق، كان لي متحمس ليريني في الطابق العلوي مجموعة التحف، نصعد إلى الطابق العلوي ويحذرني أن هناك فوضى في كل مكان، فقد كان مشغولاً جداً بإتمام أعماله الحالية قبل أن يسافر ليحتفل مع والدته في عيدها الـ80 في كاليفورنيا حيث تسكن عائلته منذ عام 1978، وقتها كان له من العمر ذ0 أعوام، وإلى اليوم يجد ذاته على مفترق طرق بين تربيته الأمريكية وتراث الفيتنامي معاً، وهما اللذين ألهماه في النسج الدقيق للصور، ذلك النسج الذي يجمع صور الحرب الأمريكية – الفيتنامية التي قدمها بداية كطالب دراسات عليا في مدرسة الفنون المرئية في نيويورك.
الهوية والذاكرة والتاريخ مفاهيم طالما أثرت على أعمال لي، خاصة منذ عودته إلى بلده فيتنام عام 1996 حيث أصبح تأثيرها أكثر حدة، ومن بين إخوته الـ5، هو الوحيد الذي عاد ليعيش في فيتنام، ومنذ عودته بدأ يجمع كل ما يقدر من التحف الفيتنامية ربما ليتصالح مع ماضيه وليبحث عن أساس لبيته، وسرعان ما تحول إلى هواية تجميع التحف، وبات الفنان المتمعن في التاريخ مثلما نراه اليوم.
أعلى السلالم نصل إلى ممر يربط المطبخ بغرفة الجلوس، هناك على الحائط لوحة منسوجة من سلسلة لوحاته الشهيرة (من فيتنام إلى هوليوود)/ 2003 -2005؛ وفي تلك المجموعة يضع لي جنباً إلى جنب صور المصورين الصحفيين مع صور من أفلام هوليوود عن حرب أمريكا في أفغانستان، خالقاً مواجهة وتحدياً لفكرة تصوير الصراع بحد ذاتها.
بعد عبور الممر دخلنا من الأبواب الفرنسية الزجاجية إلى غرفة جلوس واسعة حيث يحب أن يقرأ ويبحث، كانت بمثابة متحف للآثار الفيتنامية، حيث قطعة من سطح معبد فيتننامي- صيني مهدمة موضوعة إلى جانب المدخل، وهناك أيضاً خزانتان تزينتان الجدار الأيسر فيهما تحفاً خشبية داكنة اللون، كما يعرض بأناقة أكثر من 200 قطعة سيراميك، وعن القطعة التي قد تبدو عصرية لكنها تعود إلى فترة حكم سلالة لي التي ازدهرت في القرنين الـ11 والـ12 تحدث بحماس، كما أخبرني أنه يقضي ساعات في متاجر التحف في شارع لي كونغ كيو وسط المدينة باحثاً عن هذا الكنوز العتيقة، وفي الجهة الأخرى من الغرفة أخبرني قصة تماثيل بوذا الخشبية الثلاثة الواقفة قبالة الحائط، والتي دفنت بعد أن سلب مملكة فونان جنوب فيتنام من قبل مملكة تشامبا منذ 1500 إلى 2000 عام، مضيفاً أنه يحب أن يعمل وهو محاط بأعمال جميلة.
يملك لي قدرة على معرفة تاريخ وذاكرة كل قطعة، وهذا دليل على عبقريته السردية التي تتجلى بوضوح في أعماله، أكوام من الكتب والأوراق مبعثرة فوق الطاولة العتيقة، ومن ضمنها 3 أكوام من الصور الباهتة باللونين الأبيض والأسود تعود إلى فترة ما قبل الحرب الأمريكية على فيتنام.
عندما عاد لي إلى وطنه حاول عبثاً أن يجد صوراً لعائلته، بعدها اشترى 8 صناديق مليئة بصور ناس غير معروفين، واستخدم 1500 منها في حياكة حصير الحائط (موت كوي دي فو)/1998؛ وعلى ظهر كل صورة يظهر اقتباس من عمل أدبي فيتنامي شهير، هو قصة كيويه لنغيون دو، أو من مقابلات مع أمريكان من أصل فيتنامي حول الحرب، أو من رسائل كتبها الجنود لزوجاتهم، ومؤخراً استخدم عدداً من الصور في عمله (إيريجر)/ 2011؛ وفيه صور مبعثرة فوق سفينة.
مما وجده لي خلال بحثه عن التحف القديمة يؤكد لنا أن أعماله تغدو توثيقية أكثر فأكثر، وقد ساعد معرضه (ضوء واعتقاد)/ 2012؛ في إنتاج فيلم فيه مقابلات مع فنانين فيتناميين كنوا قد أُرسلوا إلى المعارك، ليتماشى المعرض مع الفيلم، وقد استخدم لي الفحم والألوان المائية لرسم الفنانين- الجنود، وكي أرى تلك الرسومات فردها بعناية، إذ كانت ملفوفة بين طبقتين من الجرائد الفيتنامية المتهالكة التي تعود إلى التسعينيات، وهي تحمل مشاهد قاسية لممارسات الميليشيات في الكهوف وللجنود الفيتناميين، وسوف يتم عرض تلك الصور في مهرجان كارنيجي الدولي 2013 في مدينة بيتسبرغ بداية تشرين الأول/ أكتوبر ، حيث يعتبر (إيريجر) و(ضوء واعتقاد) شاهدان على التزام بالحفاظ على المعرفة المباشرة عن الحرب، ثم شرح لي أن معظم الفيتنامين تعبوا من دراستها، وهم يفضلون المضي قدماً في ظل تشديد الحكومة الحالية قبضتها على المعلومات المتوافرة، وتقديم نسخة مشوهة للحقيقة تتناسب مع التاريخ كما تراه من وجهة نظرها.
تلك هي الأفكار والموضوعات التي تشغل بال لي كلما بدأ بحياكة صوره في مرسمه بالطابق السفلي، وقد تتطلب حياكة الصور وقتاً طويلاً تبعاً للعمل ذاته، حيث ليس هناك مساعدين له، فهو كما يقول يمقت الاشراف على الآخرين، ولهذا فإن مرسمه هادئ، ويؤمن له جواً مناسباً للتأمل بأعماله القادمة، فعادة يعمل ليلاً من الساعة الـ8 مساءً وحتى الـ3 فجراً، وأحياناً حتى الـ4، لدرجة أن الجيران كان يعتقدون أنه مجنون، حيث يسمعونه يغلق بوابة بيته في ساعة متأخرة جداً من الليل.
في المرسم كان لي بصدد حياكة ورق الصور الفوتوغرافية اللامع ليختبر تأثيره في مشروعه الحالي، فيضع أسفل الحصيرة المنسوجة شرائط سوداء وبيضاء من الورق، ثم يسحب الشرائط إلى داخل الحلقات بيده بداية، ثم يلصقها في مكانها، وتحضيراً لمعرضه الجديد، بدأ لي بإنتاج سلسلة تشمل معالجة 4 صور من الحرب، مطبوعة مباشرة على ورق صور فوجي كبيرة الحجم، وقد قضى الليلة السابقة وهو يختار الصور التي سيضمنها في معرضه، ومن ضمنها صور شهيرة لمالكوم براون عن ناسك بوذي فيتنامي حرق جسده في الشارع عام 1963، وهي صورة نقلها إلى قرص ليطبعها في محل تصوير في المدينة.
لاحقاً ألقينا نظرة على الصور الـ4 الموجودة على كمبيوتره، وكانت أول معالجة للصور كما شرح من خلال حياكتها مع شرائط RGB، وستكون الخطوة الثانية من خلال مطمطة الأبعاد والألوان في الصور باستخدام برنامج الفوتوشوب، بعدها تتم الطباعة على ورق الصور الفوتوغرافية بطول 50 م، وما سيتم لاحقاً تعليق الصورة لتتدلى من السقف. كما ينوي فرد لفافات ورق الصور الحساسة للضوء في ذات مكان الصور الأصلية، لتتعرض للضوء ومن ثم تسودّ، وعلى الرغم من ذلك ستعرض آثار الصورة الأصلية ومصدرها الأصلي في فيتنام، وسوف تعرض هذه الأعمال في صالة إيليزابيث لييتش في مدينة بورتلاند بولاية أوريغن نهاية شهر أيلول/ سبتمبر.
إن مشروع لي فكري إلى درجة أنه يصعب عليه أحياناً توصيفه، ولكن هذا النوع بالضبط من البحوث ومن التفكير النظري الذي تعلمه جزئياً من دراسته في الولايات المتحدة؛ هو ما يريد تشجيعه في أعمال الفنانين الفيتناميين الشباب الذين لم تتح لهم الفرص الكافية، ويعانون من الرقابة الذاتية، وهو الذي ساهم عام 2007 في تأسيس صالة سان آرت في هو تشي منّه لدعم الفنانين الشباب بداية حياتهم الفنية، ولاحقاً نجحت الصالة في تنظيم برنامج إقامة للفنانين، وفيه يتم اختيار 3 فنانين شباب كل 6 أشهر لمساعدتهم في تطوير مشروع فني، وفي هذه الأيام الفنانون الشباب محظوظون بوجود ذلك الإشراف الفني من لي الفنان المرموق، وبزيارة بيته – مرسمه سيكتشفون مصدر إلهام في كلامه، وربما أيضاً من تماثيل بوذا القابعة إلى جانبه.