مثل معظم بلدان الشرق الأوسط؛ الإمارات العربية المتحدة هي مرتع للمفاهيم الخاطئة، فتختصر عادة بمشروعات البناء، والنزعة الاستهلاكية المحمومة، وتفشي مفهوم أن المال يشتري كل شيء.
الدولة تعاني من فكرة مسبقة، وهي أن الثقافة – بما في ذلك الفن المعاصر- ظهرت فيها فجأة من العدم، وانتشرت على خريطتها المترامية الأطراف منذ عقد من الزمن، وعلى الرغم من محاولة العاصمة أبوظبي التودد لمراكز الفن الغربي العملاقة، مثل غوغنهايم ومتحف اللوفر، وحثها على فتح مراكز في جزيرة السعديات، إلا أن كل هذا لم يفعل شيئاً يذكر في مواجهة تلك الكليشيهات.
لفترة وجيزة في عام 2011 ظهر واقع مختلف في معلم واحد، ومعرض حسن شريف (تجارب وأشياء)/ 1979-2011؛ لم يكشف فقط عن تطور الفنان الإماراتي الرائد خلال عقود طويلة من التحولات والانعطافات لصنع الفن المعاصر، بل وضعت أيضاً أبوظبي في دائرة ضوء ثقافية جديدة بطريقة متميزة عمّا يُنتظر من المتاحف وعروضها الضخمة والفخمة.
بإدارة هيئة أبوظبي للثقافة والتراث سابقاً؛ كان مشروع (تجارب وأشياء) منارة للمشهد الفني آنذاك، وتزينت مساحات شاسعة مجددة حديثاً في قاعة الحي الثقافي في قصر الحصن الواقع في المنطقة التاريخية في إمارة أبوظبي بـ30 عاماً من تجارب شريف من الأعمال الأولى، من الصحراء إلى كتل مجمّعة من المخلفات الاستهلاكية التي أصبح شهيراً بها.
وأخيراً تم وضع مضمون للقب الفخري (الأب الروحي للفن المعاصر الإماراتي)، والاعتراف لشريف أنه تحاور طويلاً مع مفاهيم الفن الحديث في غياب تام للوجود المؤسساتي. إن الحجم الهائل والتنظيم الدقيق في (تجارب وأشياء) تفوّق على معظم المعارض السابقة في العاصمة، وقد وازى تركيزه المحلي معارض الكنوز الدولية التي تفضّلها المتاحف الوليدة، وكانت لحظة فاصلة لكل من الإمارات والفنان الذي اكتسب مصداقية جديدة وعميقة للهوية المحلية لفنه.
نُظِّم معرض (تجارب وأشياء) بمشاركة مساعد شريف الفنان محمد كاظم والمؤرخة كاثرين ديفيد الشهيرة في دوكيومنتا 10، وكان في المعرض أكثر من 150 قطعة من المنحوتات والإنشاءات، ومشروعه أن يقدم إلى الصدارة البعد التجريبي في اثنين من التيارات المميزة لأعمال الفنان، وهما بالتحديد التجربة والأشياء.
تغطي التجارب أعمال شريف المستوحاة من الفلاكسوس – أي التغيّر والتدفّق – بدايات الثمانينيات، وهي عبارة عن حركات بسيطة مملة وموثقة بالصور، قُدِّمت بداية في لندن حيث كان شريف يدرس في كلية الفنون، ولاحقاً قُدِّمت في صحراء دبي أعمال مثل (المشي 1)/ 1982؛ ثم (إلقاء الحصى)/ 1983؛ وكلاهما رسّخا استخدام التكرار والتفاهة والعبثية بطريقة فنية أصبحت بصمة شريف، ولعل أحد الأعمال البارزة الحميمية والغريبة (شعر وقارورة حليب)/1984؛ وفيه ينتزع الفنان من تحت سرواله شعراً من عانته ويضعه في زجاجة تم إغلاقها بعد اكتمال المهمة بنجاح.
مردِّداً زعم عدم جدوى "تجاربه"؛ وصف شريف “أشياءه” التي بدأت عام 1984 بأنها طريقة لتوضيح اللامعنى معتمداً فلسفة مارسيل دوشامب، وقد كانت أشياؤه مصنوعة من مواد شائعة، وقطع مربوطة أو مرتبطة ببعضها بحبل أو بسلك، وبالتالي مجردة من وظيفتها الأصلية، فتجمعت لفافات مثل الأمعاء من جريدة 1)/1984، أو حلقات مفتولة من جوت وقماش وحبل/ 1985؛ على رفوف زجاجية في قصر الحصن، إلى جانب أشكال مشابهة بذات التقنية مصنوعة بمساعدة الآلة، مثل كرتون مثقّب في أكياس بلاستيكية/1986؛ داخلها ورقاً مقوى مثقوباً بثقّابة.
سلسلة مركزة من “الأشياء” من منتصف التسعينيات تبدو مختلفة إلى حد ما، وبعيدة عن مجموعة الكتل التي نراها من الثمانينيات، وبقدر ما تبدو هذه الأخيرة مختلفة أيضاً عن مجموعة الحطام والنفايات التي تلت فترة منتصف التسعينيات، وفي هذه المجموعة نشاهد أكواماً من الأشكال المضفورة التي تبدو قضيبية مقيدة بشدة بأسلاك، كما في جوت وأسلاك/ 1996؛ وقطن وأسلاك/ 1996؛ وهما عملان يوحيان بتوتر جنسي وعنف كامن.
مثلما مزقت ثقافة المستهلك الإمارات بسرعة فائقة؛ كذلك غدت الأسواق تعج بالسلع الرخيصة من السوق التجارية العالمية، بينما جلس شريف بأناة ليقوم بالغزل والنسج والطوي والحياكة، وبمشقة كان يحيك بعناية عصيّاً ونفايات الحياة اليومية من صناديق كرتونية، وأكواب بلاستيكية، وصحون معدنية مصنّعة في الصين، ودلاء مطاطية مصنّعة في إيطاليا، وملاعق ستانلس ستيل، مواد مصنوعة من المادة الرغوية، فيحولها إلى أشياء يتطلب صنعها الكثير من الجهد، ومع أنها أشياء جامدة لا وظيفة لها ولا نفع، لكنها تعبر عن سخريته الصارخة.
الكومة الشاهقة من الجوت والأسلاك/2009؛ كانت المحور متعدد الألوان في معرض (تجارب وأشياء)، وتطغى على أكوام الورق المقوى الملتوية الأكثر هدوءاً التي كانت تملأ المكان.
بينما جعل معرض (تجارب وأشياء) القراءات الجديدة للأعمال الفردية ممكنة ضمن المدى الواسع لأعمال شريف؛ فإنه أثار كذلك تساؤلات حول الجمهور في الأيام الأولى من إنتاجه الفني، عاقداً العزم على الانخراط مع الشباب الإماراتيين القادرين على رؤية ما وراء التقاليد السائدة للفن الإماراتي بداية الثمانينيات، وشريف يضمّن عمله خفية حس استفزاز، وكأنه نوع من دعوة ماكرة للمبتدئين، فقد كانت واضحة وجهة نظر شريف حول الخمول في عمل مثل (الطاولة)/1985- 2008؛ الذي يغري المشاهدين بالانحناء وجس بطن الطاولة المحشو بكرات القطن ذات الملمس الذي يشبه ملمس الوسادة، وقد كان في ذلك إشارة إلى إستراتيجية ماكرة لإشراك زائري المعرض.
من التناقضات المريرة التي يعاني منها الفنانون الإماراتيون هي أنهم غالباً ما يتمتعون بقدر أكبر من الشهرة في الخارج مقارنة مع بلدهم، وفي ضوء ذلك يأتي (تجارب وأشياء) ليكون أول معرض لفنان محلي ينُظّم وفق معايير عالمية، وبالتالي فهو سابقة واعدة ومطمئنة، وبينما تتحسن البنية التحتية للمتاحف في جزيرة السعديات ببطء؛ فإن مساهمة (تجارب وأشياء) كمعرض لفنان محلي هي الأكثر أهمية والأكثر طموحاً حتى اليوم في دولة الإمارات العربية المتحدة.
إن الجسور الثقافية التي تبنيها أبوظبي مع العالم محصنة بالمصداقية الفنية المحلية، وقد أسهم عمل حسن شريف (تجارب وأشياء) ببناء تلك السمعة إلى حد كبير.