دائماً كانت طوكيو مناسبةً كي تلعب دور المركز الرئيس لعالم الفن الآسيوي، لكنها الآن لم تعد في ذلك الموقع، إذ تقدمت عليها في العقد الماضي كل من بكين وهونغ كونغ وسنغافورة.
كان ضعف دور طوكيو – بكل أسف – بسبب ظروف سيئة كبحت السوق المحلية، فلا شك في أن الاقتصاد الياباني عانى من الركود منذ تسعينيات القرن الماضي، ولكن الضرر الأكبر كان سببه شح الدعم الحكومي للفن المعاصر، فهناك عدد كبير من الأفراد اليابانيين الأغنياء، لكن لا يوجد في المجتمع الياباني التقليد الموجود في الغرب؛ حيث يوجد رعاة ومتبرعون يجمعون الآثار الفنية، ويقدمونها هدايا للمتاحف، بالإضافة إلى الافتقار للإعفاءات الضريبية لمساعدة السوق الضعيفة، في حين أن الإيجارات المرتفعة في مركز طوكيو تجبر صالات العرض أن تكون في الأطراف أي خارج المدينة، وأخيراً وليس آخراً؛ فقد ساهم الميل الثقافي إلى التواضع بدلاً عن تعزيز الاعتداد بالنفس في بقاء طوكيو ذات حضور ضعيف في المشهد العالم، ومع ذلك؛ وعلى الرغم من الظروف السيئة إلا أن مشهداً معاصراً قوياً بدأ يتشكل في تسعينيات القرن الماضي، حيث تأسست بشكل متوالي صالات عرض كثيرة مثل: سكاي باث هاوس, تومي كوياما، تاكا إيشي، كوياناغي، ميزرما، شوغوآرت، وترافقت مع افتتاح متاحف عديدة خاصة وحكومية، الأمر الذي منح البنية التحتية إمكانات كبيرة، ومع أن المشهد الفني غير الربحي كان صغيراً؛ إلا أنه أثبت إبداعه.
ماساتو ناكامورا وبرنامج أكيهابارا ت.ف؛ المنظَّمان من قبل كوماندإن؛ عرضا فيديوهات فنية على الشاشات التلفزيونية في محال بيع الإلكترونيات عامي 1999 و 2000، وكانا رمزين لتأسيس ممارسات الفن في تلك الفترة.
كان هناك تفاؤل واضح في الألفية الثانية بأن اليابان على أبواب تجديد أهميتها العالمية، والمحافظة على خصوصيتها وسط عالم تزداد فيه الحماسة لكل الأشياء الصينية، حيث تم افتتاح مهرجان يوكوهاما (كل ثلاثة أعوام في 2001)، تلاه بعد عامين افتتاح متحف موري الخاص بإدارة ديفيد إليوت، وهو أول شخص غير ياباني يرأس متحفاً في اليابان، وكان يعتقد أن متحف موري سيكون منارة عالمية لطوكيو بذات مستوى متحف الفن الحديث في نيويورك (موما)، وتاتي في لندن، وبومبيدو في فرنسا، ومن ثم تطور الوضع مع افتتاح صالات عرض جديدة يديرها موظفون من كادر التسعينيات.
الوجه الجديد للفن الياباني المعاصر مثّله كل من: أراتانورانو، ياماموتو جينداي، تاكا نيناغاوا، ميسكو وروزين، مونجين- تو للإنتاج، أوياما ميغورو، فيما أحيا الحياة الفنية كل من: تاتزو نيش، موتو هيكوأودناي، ميساكي كاواي، شيمون ميناميكاوا، تشن بوم، كوكي تاناكا.
ومع ذلك وعلى الرغم من كل تلك المواهب المزدهرة والملتزمة؛ فقد بقي المشهد غير قادر على تحرير ذاته من الظروف الاقتصادية والسياسية التي قيدته، ثم جاء الانكماش الاقتصادي العالمي بعد عام 2008 ليقضي على الكثير من التفاؤل الذي كان موجوداً، وعلى ضوء ركود الاقتصاد الياباني منذ 20 عاماً وُصف الناقد الفني ميدوري ماتسوئي عالم طوكيو الفني كما لو أنه (ثقافة خفض سقف التوقعات)، وذلك يمثل نعمة ونقمة، فمن ناحية أولى لم يعد المشهد تحت سيطرة السوق المحمومة، فليس هناك زيف، ويوجد مناخ للانفتاح على مقاربات بديلة، والأعمال التأسيسية غير الربحية بمقدار ما هي صغيرة فهي في أوج ازدهارها، وفي الأعوام التالية أسس ماساتو ناكامورا صالة 3331 آرت تشيودا بمدرسة ثانوية في أكيهبارا، وهو يستضيف فيها نشاطات غير ربحية متنوعة، مثل مراسم فنانين، وأعمال تجارية بأسعار أقل من أسعار السوق، ومن ناحية ثانية فإن (ثقافة خفض سقف التوقعات) يمكن أن تسبب أحياناً للناس السقوط في هاوية السخرية المحزنة.
على أية حال، وفي تباين واضح، هناك الآن خارج اليابان رفعٌ لسقف التوقعات فيما يخص الإرث الفني الياباني، فسنوات من التنظيم والبحث الأكاديمي لمرحلة ما بعد الحرب بدأت تعطي ثمارها حالياً، وأبرزها معرضان سياحيان جذبا الكثير من الناس هذا العام، طوكيو/ 1955- 1970؛ فن الآفن غارد الجديد في متحف الموما، وغوتاي: مرتع بديع الجمال في متحف غوغنهايم؛ فقد كانا معرضين مهمين للغاية موضوعهما الراديكالية والتجريبية منتصف القرن، وكلاهما وضعا اليابان في مركز الحديث عن الحداثة باعتبارها ظاهرة عالمية متعددة الجنسيات، وبالمثل فإن معرض بريما ماتيريا الطموح في كونتاديلا دوناما في البندقية تناول إعادة نظر عميقة بعلاقة حركة الفن الحديث “موموها” التي ازدهرت في اليابان بـ “أرتي بوفيرا” حركة الفن الحديث التي ظهرت في إيطاليا بين عامي 1967 و1972.
إن الدراسات النقدية الجدية تحدد مسار اهتمام القيمين وتأثير اهتمام محبي الفن، كما تحدد سوق الأعمال الفنية، وفي ضوء كل الاهتمام بفترة ما بعد الحرب يمكننا الأمل بأن تبدي المتاحف الغربية اهتماماً مماثلاً بواقع الفن الياباني في الوقت الحالي، وفي هذا السياق يعتبر معرض باي باي كيتي في مجتمع نيويورك الياباني عام 2011 الذي نظمه مدير متحف موري السابق ديفيد غليوت؛ خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح، وما يزال هناك الكثير من العمل يجب إنجازه، إذ من الصعب تحديد كيفية جسر الهوة بين الشعور بالغبن الموجود داخل اليابان من جهة، والثقة من الناحيتين الثقافية والتجارية الموجودتين في الخارج، ومع ذلك يتم إنجاز تقدم ملحوظ، ويجب ألا يفقد أحد الأمل في اليابان.