P
R
E
V
N
E
X
T
Features_madesheng_01_1000

ROCKS 4 (detail), 2007, arcylic on canvas, 140 × 200 cm. Courtesy the artist and Rossi & Rossi, London.

All images in this article are courtesy the artist unless otherwise stated.


الربيع الأبدي

Ma Desheng

Features from Mar/Apr 2014
China
Also available in:  Chinese  English

كان عام 1978، وريح التغيير قد هبّت في الصين، وماو تسي تونغ مات قبل عامين من ذلك، والشعب بدأ يصحو ثانية بعد 30 عاماً من الاضطهاد الذي طال حياة أكثر من 50 مليون شخص، وعندما رفعت ستارة الخيزران هب شباب شجعان يطالبون بالحرية والإصلاح ويبشرون بما أصبح يعرف بربيع بكين. وقد جرب واختبر دينغ شياوبينغ القائد الأعلى الجديد حدود وإمكانات الإصلاح الاقتصادي وحرية التعبير، حتى أنه تساهل مع عرض الأفكار والأعمال الفنية في موقع سهل المراقبة وسط بكين، حيث جدار قرميدي طويل يمتد على طول شارع شيدان غرب ميدان تيانانمين الذي سمّي جدار الديموقراطية.

ما دشينغ الفنان والشاعر الصيني المولد كان من أكثر من يتكلم بصراحة، وأكثر الأصوات الفنية الراديكالية نشاطاً على الجدار: (كان بعض الناس يريدون الحضور إلى الجدار بعد الظهر ليتعلموا أشياء، ويتكلموا مع الآخرين)، ما دشينغ روى لي ما جرى بعد 35 سنة من ذلك في مقهاه الصغير المفضل إلى جانب مرسمه في باريس: (لكن معظمهم لم يتجرأوا على الذهاب لأنهم كانوا مرعوبين. كان المرء بحاجة إلى شجاعة حتى للنظر فيما كان يلصق على الجدار، فرجال الشرطة كانوا يلتقطون الصور. وأنا كنت أذهب كل يوم تقريباً). 

كان الناس يجتمعون ليقرأوا ويناقشوا الأشعار والمطبوعات والمقالات الملصقة على الجدار بأحرف كبيرة. والأكثر شهرة من الذين حضروا وي جينغ شينغ وعمله (التحديث الخامس)، ومثل كل الملصقات كان يدعو إلى الحرية والديموقراطية، وعلى النقيض تماماً من وظيفة واستخدام وسائط التواصل الاجتماعي خلال الربيع العربي؛ فإن جدار الديموقراطية كان المنتدى العام الوحيد للحركة الإصلاحية لتبادل الأفكار.

ما دشينغ يتذكر: (من أول الأشياء التي ظهرت على جدار الديموقراطية كان العدد الأول من مجلة جينتيان "اليوم"، حيث ألصقت الصفحات على الجدار واحدة إلى جانب الأخرى)، وقد ساعدت هذه الملصقات العامة الإصدار الافتتاحي لمجلة جينتيان في الوصول إلى جمهور واسع، وكانت حينها مجلة أدبية محدودة الانتشار، وبكل المواهب التي ضمتها أصبحت المجلة الأكثر أهمية بين المجلات بعد عهد ماو، فهي تدعم حرية الفرد في التعبير في وجه الرقابة وعلى القيود المفروضة، والرقابة على الفنون التي فرضتها الثورة الثقافية بين عامي 1966 و1976. تلك المقاربة الجريئة كانت ممثلة بمجموعة من الكتاب المشجوبين رسمياً المعروفين باسم “الشعراء الغامضون”، وتضم هذه المجموعة مؤسسي مجلة باي داو ومانغ كي.  

ROLLED CIGARETTE, 1978, woodblock print, 20 × 17 cm.

UNTITLED 1, 1979, woodblock print on Chinese paper, 22.8 × 22.4 cm.

كانت أولى ملصقات ما دشينغ على الجدار قصة (البائس النحيف) القصيرة، وهي قصة وجودية تدور أحداثها في الصحراء، وبطلها جائع بجنون ومتعطش للحرية، كما ألصق لوحتين مطبوعتين على الخشب مناهضتين للمؤسسات القائمة، وكانت تلك الأعمال الثلاثة في الإصدار الأول من مجلة جينتيان.  

إحدى اللوحات صوّرت عمّال جمع القمامة المنهكين وهم يلفون السجائر أثناء استراحة قصيرة من يوم عمل مرهق، ولوحة أخرى تصور فلاحاً يركع على ركبتيه وهو يرفع يديه نحو السماء، ويولول من البؤس: (سيقول الحزب إن الفلاحين والعمال هم الأكثر سعادة في العالم؛ وأنا أريد أن أظهر أنهم الأكثر تعاسة، وهذا الأمر صدم الناس على الجدار لأنهم لم يروا أبداً فنّاً يتناول مثل هذا الموضوع). هكذا شرح ما دشينغ مشروع لوحاته.

ولد ما دشينغ في بكين عام 1952، وبلغ سن النضج خلال فوضى واضطرابات الثورة الثقافية، حيث أغلقت الحكومة أكاديميات الفنون، واضطهدت الأساتذة والمثقفين والفنانين، والحرس الأحمر كان حركة شباب شبه عسكرية يشجعها ماو آنذاك، وكانت تدعو لإنكار الأبوين والمعلمين من أجل القطيعة مع القيم والثقافة التقليديتين، وقد أُرسل الطلبة والأساتذة بالشاحنات إلى الأرياف ليعملوا في الأرض جنباً إلى جنب مع الفلاحين أثناء حملة ماو لـ"إعادة التأهيل"، وكما فعلت بالكثير من أبناء جيل ما دشينغ فقد تركت هذه المرحلة من التدمير في ذاته آثاراً لا تمحى، وقد صحا ما دشينغ من وهم أسطورة ماو عندما رأى أعمال العنف التي يقوم بها الحرس الأحمر، وإذلال معلميه في المدرسة، وقال: (تيقنت أن ما يحدث كان خطأ). 

 (عندما كبرت تيقنت أن المجتمع ليس بخير كما كان يدّعي ماو، وفقط لأن الحزب كان يقول إن كل شيء أحمر؛ فإن ذلك لا يعني أن علينا أن نصدّق أن كل شيء أحمر. من الصبيانية والمسخرة القول إن كل شيء أحمر، إن كل شيء جميل. حتى لو رأيت لوناً آخر كان عليك أن تقول إنه أحمر). 

خلال هذه الثورة الاجتماعية في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات حافظ ما دشينغ على مظهر خارجي متحجر ومتماشٍ مع الجو العام، بينما كان في السر يشحذ حساسية راديكالية عميقة مع أقرانه الذين يفكرون مثله، وخلال الثورة الثقافية تمً انتقاد التعبير عن الذات الفنية والأفكار غير الأرثوذكسية مراراً، وحتى عوقب أصحابها بالاعتقال والأعمال الشاقة، وقد عقد ما دشينغ ودائرته من الفنانين والشعراء لقاءات سرية في سقائف شقق على ضوء خافت، وجو مليء بالدخان.  

 (أخفينا أعمالنا في منازلنا) قال ما دشينغ، و(عندما كنا نجد فتيات يَقْبَلن أن يكن موديلات عارية للرسم كنا نضع ستائر سوداء على النوافذ بحيث لا يستطيع أحد أن يرانا، وإذا قرع الباب كانت الفتاة تسرع لارتداء ملابسها). علت خديه ووجهه الوسيم ابتسامة عريضة، وفجأة انقبضت أساريره، وأضاف: (عشنا تحت خوف دائم، وضغط أخلاقي، خوف من أن ننتقد ونعتقل).

مثل الكثيرين من زملائه الفنانين؛ كان متلهفاً للتمرين الممنهج الذي حُرِّم بسبب إغلاق الثورة الثقافية مدارس الفنون، ولو أنه حصل على شهادة دراسة عليا لكان من الممكن أن يكون له وضع مقبول في العمل الفني الرسمي، ففي عام 1977 تقدم للأكاديمية المركزية للفنون الجميلة في بكين التي أعيد تأسيسها مؤخراً، لكنه رُفض، وأوضح ما دشينغ: (أحد أسباب الرفض كان بسبب إعاقتي “شلل الأطفال تركه يمشي على عكازين”، والسبب الآخر لأنني كنت ليبيرالياً جداً في أفكاري). بتصميم وثقة بقدره كفنان اعتمد ما دشينغ على خلفيته كرسام صناعي في مصنع للماكينات، حيث كان قد عُيّن منذ عام 1971، واستخدم مهاراته الدقيقة التي اكتسبها هناك لتعزيز تطوير موهبته كفنان طباعة خشبية. 

 (أتذكر ذهابي إلى المكتبة لأحصل على كتاب فن)؛ قال ما دشينغ وأضاف: (نظر الرجل العامل في المكتبة إلى بطاقة عملي، ورأى أني أعمل في المصنع، فأبلغني أني كوني عاملاً علي ألا أهتم بالفن، ورفض أن يعيرني الكتاب. غضبت غضباً شديداً، وقلت له: ماذا لو منع ماركس من قراءة الكتب التي أراد أن يقرأها؟، أجاب الرجل: حسنٌ، هذا يخصّ الغرب، ونحن هنا في الصين).

 ضمن مجموعة لدراسة الفن في المركز الثقافي الشعبي للعمال قابل ما ديشنغ فناناً يتعلم ذاتياً اسمه هوانغ روي، وعلى الفور نشأت بينهما صداقة، وهوانغ الذي كان مسؤولاً عن التصميم في مجلة جينتيان قدّم ما دشينغ إلى محرري المجلة والمساهمين فيها.

Ma Desheng and the members of the Stars Group gathered on the balcony of the National Art Museum of China, 1980.

POPSICLE VENDOR, 1980, woodblock print, 40 × 34.5 cm.

بدأ ما دشينغ وهوانغ نهاية 1978 وبداية 1979 بزيارة منازل الفنانين الذين يشاركونهم أفكارهم، زيارات غير رسمية من أجل مشاهدة أعمالهم، وقرروا معاً تشكيل جماعة فنية من أصحاب العقول الإبداعية الذين يجرؤون على عرض أعمال فنية فردية غير واقعية في الأماكن العامة ومجاناً، تقف مباشرة ضد الفن الدعائي الرسمي الذي يرعاه الحزب، وقد نجحا في جمع حلقة غير معروفة من الفنانين الذين عرفوا لاحقاً باسم جماعة شينغ شينغ (النجوم).

قال ما دشينغ موضحاً التصور الذي كان وراء اختيار اسم الجماعة: (عندما كنت شاباً كان هناك نجم واحد في السماء، هو الشمس الحمراء ماو تسي تونغ، فيما العديد من النجوم تعني العديد من الناس، إذ كل فرد هو نجم). بحلول عام 1979 تمكنت تلك المجموعة من عمال المصانع ذوي الملابس الرثة المتسلحين بفراشي الرسم وبأزاميلهم وذكائهم؛ من تحدي أجهزة الرقابة الحكومية، وتغيير مسار تاريخ الفن الصيني، ومساعدته ليكون في مكان الطليعة والمسار المعاصر. (بداية أخفينا أفكارنا وأعمالنا، وبعدئذ بدأنا نتشارك بها مع العائلة، ثم مع الأصدقاء المقربين، وعلى الفور جازفنا بعرضها في مكان العمل، وبعد ذلك نقلناها إلى الشارع. نعم الشارع) قال ما دشينغ مع ابتسامة حارّة. أسست جماعة النجوم جدارها الخاص في بكين، وكان مكرساً حصراً للتعبير الفني الحر. 

بتحدٍّ علقوا لوحات معرضهم الأول في أيلول/ سبتمبر  عام 1979على السياج خارج صالة الفن الوطني التي أصبحت الآن متحف الفن الوطني الصيني، وذلك في الوقت الذي كان ينظم فيه داخل المؤسسة برعاية الحكومة معرض احتفال الفن الدعائي في الذكرى الثلاثين لتأسيس الجمهورية الشعبية.

“النجوم” كانت أول جماعة بعد حكم ماو تواجه وتتحدى النظام الديكتاتوري علناً، مبتعدة عن المقاربة الواقعية الاجتماعية في الفن الدعائي، لقد تبنت الأشكال الفنية الحديثة التي كانت محظورة سابقاً. (أعمالنا كانت مختلفة لأنها كانت ترتبط بالمجتمع عن قرب) قال ما دشينغ، وأضاف: (أردنا التعبير عن الديموقراطية والحرية، وحتى عن الجمال، ففي ذلك الوقت لم يكن الجمال مطروحاً)، وقد عكست أعمالهم حقائق قسوة الحياة اليومية، لا الحقائق الانتقائية التي كانت تقدمها آلة الدعاية في الحزب.

ما دشينغ وزميله الفنان وانغ كه بينغ ابتكرا بعض أعمال الجماعة الأكثر صبغة سياسية، فطبعات دشينغ التعبيرية على الخشب ومنحوتات وانغ الخشبية العبثية قدمتا نقداً جلياً لماو وعصابة الأربعة، وهي المجموعة السياسية التي ضمت زوجة ماو الأخيرة جيانغ تشينغ التي أدانها خلف ماو المباشر هوا قوه فنغ، وحمّلها مسؤولية التجاوزات والمغالات التي حصلت أثناء الثورة الثقافية، ومن دون تردد أو مساومة قدمت أعمال ما دشينغ تأملات عن حال الناس في ظل حكم الشيوعية الصينية، وقد تأثرت أعماله بالأبيض والأسود بفناني الطباعة الخشبية، وبأعمال لوشيون الثورجي، والفنانين الأوروبيين كاثي كولويتز وإدفار مونك.

من المؤكد كان لهم تأثير على آي ويوي العضو الأصغر في جماعة النجوم آنذاك، والذي تذكر ونحن نتناول الغداء في بكين أن أعمال ما دشينغ: (كانت قوية جداً، وذات تأثير ثوري، لقد كان بعضها شاعرياً ورمزياً).

بتباين تام مع فن الواقعية الاشتراكية الشيوعي الهابط كما في لوحات دعائية للقائد ماو وهو يبتسم، أو للفلاحين والجنود المتحمسين، المرسومة بألوان فرحة بتكليف من جيانغ تشينغ من جماعة الثورة الثقافية؛ ما دشينغ عكس ذلك كله، فاستعمل سطوحاً كبيرة من اللون الأسود الذي كان يعتبر سابقاً معادياً للثورة: (الأسود والأبيض أفضل ما يمكن أن يعبرا عن حقيقة معيشتنا. لونهم كان الأحمر، مشرق وبهيج، ونحن فضلنا الأسود والرمادي). وعلى سبيل المثال عمل ما دشينغ الفني (رؤيا)/ 1980؛ ينتقد الصورة الشخصية المنشورة للقائد ماو كأنه الشمس المشرقة تسطع على الجماهير تحته، وكأن الناس – باعتقاد ماو – أزهار عباد شمس تتجه وجوهها إلى الأعلى لتنظر إليه مشدوهة بأشعته المغناطيسية، وفي عمل ما دشينغ (رؤيا) بالأبيض والأسود الشمس تنفجر، والناس يبتعدون عنها بصمت. 

وعي ما دشينغ عن حال الفلاحين والعمال أثناء الثورة الثقافية عمّق قلقه تجاه عدم المساواة بين البشر، وفساد الحكومة التي ترعاهم، وقد عبر عن هذا الظلم في لوحاته المطبوعة على الخشب في معرضه (لتسترح)/ 1979؛ حيث صور فلاحاً تحت ضوء فضي يحرث الأرض، وأمامه ظلام كبير، إذ لا مفر من قدره الكئيب.

UNTITLED 18 (REST), 1979, woodblock print on Chinese paper, 10.9 × 30.8 cm.

في المقالة الهامة (حول المعرض الفني للنجوم) التي نشرت عام 1980 في الصحيفة الرسمية ميشو “فن” يستشهد محررها الراديكالي لي تشيانتينغ بمقولة ما دشينغ: (هناك شاهدة لمعرضي “لتسترح”: لقد جاء إلى العالم بصمت، وغادر ثانية بصمت، تاركاً خلفه ملايين النقط من العرق على الأرض). 

كل عام عندما كنت أعود إلى الأرياف، أراقب الفلاحين يقومون بأعمالهم الجسدية الشاقة والمكانيكية، فأتيقن كم هم فقراء بالمعنى المادي والثقافي مقارنة مع الناس في المدن، ومع ذلك هم لا يتذمرون أبداً، ويذهبون إلى أعمالهم بصمت. بعدئذ رجعت إلى المدينة، ورأيت كم كان هناك اختلاف حقيقي، فبعض كوادر الحزب كانوا يتشدقون دوماً عن أحوال الفقراء في الصين، وكيف أن كل واحد منهم كان يؤازرهم بالتقشف في حياتهم، لكنهم لم يفعلوا لهم شيئاً من ذلك، وحتى مع وجود الآلاف ممن ليس لهم بيوت تأويهم كان أعضاء الحزب منهمكين ببناء شققهم الشخصية الفاخرة. 

إن تعليق أعمال تنتقد صراحة تبذير الحزب وسياساته الظالمة على السور خارج المتحف الأكثر شهرة ومكانة في الصين، وبتزامن مع احتفال العيد الوطني مطلع تشرين الأول/ أكتوبر؛ كانت له عواقب جدية، حيث أمرت الشرطة بإزالة معرض جماعة النجوم، ومصادرة الأعمال الفنية بعد يومين فقط من افتتاحه، وهدد الضابط الفنانين، وطالب بمعرفة المسؤول عن المعرض، فحمل ما دشينغ المسؤولية على عاتقه فوراً، واقتيد وهوانغ إلى السجن، وفي ذات اليوم أطلق سراحهما.  

ورداً على ما اعتبرته خرقاً للقانون الذي اعتُمد عام 1978 وسمح بحرية النشاطات الفنية؛ اجتمعت جماعة النجوم سراً في بيت أحد الأصدقاء، وبدأت التخطيط لأول تجمع احتجاج شعبي ومسيرة منذ استلام الشيوعية السلطة عام 1949. كان هناك نقاش بين ما دشينغ الذي كان يؤيد بإصرار مواجهة السلطات بالتظاهر وزميله في التأسيس هوانغ الذي كان يخشى من عواقب وخيمة، فقد كان أميل لفكرة الجلوس مع السلطات والنقاش معها، وفاز موقف ما دشينغ بالإجماع، واليوم الذي قررته الجماعة هو الذكرى الثلاثين لتأسيس الجمهورية الشعبية، على أن تكون نقطة الانطلاق جدار الديموقراطية، ووسط أبهة مشهد الذكرى الوطنية وجلبتها أصر فنانو النجوم على المطالبة بحقوقهم الدستورية.

Ma Desheng speaks passionately to the crowd gathered in front of the Beijing Communist Party Municipal Building, 1979.

The artist leading the protest on crutches on the 30th anniversary of the People’s Republic along the Democracy Wall in Beijing, 1979.

تجمع ألف شخص عند الجدار، وما دشينغ على عكازيه قاد الفنانين والمحتجين والصحافيين الأجانب حول حواجز الشرطة لأكثر من 5 كيلومترات من المبنى المحلي للحزب الشيوعي في بكين، وعندما قطعوا تلك المسافة كان قد تضاءل عدد المتظاهرين إلى بضع مئات. (ما دشينغ له عينان عميقتان سوداوان، في داخلهما شعلة تحترق، وابتسامة ساحرة)، هذا ما قالته الصحافية ماري هولزمان المقيمة في باريس التي كانت تعمل لصالح وكالة الصحافة الفرنسية في بكين آنذاك، (لكن مثل بحيرة الجبل يمكن أن يتحول إلى بركان خلال ثوان إذا أغضبه أحد ما، ويصبح صوته هادراً، ولا يجرؤ أحد على نطق كلمة واحدة)، تحت الرذاذ الخفيف ألقى ما دشينغ للمجتمعين خطاباً متقداً، مطالباً بالمساواة وحرية التعبير، وكانت تلك خطوة جريئة تعرض حياته وحريته للخطر، وبالعودة إلى الماضي، يتذكر ما دشينغ (في ذلك اليوم من آذار/ مارس كنا متوترين للغاية عندما غادرت المنزل للتظاهر، أفرغت كل جيوبي، ونظرت إلى والديّ كما لو أني أنظر إليهم للمرة الأخيرة، اعتقدت أنني قد أقتل. كان ذلك أول آذار حرّ منذ 30 سنة، وكنت سعيداً جداً أن أتكلم بلا خوف، حتى لو كان من الممكن أن أقتل، كنت سعيداً جداً لأني تجرأت على الكلام، الكثير من الناس كانوا يستمعون إلي، ومن ضمنهم بيروقراطيو الحزب).

علق وانغ كيبينغ من باريس: (كان يمكن أن نذهب إلى السجن لأننا كنا معارضين. لكن ما دشينغ كان يمشي دائماً في مقدمة المسيرة، كان شجاعاً للغاية)، وقد وافقه الفنان آي ويوي قائلاً: (ما دشينغ شخصية قوية حقاً، لقد ناضل لينجو، وناضل من أجل الحرية الفنية في ذات الوقت. كان موقعه ضعيفاً أحياناً، لكن معنوياته كانت عالية دائماً، لذلك أنا معجب به).

رغم ومضات الحرية التي شهدها جدار الديموقراطية إلا أن ربيع بكين تحول بسرعة إلى شتاء، ففي عام 1979 اعتقل وي جينغ شينغ رئيس الحركة الديمقراطية الوليدة، وحُوكم محاكمة شكلية مغلقة، أما ما دشينغ فقد ساعد في تهريب نصوص المحاكمة وعلقها على جدار اليمقراطية. وبدأت الحكومة موجة جديدة من القمع والتنكيل، وتبعها الاضطهاد.  

أغلق جدار الديموقراطية من قبل دينغ في كانون الأول/ يناير عام 1979، وأجبرت مجلة جينتيان على التوقف عن النشر بحلول 1980، فبدأ معظم فناني النجوم بمغادرة الصين وكان أولهم آي في عام 1981، لاحقاً كانت هجرة هوانغ وانغ والفنان تشو ليلي، وآخرين، وكان قد تنبأ بها ما دشينغ في إحدى طبعاته على الخشب التي سمّاها (بلا عنوان)/ 1981؛ وهو عمل من سلسلة كان قد بدأها، وفي هدا العمل ثمة أشكال بشرية مجسمة على الصخور، مجتمعة قرب بعضها، تحدق باتجاه البحر، ومن بعيد هناك قوارب تبحر إلى الأفق.

في عام 1983 كان ما ديشنغ هدفاً لحملة ضد “التلوث الروحي”، وهي سياسة حكومية لكبح الأفكار الليبرالية المستوحاة من الغرب التي ازدهرت خلال إصلاحات ربيع بكين، وقد علّق ما دشينغ بقوله: (لم يكن هناك طريقة لأعرض لوحاتي أو لأعبر عن ذاتي بحرية، لم يكن هناك أي أمل في المجتمع الصيني، وهكذا غادرت).

لم ير ما دشينغ والديه بعد ذلك أبداً، فقد توفيا، ولا أشقاءه وشقيقاته وأصدقاءه، لقد انقطع عن كل علاقاته. قال وانغ: (لم يُرِد أن يسبب مشكلات لعائلته، لذلك لم يرهم ثانية)، وبسؤاله عن شعوره حول فقدانه جذوره يعلق ما: (يجب أن يتحمل كل شخص ألمه الخاص).

استقر ما في سويسرا عام 1985، ذلك البلد الوحيد الذي قدم له دعوة، وبعد عام انتقل إلى باريس حيث يعيش الآن، وحيث عمل ووجد إلهاماً طوال 30 عاماً تقريباً، وقد انضم إلى مجموعة مرموقة من الفنانين الصينيين المهاجرين الذين وجدوا وطناً في عاصمة فرنسا، ومنهم سانيو، زاو وو كي، شو تيه تشون، جنباً إلى جنب مع معاصريه هوانغ يونغ بينغن، يان بي مينغ، ورفيقه في جماعة النجوم وانغ الذي وصل إلى باريس عام 1984. 

UNTITLED 6, 1981, woodblock print on Chinese paper, 30.3 × 44.9 cm. 

تلك المسافة البعيدة عن أرض الوطن قدمت لما دشينغ فرصة إعادة تقييم علاقته بالرسم التقليدي الصيني بالحبر، فالمحيط الجديد أعطاه الحرية في تطوير سلسلة أعمال بالحبر تصور عاريات، وهو ما كان قد انتقد بسببه قبل هجرته، وفي هذه الأعمال خلال الثمانينيات اكتشف ما دشينغ جسد الأنثى العارية بتصوره غير الأرثوذكسي التجريبي. 

متأثراً بالأشكال الحديثة رأى ما دشينغ النحت من عصر سلالة هان (206 ق. م ـ 220 م) والرسم في عصر سلالة سونغ (960 م ـ 1129م)، ففي كليهما يجب أن يكون الخط الأول أفضل خط، وكل خط تبسيطي (مينيماليست) يجب أن يكون مفعماً بعاطفة تعبيرية، وقد استشف ما دشينغ جوهر هذا التقليد بخطوطه السوداء القوية، وضربات فرشاته المصقولة، ومثلما في فن التخطيط والرسوم التقليدية الصينية للمناظر الطبيعية، أو في حبريات بادا شانرن الذي عاش بين عامي 1626 و1705 والتي تحتوي على الرمزية والتجريد، فإن في أعمال ما دشينغ العاريات يتعدين كونهن أشكالاً للجسد.   

يتذكر ما دشينغ ابتهاجه خلال الأيام الأولى في باريس: (شعرت أني حر، لم تكن هناك حاجة لأضع ستارة سوداء على النافذة. في أحد الأيام عندما ذهبت الفتاة التي كانت موديلاً لعملي كي تشرب كأس ماء من جانب النافذة قفزت غريزياً لأمنعها. نظرت إليّ وهي تضحك وقالت: لا أحد يهتم إذا أردت أن أقف عارية إلى جانب النافذة). في أعمال ما دشينغ الحبرية في ذاك الوقت ضربات الفرشاة الدائرية وتموجات اللون من الأسود إلى الفضي/الرمادي تبرز الشهوانية اليانعة في ردفي ونهدي موديله، بينما تجسد البقع اللونية الابتعاد عن الإثارة الجنسية).

معرضه (عاريات بالحبر. رقم 4)/ 1987؛ يظهر طقوساً لعوبة شبيهة بالعربدة لمجموعة من الأشخاص العراة، تذكرنا بمبدعي الأعمال الرائعة الحديثة مثل عمل بول سيزان (المستحمات)/ 1900- 1906، وهنري ماتيس في عمله (الرقص)/ 1910، ومع أن عمل ما دشينغ من الحبر الأسود، والتدرجات في أشكاله تعكس خفةّ ذات طابع شهواني ومداعبة، وتناقض التقليدية العمياء بشكل حاد للصور الجماعية في الفن الدعائي التي عاصرها في شبابه.  

سنوات ما دشينغ الأولى في باريس لم تكن بلا صعوباتها، ومما يخبرنا عنها: (عندما وصلت إلى فرنسا لم يكن الناس يعرفون الرسم بالحبر)، ويتابع: (لقد ظنوا أن ذلك رسماً مائياً، وهكذا كان تقديرهم لثمن اللوحة قليلاً جداً، عندما سمعت عن الأسعار التي عرضها التاجر لففت لوحاتي وغادرت. أفهم أن هؤلاء الناس لا يعرفون أي شيء عن الفن الصيني. وهذا يشبه ما حصل مع زاو واو كي، فقد جلب ثروة من لوحاته الزيتية، والقليل من أعماله بالحبر. مثل أطفال نحن تعلمنا بفرشاة الحبر، إذ لم يكن هناك رسماً بألوان زيتية في الصين آنذاك. على كلٍّ ليست الوسيطة هي الهامة، الهام هو الانطباع الذي تتركه اللوحة فينا، وأنا أمزج الفن التقليدي بالفن الحديث).   

على أية حال أعماله بالحبر ستتوقف بشكل مفاجئ وتراجيدي، ففي عام 1992 ماتت صاحبته الألمانية بربارا هوليستين في حادث سير مروع، وهي طبيبة نفسية قابلها في مؤتمر وي جينغ شينغ في الولايات المتحدة الأميريكية، فتركت ما دشينغ تائهاً في المشافي سنتين، إذ فقد السيطرة كاملة على ساقيه، وعلى تناسق يده، وبعد صراع طويل استعاد تأهيل أصابعه بما يكفي ليمكنه من تثبيت فرشاة كبيرة في يده. 

قال: (في البداية كانت الممرضة تطعمني، وذات يوم طلب مني الطبيب أن أتوقف وإلا فلن أستطيع أبداً الاعتماد على ذاتي. ربط شوكة على يدي، وبعد فترة من إعادة التأهيل الصعبة أصبحت قادراً على مسكها). يتذكر ما دشينغ حادث السيارة الذي قتل صديقته قبل 20 سنة، ويقول: (كان شعوري أنها لم تمت. روحانا ما تزالا موجودتين هنا. إنها جالسة هنا، إلى جانبنا).

في النهاية تمكن من الرسم، لكنه كان مفتقراً للدقة، وهذا أجبره على ترك تقنية تدرجات الحبر على الورق، وعوضاً عنها عاد إلى الأكريليك على القماش، ما أتاح له إمكانية إجراء تصحيحات بإعادة لمس القماش أو كشطه، وهو يعمل على كرسي بعجلات كان يضطر غالباً لاستعمال وصلة الفرشاة ليصل إلى لوحته الكبيرة، كما فعل ماتيس في سنواته الأخيرة.

INK NUDE 4, 1987, ink on Chinese paper, 68 × 127 cm. Courtesy the artist and Rossi & Rossi, London.

لكن تلك الخطوط الأولى الرائعة، والفروق الدقيقة البارعة لفرشاة الحبر التي قضى ما دشينغ عدة سنوات ليتقنها كانت مفقودة. (اعتدت مسك فرشاة صينية تقليدية كانت دقيقة للغاية، وعندما أصبحت يدي غير جيدة كان علي المحاولة بأساليب أخرى، ومع الوقت أدركت أني لا أحتاج لتحديد الفرق بين الفن الشرقي والغربي، ويمكننا أخذ آي ويوي مثلاً، حيث لا يمكن تصنيفه أنه صيني أو غربي، هو كلاهما معاً. 

بلفتة إيجابية ومثيرة للجدل كما هو الحال دائماً مع ما دشينغ، تحول أسلوبياً في أعماله بالإكريليك، مطوراً سلسلته السابقة عن الصخور بشكل لوحات كبيرة، حيث أخذ ما دشينغ يرسم الصخور مراراً وتكراراً وكأنها تعويذة تأملية، ومثلما تتجمع القوارير مع بعضها في أعمال الحياة الساكنة (still life) لجيورجيو موراندي؛ أصبحت صخور ما دشينغ تصورات ميتافيزيقية للحالة الإنسانية، وتحت السطوح الناعمة لهذه الصخور تقبع دواخل نفسية صاخبة، أي تجريدات طليقة، ولفتات تحرّر تأخذ روحها من الثورات البركانية من ماضي ما دشينغ الشخصي كمناضل من أجل الحرية. (لا يزال مثل ذلك في الحقيقة)؛ تقول ماري هولزمان: (فقط أنضج قليلاً). 

مستخدماً تقنية الخط العريض لتناسب سيطرته المحدودة؛ يدمج ما دشينغ تقنيات النقش الصينية والغربية ليجعل اللون نافراً بحدة أو نعومة، مبرزاً التناقض بين القاسي والناعم، والهادئ والعاصف، تلك الصفات الموجودة في داخل الفنان، وما دشينغ يدمج الألوان الفاتحة مع الألوان المركبة والمواد الرملية الهيئة ليبدع أعمالاً تتناقض بقوة مع تجربته المبكرة في أعمال الأسود والأبيض.

ROCKS 1, 2012, acrylic on canvas, 150 × 200 cm. Courtesy the artist and Rossi & Rossi, London.

(الحجارة والصخور كانت موجودة قبل البشر)؛ قال ما دشينغ، وهو يرسمها ليعبر عن شعور بالأبدية، لكن صخوره تستطيع أيضاً التعبير عن رموز اجتماعية لوجود الفرد في المجتمع، ومثل الناس والحكومات التي تتقاطع في علاقات متشابكة بحثاً عن التوازن؛ فإن الصخور في أعماله لها مظهر التوافق التام إلى حد يبدو سحرياً، لكن هذا الانسجام هشُّ دائماً، فإذا تحرك حجر واحد من مكانه ولو قليلاً فإنه سيهدد كل الأحجار الأخرى مجتمعة، وسيجعلها تتدهور متدحرجة فاقدة للتوازن.

بعد تعرضه لحادث آخر عام 2013 إذ وقع ما دشينغ من كرسيه المتحرك وكسر وركه؛ اضطر لإجراء عملية مؤلمة تلتها فترة إعادة تأهيل مضنية، لكنه كالمقاتل المتمرس، يعمل اليوم بغزارة أكثر من أي وقت مضى، ويرسم العاريات في لوحات كبيرة ملونة يقول إنها (موضوع أبدي لن أتركه أبداً، وسأجد له أشكالاً مختلفة لأعبر عنه بها، فإذا عدنا إلى مجتمعاتنا النسوية ستكون الحياة أكثر سلاماً وأكثر حباً). 

من المفارقات لم تعد للشيوعية موجودة الآن، لكن في مكانها هناك الإمبريالية وأسواقها التي تهدد فن الصين غير المستقر، وتشوه أولويات فنانيها، وربما ما دشينغ مختلف بسبب طبيعته الشعرية، ورؤياه الملهمة، فالعالم المادي هو مجرد مادة للتعبير، وليس هدفاً بالنسبة لإبداعه، وكما فعل في كل حياته سيستمر بالحياة والعمل في محيط متواضع، بعيداً عن قبضة النجاح التي يتوق إليها، ويتمتع بها العديد من أقرانه.

طوال 35 عاماً، مدفوعاً بروح ربيع أبدي؛ كان ما دشينغ من أوائل قادة الديمقراطية ودعاة التغيير في الصين، وقد دافع دائماً عن حق الفرد كي يكون حراً، وهو يقول إن العلاقات بين الشعوب والأمم يجب ألا تحدّ سياسية أو فناً، فكلاهما يجب أن يتكرسا من أجل الهمّ الأكبر، أي الأرض والكون، وهناك سيتم العثور على الحرية الحقيقية. 

يقول ما دشينغ ذلك ببساطة في بضعة سطور من قصائده المرتجلة المكتوبة عام 2012:

لا هواء، لا حياة

لا حياة، لا فناً

لا فناً، لا حياة.