بعد 25 دقيقة من الدوران غير المجدي حول ممرات سشانت لوك، نسأل عن الاتجاهات، ونتجنب الحياة البرية، اصطدمنا بسيارة سوبود غوبتا، دخلنا إلى مرسمه من الباب الخلفي. هيكل حداثي جريء أُكمل منذ 5 أعوام، إنه منظر مهيب وسط خليط من الكلاسيكية الجديدة التي تملأ تشوه ضاحية غورغاون السكنية جنوب غرب مدينة دلهي المزدهرة لكن غير المنظمة، إذ يمكن رؤية الخنازير تبحث عن الطعام في الدغل بين إنشاءات التوسع الفاخرة، و(مكافحة الحشرات) المكتوبة بحروف كبيرة على الجدران ممحيّة، وهذه اللافتات – لسوء الحظ – قليلة ومتباعدة.
عندما عُرضَت على غوبتا التصاميم الأولى الطموحة للمرسم من قبل صديقه المهندس المعماري من مومباي راجيف سيني، استغرب أين سيجد غرفة يتابع فيها عمله ضمن حدود شكلٍ نحتيٍّ ديناميكي، المهندس وغوبتا توصلا إلى اتفاق بأن تبقى الواجهة بلا تغيير، لكن يمكن إقامة مكان عملي بسيط في الداخل. قال غوبتا: (من الداخل كان المكان تماماً كما أردته، أما من الخارج فكان كما أراد هو). بتدقيق أكثر يبدو من الواضح أن المظهر الخارجي البارز مغطى بطبقات من الإسمنت، فيها فراغات عند الأطراف لتكشف خلفه عن صندوق وظيفي من القرميد، والزجاج المثلج.
ركنّا سيارتنا إلى جانب كوخ يستعمل كاستوديو إضافي للعمل، وبيت للسناجب والصنانير، ومن زوايا الحديقة وسط ركام من الحديد الصدئ وأصص النباتات التي يكسوها الغبار؛ توجد قوالب غوبتا الطينية الضخمة لمعرضه (قرود غاندي الثلاثة)/ 2008، كل رأس طوله أكثر من متر يحدّق بتحدٍّ. تماماً إلى جانب الكراج جنباً إلى جنب؛ يوجد أفعوانان “هيدرا” كبيران ببطنين مسطحين، مع زوجين من القوارب ملقيين بغير انتظام على الأرض، وفي الجوار تحت غطاء قماشي يمكن رؤية هيكل “هندوستان أمباسادور”، حيث السيارة الهندية التي صنعت في خمسينيات القرن الماضي تظهر في العديد من أعمال غوبتا.
انتقلنا إلى الداخل بسرعة هرباً من البرد الشديد، بعد بعض النقاش تبعنا غوبتا النشيط إلى الطابق العلوي، مجتازين الطابق الأوسط المؤلف من منازل ومكاتب لمساعديه. وصلنا إلى مكان سكنه الكبير في الطابق العلوي، هناك مطبخ من الفولاذ المصقول في الزاوية، حيث يوجد كرسٍ برتقالي واطئ أمام حامل قماش الرسام، مُحاطة بأنابيب الألوان والفراشي على صناديق مقلوبة وطاولات منخفضة، ومقعد عريض يحتل معظم الجدار المقابل مغطى بكمية من فوضى متراكمة، كتاب بغلاف من الجلد، إلى جانبه نسخة مطابقة له تماماً من الجص الأبيض، قطع صغيرة برونزية مصبوبة من روث البقر، حقيبة رجالية ساحرة من تصميم فيفيان ويستوود، ولوحات مكتملة وغير مكتملة مشدودة على الجدار، معظمها من معرض غوبتا الحالي سلسلة (نوت تو سيلف)/ 2013.
خلال العامين الماضيين كان يحتفل بالطعام الذي تناوله للتو بلقطة فوتوغرافية سريعة للصحن وأدوات المائدة وبقايا الطعام، هذا الطّقس كان يسلي غوبتا، ويقضّ مضجع زوجته، وبهارتي خير نظيرته المحترفة. في السنة الأخيرة بدأ يرسم ذلك على قطع قماش صغيرة، والعديد منها موضوع في إطارات دقيقة قديمة لتشكل ما يصفه بـ(مذكرة صغيرة) لحياته اليومية.
كنا حفنة من الصحافيين، واثنين من مندوبي صالة العرض، جلسنا على أريكة مقلمة وسط الغرفة إلى جانب غوبتا وخير اللذين قدما لنا قهوة حلوة ونحن نلتقط أنفاسنا. (كل شيء موجود في الداخل) هو اسم معرض غوبتا الاستيعادي الذي سيستعرض لمحة من أعمال الفنان من كل مراحل إبداعه، وهو الآن في منتصف حياته المهنية، وقد افتتح في الصالة الوطنية للفن في نيودلهي مساء اليوم السابق. احتفالات سخية استمرت حتى وقت متأخر من الليل، وقد تم تناول طعام العشاء في ساعات الصباح الأولى. غوبتا وخير القادمة من افتتاح في روكبند متحف شنغهاي للفن وصلا معاً إلى نهاية حملة طويلة من الإنتاج، والراحة والإنهاك يمتزجان وسط شعور غامر بالمتعة. جلستنا للأسئلة والأجوبة تحوم بأدبٍ حول موضوع عرض الليلة السابقة مع غوبتا الذي كان ساحراً، وإن تجنب الإجابة عن كل الأسئلة. أخيراً؛ خير والآخرون ذهبوا لزيارة مرسمها، فكان لي الحظ بأن أستشف المزيد من المعلومات.
على الرغم من أنه مضاء جيداً من الحديقة، كان القبو إلى حد ما يبدو مثل مستودع فوضوي كبير، أعمال قديمة قليلة كانت مسنودة إلى الجدران، لكن المكان كان مشغولاً بعدد ضخم من أشياء قديمة يأمل غوبتا أن يجد لها مكاناً في أعماله المستقبلية. نصف درزن ضخم من الأضواء الحليبية اللون مكوّمة في مكان واحد على الأرض، ركام كراسٍ مكسّرة مع مقاعد من القصب كانت محشورة إلى جانب السلالم، بكرات من السلاسل الصدئة والحبال مجمعة في الزاوية، بعض إطارات الدراجات الهوائية البالية ملقيّة جانب الجدار قريباً من جرة حليب مكسورة مع مقبض حلقي، كل (ينتظر لحظته لتأتي)، كما يضعها غوبتا الذي جمعها من مخازن خردة، ومن الأسواق العتيقة، ومن أماكن بيع الخردة في أي مدينة كان فيها، فهذه المواد تخبره عن الحياة الماضية والحاضرة في الهند حيث يحتفل بها ويستنطقها في فنه، ويفكر بمزيد من الإبداع.
المفاجأة بين المكتشفات الأخيرة هي وجود ثلاث حاويات كبيرة يصل ارتفاع كل واحدة حتى ورك غوبتا، كان قد وجدها في مدينة كوتشي. (قيل لي إنها كانت تستعمل في المساجد للناس الذين يتبرعون بالطعام أو بالمال، حيث يستطيعون رمي أي شيء فيها، وهي تصلح أيضا لطبخ الطعام وتقديمه. حتى الآن لا أعرف كيف سأستعملهما في عملي، أو كيف سأجعل منها فناً. ذلك أمر أتصارع معه، لكني ما أزال آمل بإيجاد الجواب).
عندما صعدنا إلى الطابق الأرضي كان كل شيء هادئاً للغاية. كان المكان لأعمال في طريقها إلى معرضه الاستيعادي، غرفة كالحظيرة شبه خاوية، وأعمال قليلة متروكة عند الأطراف، لوح ثلاثي من صفائح معدنية مصقولة تبرز منه رِزم ملاعق وشوك وسكاكين من الفولاذ المصقول تزين جداراً واحداً، وأبعد قليلاً نحو الأسفل رف مطبخ معلّق مثقل تماماً، كل فتحة فيه مزدحمة بصحون فولاذية لماعة ومقالٍ مطلية تتدلى من الأطراف تضيف دفقة نادرة من الألوان الدافئة، وفي الجهة المقابلة عدة رِزم أغلبيتها قطع من أدوات المطبخ المطلية المعلقة على طول حبل ممتد على خزانات خشبية عالية، خلافاً لمعظم الأواني في عمل غوبتا هناك دلالات رومانسية أكثر مما هي بهدف المنفعة (جاءت من جنوب الهند من حول تشيناي، لكنها لم تُصنع في الهند، بعضها من سويسرا، وبعضها الآخر من إنكلترا، ومن كل أنحاء أوروبا. عندما رأيتها في الدكان سألت لماذا ليست مستعملة؟ فاتضح أن العائلات في الخمسينيات كانت تستعملها كمهر للزواج. لذلك ظلّت جديدة، وفي النهاية تلك العائلات تبيعها في السوق الآن).
في كل أرجاء المرسم سبائك وقوالب استعملت في إنتاج عمل سابق كانت محشورة في جيوب هنا وهناك، وبالنسبة لغوبتا هي مثل ذكريات لاسكتشات الرسومات: (عندما تكون التجربة جيدة، وشيء أحبه له ذكريات مُحببة، أحب إبقاء الأشياء التي ساهمت في كل ذلك). وربما الأكثر قوة هي الألياف الزجاجية الشمعية الصفراء المقولبة على حقيبة سفر محكمة بعناية، وهي قطعة متبقية من معرضه (من الكويت إلى دلهي)/ 2006؛ الذي يتحدث عن الهجرة. (كنت فضولياً جداً عندما رأيت الناس يصلون من الخليج إلى مطار دلهي، كل هذه الرزم الجميلة المعقودة والمربوطة بشكل جميل، وتساءلت: ماذا يحملون في داخلها؟ إنهم عمال، خياطون، وعمال يدويون، أمضوا عامين أو ثلاثة في الخارج، وفي النهاية عادوا إلى وطنهم، فأصبحت حتى اللعبة الصغيرة أو ربما أحمر الشفاه أو أية هدية أخرى لعائلتهم تعتبر هامة جداً، لأنهم وضعوا كل أغراضهم وكذلك كل شيء في الداخل، هذه هي قصة كيف توصلت إلى اسم معرضي).
في غضون بضعة أشهر سيكون مرسماً جديداً أكبر جاهزاً على بعد 10 دقائق من المرسم الحالي، بينما سيحتفظ هذا السكن الحالي بدوره كمكان للرسم، المكان الإضافي سيتيح له (أكثر من أي وقت مضى إحداث ضوضاء، وإبداع أعمال أكبر أو أصغر). بالنسبة لغوبتا المكان يعني الحرية، لكن على الرغم من افتقار الحنين للمكان الذي احتضن تاريخه الفني خلال عدة أعوام سابقة؛ إلا أن غوبتا يعشق تواريخ الأواني المتراكمة، وكذلك ما تبقى من الأعمال السابقة المبعثرة هنا وهناك، وقصص المساومات في سوق الأنتيكات في مدريد لشراء الألبوم المجلد بالمخمل الملقى على مكتبه، كلها قصص يرويها بمتعة غامرة. إنه ذلك السجل المتنوع من الموضوعات، وأكثر من أي مكان يوفر السياق الحقيقي لعمل غوبتا.