تعليم “الموهوبين” في سنغافورة

في عام 1989 نشر د. نيفيل إيليس – وهو معلم الفن في إحدى أرفع المدارس الثانوية في سنغافورة – مقالة عنوانها (هل ينجح الموهوبون؟) في صحيفة  School Art، وتقدَّم المقالة تقريراً حول كيفية تأسيس واختيار وتطبيق برنامج تدريس الفن (إي ئي بي) في عدد من المدارس الثانوية الأعلى مستوى بمبادرة وزارة التعليم عام 1984، ويهدف البرنامج إلى توفير مناخ خصب لعدد قليل من الطلبة للتأكد من مواهبهم الإبداعية، ولتطوير رؤاهم الفنية.

من قراءة المقال يحصل المرء على لمحة عن التخطيط الدقيق، والموارد الكبيرة التي استُثمرت في المشروع، حيث يتوقع بالتأكيد نتيجة ممتازة مثل “عائد على الاستثمار”، وهو مصطلح يزيد استعماله العام بين رجال الأعمال  والدوائر الحكومية، ويعبر عن الأخلاق المادية والتخطيطية التي تقود تطور سنغافورة.

ومع ذلك فإن د. إيليس حقيقةً لم يقدم جواباً مباشراً على السؤال الذي طرحه عنوان مقاله، ومع ذلك يستطيع المرء أن يستنتج منها شكاً معيناً، وحتى التلميح التهكمي نحو النجاح المحتمل لمسعى بهذا الحجم، وبتلك الأهمية. 

في السنوات الأخيرة؛ الحكومة السنغافورية عبر وزاراتها المختلفة ومجالسها في الاستثمار المكثف استمرت في تطوير تعليم الفنون البصرية، وبعد 24 عاماً من تقديم (أي ئي بي) تم افتتاح مدرسة الفنون سوتا (SOTA)، وهي أول مدرسة ثانوية في سنغافورة تقدم المناهج المدرسية الفنية لطلبة ما قبل الدراسة الجامعية. بناء مدرسة الفنون ذو الطوابق المتعددة مثير للإعجاب، ويقع على قطعة من الأرض قرب طريق أورتشارد، على مسافة مشيٍ قصيرة من متحف سنغافورة الوطني ومتحف سنغافورة للفنون، وكمدرسة فنون مميزة؛ فإن الفنون في هذه الحالة تشمل الموسيقى والرقص والمسرح والفنون البصرية. إن الرؤيا الذاتية المعلنة لمدرسة الفنون هي أن (تشكل وتؤثر على المجتمع من خلال تعليم الفنون)، بتوفير مناخ نابض بالحياة للتعلم يرتكز بفرادة على الفنون، ويحتفي بالتجريب والتعبير والاكتشاف، بهدف تغذية المواهب الفنية، وتدريب روادٍ هم الذين سيسهمون ويغنون المجتمع بإبداعهم.

على مستوى التعليم الجامعي هناك جامعة لاسيل للفنون (Lasalle)، حيث نُقلت عام 2007 إلى مبناها الحالي مع دعم مالي كبير من قبل مؤسسات التنمية الاقتصادية في سنغافورة، ومنذ زمن طويل توجد أكاديمية نانيانغ للفنون الجميلة (Nanyang Academy)، وكلتاهما تظهران مجالاً نابضاً بالنشاطات الفنية في منطقة الفنون في مركز المدينة، و في العام الماضي افتُتح مركز الفن المعاصر بدعم من جامعة نانيانغ التكنولوجية، في غيلمان براكس (Gillman Barraks) بالقرب من مجموعة من صالات العرض الوطنية.

بالتأكيد ميزانية استثمار الحكومة تثير الإعجاب والتركيز، وكذلك مخطط تعليم الفن، وعلى أية حال يبدو هذا لصالح الاستثمار في الفن كتدبير اقتصادي بدلاً من أن يكون لتطوير الفن إكراماً للفن ذاته، بالإضافة إلى ذلك فإن التصميم على جعل سنغافورة مركزاً للفنون العالمية يبدو أكثر وضوحاً هذه الأيام مما كان في “الرؤى” الحكومية مثل “مدينة النهضة”، وحملة “إعادة بناء سنغافورة”، اللتين أطلقتا عامي 2000 و2002 على التوالي.

حقيقة إن مدارس (أي ئي بي) والمعاهد المتوسطة ومدرسة الفنون أعطت نتائج ممتازة في امتحاناتها، وفي المعارض الفنية لخريجيها، لكن عندما تكون المسألة هي اختيار فرع اختصاص في الجامعة؛ فإن الأغلبية الساحقة من أولئك الأفراد الموهوبين تركّز على اختصاصات تضمن مستقبلاً في الحياة المهنية التي تضمن نتائج مادية أفضل مما قد يقدمه مجال دراسة الفنون، وفي الإجابة على سؤال كيف أصبحت سنغافورة مركزاً للفنون العالمية علّق المؤرخ الفني البارز تي كي ساباباثي (TK Sabapathy) بما يلي: (في الوقت الحاضر تعمل سنغافورة  بشكل رئيس كمكان لشحن الإنتاج الفني، إلا أنها فشلت بأن تكون مركزاً حيوياً لإنتاج فني مستدام). وعلل ذلك بأن ظروف الإنتاج الفني الذي يأخذ مكانه في سنغافورة لم تصقل بعد بما يكفي، ويقترح بصورة خاصة أن دور الفنان أو “الفرد” ما يزال لا يلقى التقدير الكافي (لست متأكداً تماماً من أن مصطلح الفرد مقدر ومحترم هنا بما فيه الكفاية؛ إنه ما يزال مصطلحاً احتراسياً)، بمعنى آخر يبقى مجتمع سنغافورة منتظماً بقوة، والمجال للفرد بأن يفكر فيه ما يزال مضبوطاً بدقة، أو لنستشهد مرة ثانية بقزل السيد ساباباثي: (لم يتحرر تماماً بعد).   

لأنني عشت وعملت في ما وراء البحار أكثر من 30 عاماً؛ فإنني أسلّم بأن الفنان يحتاج للحرية كي ينخرط في بحثٍ راديكالي وتجريبي، خاصة عندما يجد طرائق جديدة لتحدي الوسائط السائدة في ممارسة الفنون البصرية. منذ عودتي إلى سنغافورة عام 2003 لاحظت الضغوط الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تمارسها الحكومة على  الأفراد لضمان التزامهم بالأسس والقيم المحافظة، ومن هنا يحتاج الفنان لأن يكون حذراً للغاية، مما يؤدي إلى خنق إرادته في أن يفكر تفكيراً نقدياً وإبداعياً.    

كنت مراهقاً في الخمسينيات، بالتأكيد لم أكن أعتبر “موهوباً” بما يكفي للحصول على موافقة للدخول في مدارس (أي ئي بي) أو مدرسة الفنون لو كانت تلك المبادرات موجودة وقتها، وعلى أية حال فقد كنت بمعنى ما محظوظاً لأني نشأت في سنغافورة في وقت كان فيه المجتمع أكثر تسامحاً واهتماماً بخير الجماعة. كان على الفرد أن يطوّر روح الكفاح من أجل متابعة أحلامه وطموحاته، وكان ما يزال من الممكن أن يرتكب أخطاء، والأكثر أهمية أنه كان وقت يستطيع المرء فيه أن يكون حالماً ومثالياً. 

على أية حال في المشهد السياسي- الاجتماعي الحالي في سنغافورة يختار “الموهوب ليزهر” في المهن التي تضمن الرفاه المادي، وحتى أولئك الذين تمّت تهيأتهم لخوض التحديات كي يصبحوا فنانين معاصرين؛ ربما ما يزالون يجدون أن من الأفضل تنمية حياتهم المهنية في مكان يتم تقييم “مردود الاستثمار” ليس فقط بمردوده المادي.

ربما؛ بالإضافة إلى سؤال د. إيليس (هل سيزهر الموهوبون؟) علينا أن نسأل أيضاً سؤالين آخرين، هل صممت المقاربات التعليمية الحالية لتُعنى بأولئك المقدّر لهم أن يكونوا فناني مستقبلنا؟، وإذا كان الأمر كذلك؛ كيف نشجع أولئك الأفراد على أن يبدعوا في سنغافورة وليس في مكان آخر؟.