من السهل أن نصف الفنان إي أراكاوا خطأ بأنه “فنان ياباني”، فعلى سبيل المثال يظهر عمله (أعشاب البحر)/ 2011؛ الممثلين وهم يأخذون لوحات من المدرسة الفنية غوتاي، ويرفعونها على إطارات ذات عجلات، وينقلونها بانسجام تام مع الموسقى، ويجعلونها "ترقص"، ويرافق ذلك سرد قصصٍ اكتشفها الفنان خلال بحث أرشيفي يتعلق بصراعات أعضاء مجموعة فناني غوتاي مع فناني الجيل السابق. والعمل يتعمق في صحة اعتبار فناني غوتاي مجموعة واحدة، معيداً تأطير دلالاتها لمزيد من النقاش، وبالإضافة إلى تواصلها مع النقاشات عن تاريخ الفن الياباني فإن عمل (أعشاب البحر) يطرح أيضاً تساؤلات حول تاريخ تكون الرسم ذاته من خلال إعادة تموضعها- حرفياً- كجسم متحرك.
في أعماله الأدائية المتنوعة؛ يوظف أراكاوا استعارات من العرقية والهوية الثقافية، لكن بطريقة لا تجعلهما يقتصران على خطابهما الخاص، فأراكاوا ذاته موجود في عدد من البلدان من الصعب حصرها في هوية جغرافية أو وطنية، ليس فقط لأن أعماله وصوره موجودة في كل مكان، بما فيها (بافيليون جورجيا)/ 2013؛ في بينالي البندقية، ومسح الفن الياباني الذي يتم كل 3 أعوام للفن المعاصر، وأقيم العام الماضي تحت عنوان (روبونجي كروسينغ) في متحف موري آرت في طوكيو. يتحرك أراكاوا باستمرار حول العالم، ناشراً حضوره بعروضه في أماكن عالمية عديدة، بالإضافة إلى كثرة العروض من خلال عمليات تعاون وإنتاج أعمال مادية، حالّة في كل مكان، لكن ليس في مكان محدد، وهي تشي بحساسيته الأدائية المتحركة، وإلى حد ما غير محددة.
من جزيرة مانهاتن إلى أرخبيل هاواي يأخذنا مشروعه التعاوني الأخير مع الفنان المقيم في نيويورك كاريسا رودرغويز إلى بينالي ويتني 2014، حيث تتدلى من رفوف صناعية تركيبات (هاواي بريزنس)/ 2014؛ وهي تتألف من 3 قبعات ضخمة يمكن ارتداؤها على شكل جزيرة كاواي، هاواي المعروفة بالجزيرة الكبيرة، ومانهاتن، وكل واحدة منها كبيرة بما يكفي كي يرتديها شخصان أو ثلاثة أشخاص في ذات الوقت، بالإضافة إلى ذلك هناك خزانتان، واحدة فيها ساعة، والثانية فيها علبة الساعة، ولوحتان من الملح البركاني تدلان على شاطئ هاواي، وهنا يتصور الفنانان الأرخبيل وكأنه موقع طبقات سرديات جيو- سياسية والتقاءات قيم جمالية، تشكلت من نطاقات إثنية، وتغيرات ثقافية، ويبدو عملهما مثل منصة ومسرح غريب يناقض الصورة النمطية للجزيرة كمكان مثالي.
لفترات معينة للمعرض؛ جلس أراكاوا في الصالة على كرسي بلا ظهر ولا مسندين، وهو يلبس قميصاً مزهّراً من ماركة برادا من مجموعة (الفردوس المفقود) 2014؛ منتظراً زوار الموقع. آنئذ كان يرفع آي فون غالاكسي، أو آي باد، أو كاميرا رقمية، كان يبدو بشكل غريب، وكأن هناك دائماً أحد ما؛ سواء زائرين، أو أصدقاء أراكاوا، أو عمال المتحف، وذلك ليكونوا شهوداً على اللحظة الحاسمة – وكأنه قطقة من الفانتازيا يتم تأملها كمتعة شخصية، أو يتم تناقلها في مواقع شبكات التواصل الاجتماعي.
عندما سألت عن عمل (هاواي بريزنس)؛ أجاب أراكاوا بصراحة غير عادية: (مانهاتن هي عبارة عن خدعة)، وتابع: (بالنسبة لمعظم زوار المعرض من الأسهل التماهي داخلياً مع شكل مانهاتن. مانهاتن توظف كنقطة تواصل مع المعرض)، وأراكاوا يستعمل الموضوعات لجذب الناس وشدهم إلى العمل، وإلى حد ما يخدعهم بخبث ليأخذوا على عاتقهم دوراً عملياً. (أردت أن تكون تجربة المشاهدين من طبيعة ديناميكية، لا من طبيعة جامدة). تبدأ العملية عندما يبدأ مرتاد المتحف بالتحديق إلى أراكاوا وقبعاته من مسافة قريبة، من مكان آمن بما يكفي لمراقبته، وتماماً كما يعتبر أعماله التعاونية التشاركية مثل “تقنية لتشتيت الانتباه”؛ كذلك في (هاوايان بريزنس) دعوة مباشرة للناس إلى هذا العمل الفني بطريقة تغيِّر ديناميكية علاقة المشاهد بالعمل الفني، وكانت الردود تتفاوت من ضحك متحمس إلى ابتسامات خجولة، وبشكل عام كان أراكاوا يحافظ على رباطة جأشه، فهو لا يبدي اهتماماً براحة المشاهدين بحد ذاتها، إنما يستمتع أكثر بطريقة التحولات التي يمكن أن تتركها الأعمال الفنية على الجمهور. أي الإحراج الذي يلي ذلك، وردو أفعال الزوار المتناقضة فيما يتعلق بالفضول الأولي والاستمتاع بالمشاهدة التي لا يتم إرضاؤها تماماً، بحيث يتحول المشاهِد إلى المشاهَد، وما هو فردي عادةً وعمل خاص يتحول، ويصبح ليس فقط تجربة مشتركة؛ بل أيضاً مشهداً نشطاً.
قبل عامين؛ وفي عرضٍ في صالة تانكس في متحف تيت للفن الحديث في لندن، نسّق أراكاوا مشهداً، بحيث تتجمع الإشارات وتتداخل بجرأة من خلال الأعمال الفنية، وقد رافق ذلك أن ذهب أراكاوا في الغناء، مصفقاً بيديه، أو مبتسماً، أو ضاحكاً برعونة، بينما كانت طاقة الحشد تتحول من حالة إلى حالة أخرى. تبقى أدواره في هذه الأعمال متنوعة تماماً، متنقلاً من مدير للمراسم، إلى مؤد، إلى مشاهد، فأراكاوا يحتضن ويتبنى اللايقين والارتباك لدى زوار معارضه “ولديه أيضاً” وغالباً ذلك المزيج من المشاعر الذي يميز الأعمال التشاركية. عندما ندخل إلى هذا المجال من المساحة التشاركية نكون أكثر هشاشة وعرضة للتأثر.
غالباً تتشابك العلاقات الشخصية في أعمال أراكاوا الأدائية التشاركية، ففي عمل (هيلينا وميواكو)/ 2013؛ الذي عرض ذات العام في صالة كارنيغي العالمية؛ ابتكر المشروع مع زميله الفنان هينينغ بوهل، وقد لعبت ميواكو والدة أراكاوا دوراً كواحدة من أبطال الفيلم. وباستكشاف مسقط رأس أراكاوا في فوكوشيما يعكس العمل مناخاً من الارتباك والخسارة والسوداوية التي تلت تسونامي والتسربات الإشعاعية في آذار/ مارس 2011، من دون إشارة صريحة للأحداث. وفي العمل تسافر هيلينا- الابنة الصغرى للفنان بوهل – من ألمانيا إلى اليابان للبحث عن ناديشيكو فريق كرة القدم النسائي الوطني الياباني، وقد صُوِّر أغلب الفيلم في ملاعب من تصميم المهندس الياباني ميتسورو سيندا، ويعرض إلى جانب كرات قدم ملونة في صالة كارنيغي العالمية، وبهذا فإن في الفيلم مرح ينتاقض بشكل صارخ مع خلفية الدمار والحزن.
هيلينا تسأل ميواكو والكاميرا بشكل متقطع: (ناديشيكو وا دوكو ديسكا؟)، (أين ناديشيكو؟)، لكن الجواب عبارة عن منظر الملاعب الفارغة.
يلاحظ المرء في عمل (هيلينا وميواكو) أن أراكاوا ليس مهتماً بالاحتمال أو الاتساق، فلهجة هيلين ولغتها اليابانية الضعيفة تجسدان التعدد وتمازج الألمانية مع اليابانية إذا كان هناك أي شيئ كهذا، كما هناك تأثير مماثل يظهر عندما يتكلم أراكاوا، إنه يتكلم إنكليزية مألوفة بعض الشيء لكن بلهجة سيمفونية غريبة، حيث يستخدم تعبيرات بشكل غير عادي وبفواصل إيقاعية متوازنة، ويظهر الفنان على هامش الهوية، سائراً على الخط الفاصل بين الرواية التاريخية للفن والإمكانية الغامضة، وبين الشخصي والعام، وبين أن تكون يابانياً أو لا تكون، وبين ما هو أمريكي وليس أمريكي.
حين نختبر الوزن الرمزي للتاريخ يغير أراكاوا السيناريوات المألوفة خلسةً. فأعماله غنية بفكاهة متقنة إذ تنطوي على تحوير دقيق جداً “مثل وضع هاواي في نيويورك في بينالي ويتني على سبيل المثال”، ولهذا الاختيار إرباك شديد، وإزاحة لما هو مركزي ولما هو هامشي، وهذا هو على وجه التحديد، فكيف يأخذنا أراكاوا إلى وجهة مجهولة وفاتنة اسمها هاواي.