كانت زيارة استوديو لامدارك في زيوريخ بعد الظهر، وهو الفنان الذي أبدع فن التانترا الجديد؛ جامعاً الطاقات الداخلية للبوذية التبتية مع صور من الثقافة الشعبية الغربية. بلا قميص يترنح على قمة سلم في ضباب كثيف وسط النهار في شنغهاي هو ما أتذكره عن أول مرة رأيت فيها كيسانغ لامدارك في أيلول/ سبتمبر 2008. كان يذوّب بقداحة صغيرة أغطية ضخمة من البلاستيك الوردي الفاتح فوق قطعة طولها 4 أمتار.
ذاك المساء وخلال افتتاح معرض الفن المعاصر في شنغهاي سرد حكاية مشابهة كونها صعبة التصديق: رتّب لصخرة تزن 10000 كغ ليتم تهريبها من مدينة غارتزه مسقط رأس والده ضمن منطقة عسكرية، منطقة محتلة في شرق التبت، لتتم سرقتها ليلاً بشحنها ونقلها إلى وسط شنغهاي.
نحت على الصخرة أولاً كلمات تبتية هي (أوم ماني بادمي هام)، ومعناها تقريباً (الجوهرة في اللوتوس)، مشيرة إلى رموز الخلق في التانترا، أي الاتحاد بين الرجل والمرأة، بعدئذ غطى لامدارك تلك القطعة المقدسة بأشكال وألوان هابطة وغير متجانسة تنتمي إلى عالم هالو كيتي وباربي، أكثر مما تنتمي إلى بوذا.
بعد 6 أعوام تقريباً؛ عندما أخذني لامدارك من زيوريخ بعد ظهر يوم أحد في حزيران/ يونيو، كان قد قضى فترة الصباح محاولاً وصل تلفزيونين معاً، إحدى الشاشتيين مكسورة، ورأيت فيما بعد أنه مراراً وتكراراً كان يثقب السطح البلاستيكي المتصدع فعلاً ليخلق انطباعاً نقطياً عن جمجمة، جنباً إلى جنب مع وجه مرسوم لقبلة نجم الروك جين سيمونز وهو يهز لسانه. كان لامدارك يريد رؤية كيف يمكن أن يبدو كأس العالم لكرة القدم على شاشة خلف هذين الجهازين، في نوع من هرس بعض انشغالات الحياة الرائعة لرجل: الجنس، الموت، روك آند رول، وكرة القدم.
ركبنا الترام لوقت قصير من مركز المدينة، فاستوديو لامدارك يقع في (المصنع الأحمر) على الشواطئ الرائعة لبحيرة زيوريخ التي مستوى شارعها الخارجي مغطى بالكتابات وأرتال الدراجات الهوائية، وعندما وصلتُ كانت هناك عائلات تتنزه وتستحم خلف المجمع السكني تماماً، مستمتعين بجو الصيف، ومن خلال المياه الزرقاء يمكن أن نرى أبراج الكنائس والعمارات السكنية الفخمة تعشش في التلال الخضراء.
في الداخل كانت بقايا المصنع الأحمر – المنتهي تقريباً – لا تزال مكتملة، مع روائح قوية لزيت التربنتين. كان استوديو لامدارك مزيناً بقصاصات حروف اسمه، وعلى الباب صور القمم المقدسة في خامبا شرق التبت، كان يقطن في المصنع الأحمر منذ عودته إلى سويسرا عام 2000، بعد قضائه 3 أعوام في نيويورك.
هناك درس النحت، بدايةً درس في بارسونس، ثم حصل على شهادة ماجستير في فنون الكتابة الإبداعية من جامعة كولومبيا، وفيما بعد ساعد في مطعم تبتي في جادة رقم 2 بين الشارعين الخامس والسادس سمّاه “الراهب الغاضب”. (أكل أفراد فرقة الرامونس هناك مرة) أخبرني لامدارك بفخر وهو يفتح الباب، (كانوا جميعاً نباتيين، ولذلك أحبوه).
داخل الاستوديو الذي تبلغ مساحته 60م2 يوجد القليل من الأشياء التبتية التقليدية، علّاقة الباب التي تحمل عقدة زرقاء، نسخ من رسوم على القطن أو الحرير تصور الألوهية البوذية "ثانغاس"، وعلى الجدران الماندال رمز عند الهندوس والبوذيين الذي يعبر عن تمثيل الكون، زوج من صور أُسُود الثلج ملصقة على النافذتين جنباً إلى جنب مع علم التبت، وفي الزاوية أعمال ومشاريع من السابق وغير مكتملة بعد؛ معلقة ومكتظة على الجدران، والعديد من الجماجم على الجدران بعضها من جين سيمونز – ثانيةً – بعيون واسعة، ورأس تشبه إلى حد كبير رأس دورجي دراكدن حكيم التبت القديمة بلسانه الممدود، وفي ثقافة التبت إذا كان لسانه أحمر اللون فإن ذلك يدل على قول الحقيقة، وفي حالة سيمونز يدل على امتلاك الشهوة الجنسية الشبقة، فالجنس والحقيقة يتشابكان في فن التاترا الجديد عند لامدارك.
عمل لامدارك على مدى العقد الماضي يدمج جميع أنواع الإشارات إلى تاريخ التبت، فضلاً عن الثقافة الشعبية وخاصةً الهذيان، والفن الرفيع الذي يتراوح من ستراته المصنوعة من البلاستيك الملون المنصهر، إلى إطارات الدراجة الهوئية التي تذكّر بدراجة دوشامب المقطّرة بالبلاستيك، وهي تقنيته في إذابة البلاستيك وإحداث ثقوب في طبقات من الأغطية البلاستيكية مستعملاً قداحة ليخلق شكلاً شبكياً، هو إبداعه الخاص بكل معنى الكلمة.
في أيار/ مايو عرض في صالة روسي & روسي بفن بازل في هونغ كونغ؛ بدلة ذهبية اللون فوق شبكة بلاستيك أسود تغطي صورة الكاهنة بالْدِن تشويستو التبتية الآن. ومن أجل مشروع (متحف المريخ المعاصر) كما أسماه أو اختصاراً (مومارس)؛ عرض (بدلة مقاومة للحرارة فوق بالْدِن شويتسو)/ 2013؛ حيث الجسم الذهبي موضوع على شبك بلاستيكي أسود يغطي صورة راهب بالْدِن التبتي، وقد وضعت البدلة في النار في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2011، وبدلة لامدارك الذهبية تعمل كطبقة واقية رمزية للميت.
ومثل كل التبتيين تقريباً كان لامدارك متأثراً للغاية بأكثر من 100 كاهن وراهب ضحوا بأنفسهم في الأعوام الأخيرة احتجاجاً على القيود الصينية شديدة القسوة للقضاء على التعليم الديني والاحتفال في التبت.
تزامناً مع تلك الأعمال البلاستيكية المنصهرة أصبح لامدارك ينتج أشكالاً أخرى من الأعمال تتضمن وخز السطوح المعدنية لتسمح بدخول الضوء من الجانب المقابل وبالتالي خلق الصور، حيث بدأ ذلك عام 2006 مع (علبة في يد زرقاء) حيث ثقب قعر علبة بيرة بدرجات متفاوتة من الكثافة بحيث عندما تنظر من فم العلبة تستطيع أن ترى شكل امرأة عارية، وقد تطورت السلسلة، إذ أن الأعمال الحالية تستخدم أسطحاً معكوسة مثقّبة معقدة، مع أضواء إل إي دي، أو شاشات تلفزيون موضوعة خلفها، لتصور مونتاج التانترا البرية للنجوم والتنانين، ومشاهد من حفلات القناع الغريبة، كما أبدع لامدارك صورة نبيلة للزعيم القبلي المحلي الأمريكي سيتينغ بول، وسماها (سينينغ بول/ لينغ جيسار)/ 2014؛ في إشارة إلى الملك خان الذي تردد صدى أعماله في أغانٍ عبر وسط آسيا، وتلك التقنية استعملها في مشروع عمل عليه خلال 3 أعوام مضت، وهي تضم 108 مرايا مدورة تروي حكاية ملحمية لحياة لامدارك، ولتاريخ التبت، ولحياته في الغرب، وبدفع عمولةٍ من المقتني الهاوي ديفيد تيبليتزكي وُضِعت في صندوقين في مرسمه بانتظار فرصتها للعرض.
بعد نظرة سريعة على مشاريعه الحالية، أراني لامدارك صوراً عائلية، والده التبتي كان معلماً دينياً، وكان معترفاً به بأنه تقمص لاما في سن مبكرة، وفي طفولته تلقى تعليم الرهبان التقليدي، غير أن الغزو الصيني للتبت عام 1950 أجبره على الذهاب إلى المنفى في الهند، وقد ولد لامدارك في دارامسالا عام 1963، وقُبِل وعائلته كلاجئين في سويسرا حينما كان صغيراً جداً، وبعد عدة أعوام من الحياة في المكان المخصص للتبتيين وجد له والداه عائلة سويسرية ليعيش معها، ولتساعده في تعليمه، فأصبح يرى عائلته التبتية خلال عطلة نهاية الأسبوع بصورة منتظمة، كان والداه اللذان تبنياه يملكان متجراً، وعندهما 5 أطفال، فيما كان لامدارك أكبرهم سناً (أخوه السويسري داميان يدير صالة غريدر للفن المعاصر حيث يعرض لامدارك أيضاً).
لامدارك يتحدث عن عائلته السويسرية، وعن عائلته التبتية، وعلاقته الوثيقة معهما، والده مشهور في التبت لأنه اختار أن يعود إلى ديره في خامبا في الثمانينيات، وهو واحد من قلة من اللامات المنفيين الذين فعلوا ذلك، وقد أراني لامدارك صورة لوالده وهو يمتطي فرساً في جبال تغطيها الغيوم، مرتدياً زي الخامبا، وحصانه مزين بأكاليل من الأحمر والأصفر.
في ألبوم صور آخر أراني صوراً مركبة تعود إلى بدايات التسعينيات لمشاريعه البارسونز الأولى، كانت منحوتات تجريدية لأشكال معدنية محنية ومتموجة تتصل نهاياتها برباطات ملتفة من السيلوفان الخالص، وهناك دائماً مسحة من الشجاعة والدناءة في الأعمال التي يصنعها لامدارك، وهذا يصطدم مع جمالها الحسي وإغوائها التقليدي. (لا ينبغي أبداً أن يكون جميلا جداً) هذا ما قاله عن ذلك العرض المقتضب، وهو يسحب عن الجدار إلى الأسفل العمل البلاستيكي الوردي المنصهر المثبت بأعقاب السجائر، ونحن نتكلم لاحظت وجود صلاة مطبوعة على زجاجة ماء موضوعة على مكتبه، ورغم أنه يصلي عدة مرات في اليوم لكنه يقول إنه ليس دينياً: (أنا لا أفهم كلمات الصلاة، ولكن مثل الجميع، آمل أن أستيقظ يوماً ما وأنا أعرف ماذا تعني).
فيما بعد جلسنا لنتحدث في مقهى روت فابريك إلى جانب الماء، وسألت لامدارك فيما إذا كان لاستعماله الحرارة أو النار أية أهمية روحية، لم يجب بشكل مباشر، وعوضاً عن ذلك أخبرني قصة، ففي وقت مبكر من عشرينياته شُلّ الجانب الأيسر من وجهه وفمه بصورة غامضة، ولم يعرف الأطباء السويسريون سبب ذلك أبداً، وعلى أية حال أقنعته التبتية بزيارة طبيب تقليدي، وأحضروا للطبيب قطعة من الذهب والتي جعلها إبراً رفيعة، بعدئذ سخنها واستعملها في وخز أماكن محددة من وجه لامدارك، وبعد فترة ليست طويلة اختفى الشلل، ولم يعد أبداً، وشرح لامدارك أنه منذ ذلك الوقت بدأ يهتم أكثر بوطنه التبت، وبثقافة ذلك الوطن، فتلك الحاذثة كما قال: (أيقظت روحي التبتية)، ولم تغادره أبداً.