P
R
E
V
N
E
X
T

Illustration by Riccardo Fano.

عاصمة الأمم للتجارة

Japan
Also available in:  Chinese  English

عرفت طوكيو بتاريخها في الريادة، وفي الفن التجريبي المعاصر، ومرة كوجهة سوق فن عالمية، فكيف فقدت طوكيو مركزيتها في المنطقة؟

على مدى عقود كانت اليابان المصدر والمقصد الأول لإبداع الفن المعاصر في شرق آسيا، وفي الفترة الممتدة من أواسط الخمسينيات وحتى بداية السبعينيات في القرن الماضي كان هناك سباق مراحل لحركات الطليعة، من التجريب الحشوي لرابطة الفن القوطي، إلى الحوادث العبثية لمنظمي الدادائية الجديدة، ومركز الأحمر المركّز، تلتها التركيبات الخادعة لجماعة مونو – ها الصارمة – وكل واحدة منها إعادة تعريف للفن المعاصر على نحو كبير. وقد شهدت تلك الأعوام أيضاً تأسيس ما كان حينها أكبر البنية التحتية للفنون البصرية في آسيا، وهي تضم عشرات صالات العرض وبيوت المزادات والمتاحف التي وصل تأثيرها إلى المنطقة وما بعدها. 

مع ذلك؛ وعلى الرغم من الأسس القوية وتاريخ طوكيو الغني، إلا أنها منذ تسعينيات القرن الماضي خُسِفت من قِبل مدن مثل بكين وشنغهاي، والآن هونغ كونغ التي اشتهرت كوجهة بارزة للفن المعاصر في آسيا بمصطلحي السوق والإبداع الخلاق. 

إن الضجيج الدولي وحضور الصالات الغربية يتبعان الثروة الجديدة، مثل النمو الهائل للاقتصاد الصيني ومقرات الجامعين فيها، وعلى النقيض من ذلك؛ فقد عُومِل مشهد الفن الياباني كدرجة ثانية في المنطقة، ورغم تقدم اليابان في وقت سابق، لكن كيف وصلت إلى هذا الوضع؟   

بقي ذاك السؤال في ذهني على مدى العقد الماضي، وبصفتي الآن مدير “Blum & Poe” في طوكيو فقد أخذ شكلاً جديداً، ومباشرة خاصة. وفي أواخر 2012 أعلنت الصالة من مقرها في لوس أنجلوس أنها أنشأت مكتباً لها في طوكيو، تبعها افتتاح مقر صالة في أيلول 2014. وهذا ما جعل “Blum & Poe” أول صالة معاصرة غربية رائدة تفتح في اليابان، ومنذ إعلان الصالة عن نواياها سُئلت مرات لا تحصى (لماذا طوكيو وليس هونغ كونغ؟) ، ووجدت في هذا السؤال دليلاَ على الاتفاق الأعمى أحياناً حول هونغ كونغ، وأيضاً دليلاً على أن الخطاب العام حول الفن يركز بشكل مفرط على التجارة على حساب التاريخ والثقافة. ربما فَقَد المشهد الفني الياباني الذي كانت له الهيمنة مركزيته، لكن الأهمية التاريخية والثقافية باقية، ويجب عدم تجاهلها، فطوكيو تقدم منظوراً بديلاً مهماً حول كيف يمكن أن تتعايش الثقافة والتجارة في آسيا. 

إن الدفاع عن أهمية طوكيو اليوم ليس بأن نشير إلى أنها كانت دائماً – أو حالياً -  نموذجاً مثالياً، وبخصوص كل التجريب الإبداعي لفترة ما بعد الحرب وصعود البلاد كقوة اقتصادية عالمية؛ فإن بروز مشهد الفن الياباني كان قد تأكد بشكل جزئي من خلال حقيقة أن جيرانها كانوا مثقلين بأوضاع اقتصادية وسياسية واجتماعية أقل حظاً، ما أتاح لليابان للتألق أكثر بسبب تراجع جيرانها. حتى داخل اليابان وبينما كانت تحتفل بفترة عصر عصر التجريب الطليعي في الستينيات والسبعينيات، وغم أن هذا الحدث كبير إلا أن  صالات العرض – التي كانت غالباً صالات مستأجرة – كانت تفرض على الفنانين كلفة كبيرة ليعرضوا فيها. كانت السوق المعاصرة دائماً محدودة للغاية، رغم أن الصالات التي رعت مسيرة فنانيها كانت استثناءً بدلاً من مجرد توفير مكان لعروضهم. 

عوض ذلك نمت في اليابان بعد الحرب وبسرعة سوق أعمال الفن الأوروبي الحديث، فقد طور الجامعون اليابانيون والشركات التوق لشراء الفن الحديث وفن ما قبل الحرب الانطباعي، الأمر الذي شجع كريستيز على إقامة أول مزاد لها في طوكيو عام 1969، وأن تفتتح أول فرع آسيوي هناك عام 1972. وفي العام ذاته افتتحت ويدينشاتين صالة عرض طوكيو، وأحضرت عدداً من لوحات  مونيه ومانيه من الأعمال الوفيرة في نيويورك.

تجار آخرون من الخارج قاموا بأعمال هنا على أساس دائم من السبعينيات وخلال ثمانينيات القرن الماضي، ومع الوقت أيضاً افتتحت دار سوذبي للمزادات مركز طوكيو عام 1989، حيث كان النشاط الاقتصادي محموماً، فيما بعد بيعت لوحة فان كوخ (بورتريه د. غاشيت)/ 1890 لمشترٍ ياباني بسعر قياسي قدره 82.5 مليون دولار أمريكي في أيار/ مايو 1990، إلا أن الفقاعة الاقتصادية انفجرت وانزلق اليابان في الركود المالي، واختفت معها أسس جمع التحف الفنية الوليدة. 

نظراً للانهيار الحاد لسوق الفن اليابانية؛ فإننا لن نعرف أبداً فيما إذا ركز الجامعون على الواردات الأوروبية، أو إن كانوا قد تحولوا إلى دعم الفن الياباني المعاصر، ورغم افتتاح عشرات صالات العرض في طوكيو في التسعينيات، وانفتاح طوكيو على العالم؛ فقد واجهت عقبات في تنشيط سوق فن معاصر محلي. 

ليست هناك تقاليد لجمع الأعمال الفنية، ومنح هبات ممالية للمتاحف كما هو موجود في الغرب، ولا توجد أي حوافز ضريبية للقيام بذلك، والانهيار في قيمة المدخرات – ومن ضمنها الفن – جعل المشترين قلقين، وفي مثل ذلك المناخ كان صعباً على تجار الفن المعاصر بناء الثقة، خاصة أنهم وجدوا ذواتهم – حرفياً -  على الهامش، واليوم القليل حتى من صالات الدرجة الأولى تستطيع دفع الإيجارات في مركز المدينة، وهناك آثار لهذا الغياب العام لأسماء الشوارع والأرقام، والذب يجعل معرفة الأمكنة والوصول إليها أصعب وأكثر إرباكاً للجميع، إلا للزوار المنتظمين.    

Illustration by Riccardo Fano.

بينما كانت الصالات اليابانية والمعارض الفنية تواجه صعوبة في حضورها عالمياً خلال العقدين الماضيين؛ فقد تم التعويض عن ذلك – وإلى حد ما – بمشاريع مؤسساتية لدول المحيط الهادي، فبعض المعارض الأكثر تاثيراً التي نظمت بالتعاون بين اليابانيين ومتاحف الولايات المتحدة؛ شملت معرض (ضد الطبيعة: الفن الياباني في الثمانينيات)/ 1989؛ في متحف سان فرانسيسكو للفن الحديث، و(الروح البدائية: 10 نحاتين يابانيين معاصرين)/ 1990؛ في متحف هارا للفن المعاصر بطوكيو ومتحف منطقة لوس أنجلوس)، و(الفن الياباني بعد 1945: الصراخ ضد السماء)/ 1994؛ في متحف يوكوهاما للفنون وغوغنهايم في نيويورك، ومع عدم وجود مراكز لصالات العرض اليابانية في الخارج، ومع العدد القليل من الصالات الغربية التي تقدم الفنانين اليابانيين المعاصرين؛ فإن تلك المعارض حافظت على حضور السرد الياباني في الخارج، والتي بدورها اجتذبت المشترين الأجانب.   

مع ذلك تغيرت الأزمنة بطريقة أساسية في العقدين الأخيرين، أي منذ 1990، فقد بدأت عولمة عالم الفن خلال ذات الفترة التي ضلت فيها السياسة المالية والثقافية في اليابان طريقها، وكانت بطيئة جداً في اللحاق بالركب، في حين واصلت عدة متاحف افتتاحها في أنحاء البلاد، وبعد أعوام قليلة تقلصت طموحات تنظيم المعارض ونقصت ميزانيتها، لذلك توجهت المتاحف إلى خيارات أسهل وأرخص، مثل استضافة العروض المتنقلة  لمجموعات المتاحف الأجنبية التي تحمل أسماءً معروفة، مثل معرض الفن الرئيس في اليابان الذي أُسس عام 1992 كأول حدث رئيس آسيوي من نوعه، والمهرجان الياباني للفن المعاصر الذي لم يتمكن من الحفاظ على ذاته منفرداً في سوق الفن المعاصر، وعام 2005 أضيفت التحف، والحرف اليدوية، ونيهونغا، وبواكير الفن الحديث والمعاصر تحت سقف واحد في تجديدها كمعرض طوكيو للفنون، ولا تزال قلة من صالات العرض الإقليمية تشارك، وعدد قليل من الزوار الأجانب يحضرون، وقد أضاف تأسيس فوكوكا ترينالي ويوكوهاما ترينالي عام 2001 إلى الأحداث البارزة في الروزنامة اليابانية، لكنهما في السياق الإقليمي جاهدا ليبرزا بين البيناليات الأخرى التي تملك تاريخاً أطول، وميزانيات أكبر، مثل غونغجو، وبينالي آسيا والمحيط الهادي في بريسبان، وحتى الجهود الخاصة مثل متحف موري للفنون الذي افتتح عام 2003، فيما كان تأثير التركيبات الثابتة لبينيس آرت سايت ناؤشيما في بحر سيتو الداخلي محدوداً في إعادة التركيز الدولي على اليابان. 

إن الإمكانية الدائمة لطوكيو كي تكون مركزاً هاماً؛ تأتي من ذخيرتها الثقافية الغينة من الفن و العمارة، الأزياء والأعمال اليدوية والأدب والموسيقى والرقص وفنون الطبخ، والتي لا مثيل لها في آسيا، كما أن افتتاح صالة هنا يتطلب تقديراً للسياق المحلي لئلا تثار أي حساسيات ثقافية. ففي طوكيو معظم أخبار افتتاح “Blum & Poe”  المقرر عبّرت عن الإثارة والحماسة لهذا الحدث، لكن كان هناك تبرماً ملحوظاً من السخرية والشك، فقد أطلقت النكات الساخرة حول هذا الخبر وكأنه شبيه “السفن السوداء”، وذلك في إشارة إلى حادثة تعود إلى عام 1853، عندما جاءت بحرية الولايات المتحدة، وهددت بالهجوم على اليابان ما لم تنفتح على التجارة معها. وعلى الرغم من أنها نكات؛ إلا أن  الدعابة غالباً تعطي فكرة عن قلق حقيقي، حتى بعض الشخصيات البارزة في المشهد الفني في طوكيو أظهرت قلقاً عميقاً من أن تكون هذه الخطوة بداية لسيطرة الغرب لإفراغ اليابان من كبار الفنانين والمقتنين، ويبدو أن الناس هنا ينسون أن صالات عرض طوكيو المحلية ذاتها لها تعامل واسع مع زبائن ومشترين خارج اليابان، وأن الزبائن الأجانب يزورون اليابان ليس فقط من أجل الفن؛ بل لأن المشاهد الثقافية والتجارية ككل غنية ومختلفة جداً. 

تلك الشكوك الانطوائية هي أعراض قضية اجتماعية ثقافية أكبر من ذلك بكثير، وتنبع من الثقة المهزوزة في عصر ما بعد الفقاعة، إذ تعاني اليابان منذ عدة قرون من صراع حول علاقتها بالعالم الخارجي، فتارة تحتضن التأثير الخارجي، وتارة ترفضه، وعلى الرغم من الصورة النمطية بأن المجتمع الياباني مجتمع متآلف؛ إلا أن اليابان ثقافة هجينة للغاية مع تنوعها الداخلي الخاص، ومع قابلية التأثر بالاتجاهات الإقليمية والعالمية. ورغم ذلك يترنح اليابانيون بين استعداهم للاعتراف بذلك، وبين تفضيلهم البحث عما يعتبرونه فرادة بلدهم. 

إنها مسألة إيجاد سرد وطني..  

في عالم الفن الياباني الحالي؛ المصدر الأكثر بروزاً للسرد الثقافي والتجاري الآن ينشأ من الخارج، وهناك تزايد في عدد العلماء والقيمين غير اليابانيين المتخصصين بالفن الياباني المعاصر، غالباً يقيمون في شمال أمريكا ويأخذون زمام المبادرة. في الأعوام القليلة الماضية أثمر ذلك البحث بشكل عدة معارض مهمة لفن ما بعد الحرب في مؤسسات في الولايات المتحدة وأوروبا، أبرزها معرضان أقيما في نيويورك عام 2013 (طوكيو 1955/ 1970: الطليعيون الجدد) في موما، (غوتاي: ملعب رائع) في غوغنهايم، والمعرض الأخير الذي تم بالتعاون بين ألكسندرا مونرو ومينغ تيامبو كان واضحاً في هدفه “في احترام” السرد الذي يهيمن عليه الغربيون في الحداثة، بالكشف عن الروابط بين جماعة غوتاي، ونظرائهم الغربيين المختلفين. في حين أنه في الأعوام الخمسة الفائتة ارتفعت قيمة الفن الياباني – فترة ما بعد الحرب في السوق. وبالمجمل لا يمكن إنكار هذه الطفرة في الخارج فهي مكسب كبير لليابان، لكنها ألهمت مشاعر متناقضة في عالم الفن في طوكيو، الفخر والأسف من قبل البعض لأن هذا الاعتراف التاريخي والنجاح التجاري المصاحب له لا يثيران المزيد من النشاط من الداخل، ولأن المعارض المحلية من ذات الموضوع لم تلق ولو جزءاً بسيطاً من الاهتمام.  

وبينما وصلت العولمة في الفن إلى نقطةٍ حيث المشهد الفني الأمريكي – الأوروبي أكثر استعداداً من أي وقت مضى للتواصل مع تاريخ الفن في آسيا على المستوى العلمي، إلا أنه لا يزال هناك تناقض مؤسف بين النجاح التجاري في الخارج لعشرات الفنانين اليابانيين، والسوق المحلية التي ما تزال ضعيفة، لكن هناك مؤشرات إيجابية للتغيير. فمؤسسة الشؤون الثقافية بدأت ببرنامج منحة جديدة لدعم معارض الفن الياباني المعاصر في المهرجانات والمعارض في الخارج، مما يمكّن الصالات الصغيرة من المشاركة بمعارضها الفنية.

قريباً ستشهد طوكيو افتتاح صالة أمريكية هنا لفيرغوس مكافري المعروف بتمثله لعقارات رواد غوتاي، ومن غير المرجح أن فيضاً من الصالات الغربية سيفتتح هنا في أي وقت قريب، في حين أن تلك الصالات التي لها علاقة طويلة ومميزة مع الفن الياباني فقط يمكن أن تختار طوكيو مقراً لعملياتها، ولكن هذا الميل الضئيل على أي حال؛ يمثل تنويعاً مهماً في المشاهد الفنية في كل من طوكيو وآسيا ككل.

سيكون من المنافي للعقل أن نوحي إلى أن بعض المنح الحكومية وافتتاح صالتي عرض غربيتين في طوكيو تمثل عودة لليابان، وليس هناك إمكانية لليابان لاستعادة “تفوقها” بين نظيراتها في آسيا، لكن مع العولمة أصبحت سوق الفن مترادفة مع الحياة المترفة على نحو متزايد، وإذا كانت طوكيو تستطيع أن تفعل المزيد لتكريس جاذبيتها الدولية كوجهة راقية – ليس فقط للتجارة – لكن للثقافة، عندئذ سيكون لديها القدرة لأن تكون نموذجاً بديلاً لأسواق الفن التي برزت في هذا العقد، والتي تعتمد على ذبذبة الطفرة، بأن تبقى هادئة، صعبة المنال إلى حد ما، وأن تستحق الجهد لاكتشافها دائماً.